مكتبة الأخوة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
علم المسيح بما قضى به الفريسيون على ذلك الرجل الذي تمت فيه معجزة الشفاء, إذ "أخرجوه خارجاً" (9: 34), فرأى في علتهم هذه, مثالاً لما سيفعلوه مع غيره في المستقبل, ففتح فاه بكلمات تحمل عزاء "للمطرودين من أجل البر", مؤكداً لهم, أنه في الوقت الذي نوصد فيه أبواب المجمع اليهودي أمام وجوههم, ينفتح لهم باب السماء. وحين يخرجون من حظيرة اليهود الضيقة. يفتح لهم باب حظيرة أوسع, وأفضل. إن الروح الذي يسرى في هذا الفصل ، هو بعينه الذي أمليت به الرسالة إلى العبرانيين. ويلوح لنا إن مفتاح هذا الفصل. هو بعينه مفتاح تلك الرسالة - أعنى به كلمة : "أفضل". (يو10:10وعب 22:7). إذا كانت هذا الفصل، مستمدة روحها من موقف الفريسيين تجاه ذلك الرجل، فإن الأمثال المتضمنة فيه, ومستعارة غالباً من الوقت الخاص الذي كان المسيح موجوداً فيه مع تلاميذه, وبعض الذين رافقوه من الفريسيين، خارج أسوار أورشليم . كانت شمس ذلك النهار قد أذنت بالمغيب. بعد إن فرغ الفريسيون من محاكمة الأعمى الذي أبصر، ومن المحتمل جدا إن رعاة فلسطين، كانوا آنئذ راجعين بأغنامهم[1] من البادية إلى إحدى الحظائر، التي كانت عبارة عن سور من غير سقف، لتقضى فيها الأغنام فحمة الليل، في حراسة "بواب" خاص. فأمام حكم الفريسين على الرجل من جهة, وأمام هذا المشهد الطبيعي المألوف, من جهة أخرى فاه المسيح بهذا الإعلان, المطبوع بسلطانه المطلق المعهود, ملبسا إياه لباس المثل: "الحق. الحق. أقول لكم إن الذي لا يدخل من الباب...". في هذا الفصل, فاه المسيح - أولاً: بأمثال ثلاثة, خرج منها بالنتيجة: إنه "هو الراعي الصالح" (10: 1-18). ثانياً: بإعلان مجيد, قرر فيه أنه هو "يهوه" راعي إسرائيل في القديم(10:19-42 )0 أولاً: ثلاثة أمثال (10: 1-18). إن هذه الأمثال الثلاثة, تحمل معها رسالة مثلثة – توبيخ الفريسيين على تصرفهم العاتي مع ذاك الذي كان أعمى فأبصر, وتشجيع الرجل على النمو في الإيمان والثقة, ووصف إنجيل المسيح الشافي, والمحي, والمشبع. هذه الثلاثة الأمثال مرتبطة معاً ارتباطاً وثيقاً, لدرجة تكاد تحسب فيها مثلاً واحداً, لا ثلاثة أمثال : (أ) فالمثل الأول, عام. والمثلان – الثاني والثالث تطبيقان تفسيريان. في المثل الأول (10: 1-6), تكلم المسيح عن الباب الحقيقي, والراعي الحقيقي بوجه عام, فلم يفهموا قصده. وفي المثلين الأخيرين, خصص لنفسه, ما سبق فذكره في المثل الأول على وجه التعميم. (ب) ففي المثل الثاني (10: 7-10) خصص لنفسه العنصر الأول المتضمن فيه – "الباب", فقال "أنا هو الباب". (ج) وفي المثل الثالث (10: 11-18) خصص لذاته العنصر الثاني – الراعي. فقال: "أنا هو الراعي الصالح". ولقد رسم المسيح بهذه الأمثال الثلاثة, صورة كاملة, مثلثة في المثل 1«اَلْحَقَّ الْحَقَّ الأول, رسم صورة للأغنام في الصباح الباكر, حين يأتي الراعي إلى باب الحظيرة, وعن طريق البواب, يدخل الحظيرة, وينادي خرافه الخاصة بأسمائها, ويخرج أمامها, وهي تتبعه. (عدد 3و4). وفي المثل الثاني, رسم صورة للأغنام في الظهيرة, حين تدخل إلى الحظيرة, ثم تخرج لتجد مرعى (عدد 9). وفي المثل الثالث رسم صورة لها عند الأصيل, حين تتهيأ الشمس لتختبئ وراء أفق الغروب, فيخرج الذئب من مخبئه ليتصيد عشاءه. (أ) المثل الأول (10: 1- 6). يقدم لنا المثل صورة كاملة لما يعمله الراعي الحقيقي (10: 2- 4). ولكي يكشف الفادي, عن جمال صورة الراعي الحقيقي, أحاطها بإطار قاتم, به أبان قبح صورة الراعي الغير الأمين. فمهد لوصفه الراعي الحقيقي, وعقب عليه, بوصف بليغ للراعي الزائف (عدد 1 و 5) – وبضدها تتبين الأشياء. ثم اختتم البشير هذا المثل بكلمة عامة , وصف فيها مبلغ الجهالة التي استحكمت على عقول أولئك الذين كانوا يحسبون أنفسهم متفقهين (عدد 6). والظاهر من استهلال المسيح هذا المثل, واختتامه إياه بالكلام عن الراعي الزائف. أنه قصد أن يقدم للفريسيين أبلغ رد على ما عملوه بذلك الرجل الذي كان أعمى فأبصر (9: 34), إذ أراهم أصدق صورة لأنفسهم. ويكاد يكون من المحقق أن المسيح كان واضعاً نصب عينيه تلك الصورة المرسومة في زكريا ص 11. عدد 1. (1) الراعي الزائف: "الحق. الحق" – أطلب شرح 3:3 – أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. 2وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ "إن الذي لا يدخل إلى حظيرة الخراف بل يطلع من موضع آخر" – أي يتسلق الجدار أو يتسور السور – "فذاك السارق" – وهو من ينسل خفية (أنظر في الأصل 12: 6 و 1 تس 5: 2) "ولص" – وهو من يقتحم عنوة (18: 40 ومت 26: 55). "الحظيرة" هي نظام خارجي, وهي تشير بمعناها الأولى إلى النظام اليهودي, وترمز بمعناها النهائي إلى الكنيسة المسيحية. و "الباب" هو المسيح سواء أكان في العهد القديم أم في العهد الجديد, لأن الكتاب المقدس يحدثنا عن أزلية المسيح, وعن عمله الفدائي في العهد القديم, قبل التجسد. فكل أنبياء العهد القديم, وملوكه, وكهنته, إنما دخلوا إلى قدس وظيفتهم عن طريق هذا "الباب" الأوحد. و "السراق واللصوص" هم الفريسيون, الذين استلبوا خلسة حرية الشعب الساذج, واغتصبوا السلطة اغتصاباً. عدد 2. (2) الراعي الحقيقي (10: 2- 4). في هذه الأعداد, نرى وصفاً سباعياً لمؤهلات الراعي الحقيقي, وفيه ترتسم أمامنا صورة كاملة لما يعمله عندما يأتي في الصباح, ليخرج قطيعه إلى المراعي: (1) الراعي الحقيقي يدخل الحظيرة من الباب (عدد 2): "و أما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف". إن طلاب وظيفة الراعي, طمعاً في المجد العالمي الذي يحف بها, هم متشامخون بسبب شوكة الغرور المتمكنة من مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ. 3لِهَذَا يَفْتَحُ الْبَوَّابُ أعناقهم, فيتعذر عليهم أن ينحنوا ليدخلوا من الباب المنخفض الأعتاب, لذلك يلتجئون إلى التسور من موضع آخر. عجيب أن الإنسان يقبل عن طيب خاطر, ما تكلفه به إرادته النفسانية من المتاعب وتضحيات, ويتبرم من الهنات الهينات التي يتطلبها لله منه! "وأما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف". هذا مجاز مركب. فالمسيح "هو الراعي" الذي دخل إلى حظيرة الخراف, بتعيين من الآب (مز 2: 7 و 8). وهو أيضاً "الباب" الذي به دخل الأنبياء, والمرسلون, والملوك, إلى هيكل وظيفتهم الرعوية. كلمة "راعي " كما وردت في الأصل – في هذه الآية – تصف الراعي في صفاته ومؤهلاته, لا في شخصه. فهي صفة لا ذات. كما أن الحظيرة الواحدة كانت تضم أكثر من رعية واحدة (عدد 2 و 7), كذلك قد تكون الرعية الواحدة في أكثر من حظيرة واحدة (عدد 16). عدد 3. (ب) الراعي الحقيقي يعرفه البواب ويرحب به: "لهذا" – أي للراعي الحقيقي دون سواه – "يفتح البواب". قد تباينت أفكار المفسريين في تعيين المراد بـ "البوب". يقول لانجي: "يراد بـ "البواب", الروح القدس الذي يدعي الرعاة إلى وظيفة الرعاية". ويقول بنجال: "يراد به الله الآب الذي يجتذب الناس إليه بالمسيح" (6: 44). ويقول أغسطينوس: "إن البواب هو المسيح. فهو إذا الباب والبواب". ويعتقد وستكوت: "أن "البواب" لا يرمز إلى شخص معين , بل إلى عمل الروح وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ القدس العامل في الكنيسة بواسطة راعاتها". ويقول الذهبي الفم: "هو موسى " ويعتقد رايل: "أن كلمة : "بواب" لا ترمز إلى شخص معين , وإنما ذكرت تكملة للصورة المرسومة في المثل". ويعتقد جودي: "أن البواب هو يوحنا المعمدان" استنادا إلى ما قاله البشير عنه في صدر هذه البشارة (1: 6 و 7). (ج) الراعي الحقيقي يدخل الحظيرة وينادي, فتسمع جميع الخراف صوته: "والخراف تسمع صوته". يقول آدم سميث في كتابه "الجغرافية التاريخية للأرض المقدسة" إنه بينما كان جالساً ليستريح على مقربة من عين ماء , مستظلاً بفيء إحدى الأشجار, أقبل إلى العين أربعة رعاة, لكل منهم قطيع خاص. وإذا بقطعانهم قد اندفعت لترتوي من عين الماء, فاختلط حابلها بنابلها. وبعد أن استقى الرعاة للأغنام سوية وكان وقت القيلولة قد انقضى, أخذ العجب من هذا السائح كل مأخذ, حين رأى الرعاة, وقد انفرد كل منهم عن الآخر, ووقف في مكان ظاهر على رأس الوادي, وأطلق صوته الرنان بنداء خاص, وإذا بالأغنام قد افترق بعضها عن بعض, كما يفترق الليل عن النهار, وما هي إلا لحظة, حتى التأم معاً كل فريق منها مكوناً قطيعه الخاص, كما تلتئم الجداول الصغيرة لتصب في النهر. كلمة : "الخراف" في بدء هذا العدد تعني جميع خراف الحظيرة, بما فيها خراف الراعي. فالنداء مسموع من الجميع. وما أشبهه بالدعوة العامة التي يسمعها جميع الناس, لكن لا يميزها ويفهمها سوى المدعوين بأسمائهم دعوة خاصة. فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا. 4وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا (د) الراعي الحقيقي يدعو خرافه الخاصة بأسماء: "فيدعو خرافه الخاصة بأسماء". الدعوة هنا خاصة. موجهة على كل بمفرده كما لو يكن في كل القطيع إلاه, مقابل الدعوة العامة المنوه عنها سابقاً. هذا يذكرنا بقول "يهوه": "دعوتك باسمك, أنت لي" (إشعياء 43: 1, 45: 3). (هـ) الراعي الحقيقي يخرج رعيته: "ويخرجها". فهو يخرجها ليكون منها قطيعة. هذا "خروج " يعقبه "التكوين". ويجمل بنا أن نذكر أن كلمة "يخرج" الواردة هنا, هي بعينها التي وردت في 9: 34 و 22. أخرج الفريسيون الرجل, طاردين إياه, فأخرجه المسيح من الحظيرة اليهودية العتيقة إلى حرية مجد أولاد الله. إن عمل الفريسيين معه كان حكماً منهم عليه. لكن عمل المسيح معه, بركة إنجيلية مجيدة لا تمتاز عنها بركة "خروج " بني إسرائيل من مصر . أخرج الفريسيون الرجل بقوة سخطهم, والمسيح أخرجه إلى الرحب بسلطان محبته (2 كو 5: 14). فكأن اليهود صاروا خدام مقاصد المسيح وهم عميان!! (9: 40 و 41). في هذا تعزية كبرى للرجل. لأن الفريسيين لم يخرجوه إلا إلى المراعي الخضراء. عدد 4. (و) الراعي الحقيقي يقود خرافه إلى المراعي الخضر: "ومتى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها". في أثناء إخراجه إياها مت الحظيرة, يقف خلفها لكي لا تتخلف منها واحدة. ومتى أخرجها كلها يذهب أمامها وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. 5وَأَمَّا الْغَرِيبُ فلاَ تَتْبَعُهُ في بعض البلدان يسوق الرعاة أغنامهم أمامهم ولكن في فلسطين يتقدم الرعاة الخراف. وهذا أفضل لأنه يجعل الراعي زعيم رعيته, وهاديها, وحاميها, ومثلها الأعلى. إن في رضا المسيح بأن يكون راعياً لنا, اتضاعاً عظيماً. لأن الرعاية في حد ذاتها كانت خدمة حقيرة في نظر الممالك القديمة – وفي مقدمتها مصر . فضلاً عن ذلك فإن المسيح لم يكتف بأن يكون راعياً لنا, بل صار واحداً منا لكي يتقدمنا حقاً (رؤ 7:17). (ز) الراعي الحقيقي تعرفه رعيته فتقبل زعامته. "والخراف تتبعه لأنها تعرف صوته". فالمعرفة متبادلة بين الراعي والرعية – هو يعرفها بأسمائها وهي تعرفه بشخصه وذاته. وهو يتقدمها وهي تتبعه – ولو قادها إلى المخاطر. وأن مخاطر يتقدمها فيها راعيها خير من أمن تكون فيه وحيدة موحشة. "الإتباع" يفيد الاعتراف بالزعامة, والطاعة, والولاء. إنه إتباع عن علم لا عن جهل وغباوة: "لأنها تعرف صوته". ولئن جهلت الخراف أشياء كثيرة حتى صارت مضرب الأمثال في الجهالة, إلا أنها تعرف صوت راعيها. في هذا إشارة ضمنية إلى طاعة الرجل المولود أعمى, لدعوة المسيح (9: 35). عدد 5. (3) الراعي الغريب: "وأما الغريب فلا تتبعه فتهرب منه لأنها لا تعرف صوت الغرباء". "الغريب" هو غير السارق واللص (عدد 1). إن عمل السارق اللص, موجه إلى الأغنام وهي داخل الحظيرة, ولكن عمل الغريب موجه إلى الخراف وهي تتبع راعيها خارج الحظيرة. السارق يختلس بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ الْغُرَبَاءِ». 6هَذَا الْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا خفية, واللص يهاجم عنوة, والغريب يغوي ويغري بالوعود الجاذبة الخلابة. ولعل في قوله: "لا تتبعه بل تهرب منه" إشارة ضمنية إلى عدم انصياع الرجل لنصح الفريسيين حين قالوا له "أعط مجداً لله" (9: 24) على أن هذه الأوصاف الرباعية: "سارق", "لص" (عدد 1), "غريب " (عدد5), "أجير" (عدد 13), ليست سوى مظاهر متنوعة لتصرف الفريسيين ومن إليهم. عدد 6. جهالة العلماء: "هذا المثل قاله لهم يسوع, وأما هم فلم يفهموا.. " كان أمام المسيح غرض مزدوج في نطقه بالأمثال: لكي يبصر العميان, ولكي يعمى المبصرون (مت 13: 10 و 13). "وأما هم فلم يفهموا" على رغم كون يعقوب أبيهم قد تحدث عن الله كراع (تك 49), وداود ملكهم ترنم برعاية الرب له (مز 23), وإشعياء نبيهم تغنى برعاية الرب لشعبه (إش 40:11). (أنظر أيضاً حزقيال 34 وزكريا 11). إن السر في عدم فهمهم, كائن في الغشاوة التي أعمت بصائرهم, والكبرياء التي ملكت قلوبهم. فلم يخطر لبالهم أن أمثالهم يكونون "سراقاً ولصوصا". وكم للكبرياء من ضحايا, هؤلاء هم الذين لم يقبلوا أن يقال عنهم إنهم عميان (9: 40)!! (ب) المثل الثاني – مثل باب الخراف (10: 7 - 10). في هذا المثل خصص المسيح لنفسه أحد العناصر المكون منها المثل الأول (10: 2), فقال: "أنا هو الباب" مقرراً بهذا أنه هو الواسطة الوحيدة للدخول إلى الكنيسة مَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ. 7فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ في كل العصور. به يدخل المؤمنون, وبه يستمتعون بكامل حقوقهم المقدمة لهم من الله. في هذا المثل تقدم كلام المسيح, مرحلة أخرى عن كلامه في المثل الأول. فما قاله في المثل الأول بوجه التعميم, فاه به هنا على وجه التخصيص, فقال: "أنا هو الباب". المثل الأول يقدم لنا مشهداً صباحياً حين يأتي الراعي إلى الحظيرة ويكون قطيعه مخرجاً إياه إلى المراعي. والمثل الثاني يصور لنا مشهداً نهارياً حين تكون الرعية قد خرجت من الحظيرة العامة, لتسرح وتمرح في المراعي, حيث يقام لها عادة سياج مفتوح بابه باستمرار, لتحتمي فيه عند قيلولة النهار. فإن أرادت حمى لجأت إليه, وإن طلبت مرعى, خرجت منه إلى المراعي, وهي متمتعة بكمال الحرية التي يتمتع بها ابن البيت. عدد 7. باب الخراف: "فقال لهم يسوع أيضاً" – مفسراً لهم بعض ما أشكل عليهم فهمه في المثل الأول – "الحق الحق لقول لكم" – بذات التوكيد الذي أورد به المثل الأول – "إني أنا باب الخراف". في الغالب جداً, مضى بعض الوقت بين المثل الأول وبين هذا المثل. ومن المحقق أن في هذا المثل الثاني انتقالا في الفكر عما في المثل السابق. في المثل الأول تكلم المسيح عن "باب الحظيرة", وهنا قال عن نفسه إنه "باب الخراف". في الكلام عن "باب الحظيرة" المعنى منصرف إلى النظام الخارجي المتعلق بالرعية. وفي الكلام عن "باب الخراف" المعنى منصب إلى الحياة الخلاصية الروحية الخاصة بالرعية. ويقول جودي إن "باب الحظيرة" يرمز إلى نظام العهد أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ. 8جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ القديم. ولكن "باب الخراف" يشير إلى الخلاص التام المقدم في الإنجيل. وإن "باب الخراف" هو الباب الذي تدخل إليه الخراف, للخلاص والحماية, ومنه تخرج للرعاية وللرياضة (عدد 9). ويظن ماير وآخرون أن "باب الخراف" هو الباب الذي منه يدخل الرعاة إلى الخراف. على انه إذا كان هذا المعنى الأخير متضمناً في العبارة, فإنما يكون من باب التطبيق. "أنا باب الخراف" – هذا هو الإعلان الثالث الذي فاه به المسيح في هذه البشارة (أطلب 6: 35 و 8: 12). عدد 8. صفات من يدعون أنهم باب الخراف: "جميع الذين أتوا قبلي" – زاعمين أنهم باب الخراف – "هم سراق ولصوص" – "ولكن الخراف" – أعني بها خرافي الخاصة التي تعرف صوتي. هذا لا خوف عليها منهم لأنها عرفت أيضاً صوتهم – "ولم تسمع لهم". إن الكلمة الأصلية المترجمة: "قبلي", تعني إما: (أ) قبلي في الزمان, أو (ب) قبلي في المكان, أو (ج) قبلي قي المقام, أو (د) قبلي من حيث الحلول محلي. وهي في هذا المجال تحمل على المعنين الآخرين. هؤلاء هم الكتبة والفريسيين ومن إليهم, من معاصري المسيح. ما أعظم الفرق بين ادعاآتهم وبين شهادة يوحنا المعمدان: "هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي". ويهمنا أن نلاحظ أن المسيح لم يصفهم كأنهم عاشوا في زمن مضى. بل اعتبروا كونهم معاصرين وَلُصُوصٌ وَلَكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. 9أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ له. فلم يقل "كانوا سراقاً" بل "هم" – في الحال – "سراق ولصوص". "ولكن الخراف لم تسمع لهم" – إن الذين كانوا ينتظرون تعزية إسرائيل لم تشبعهم الوعود الخلابة, ولم تخدعهم الكلمات المعسولة, التي قصد بها أضداد المسيح أن يصرفوهم عن رجال إسرائيل. وفي الحقيقة لم يقم إنجيل للمساكين إلا بمجيء المسيح (لو 6: 20 و مت 11: 3). إن مثل الكرامين المذكور في سائر البشائر يعتبر خير تفسير لهذا الكلام. عدد 9. مزايا الداخل من هذا الباب: في هذا العدد, عاد المسيح فقرر لهم مؤكداً, ما سبق فقاله في العدد السابع, ثم بين لهم المزايا الكاملة التي يتمتع بها من يدخل من هذا الباب. هذه مزايا اختبارية تمنح لكل من يتحد اتحاداً روحياً وحيوياً بالمسيح, ويتخذه لذاته فادياً وشفيعاً. "فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله". وهي أيضاً مزايا مثلثة – والثلاثة رمز الكمال. فهي (أ) خلاص تام: "فيخلص". (ب) حرية[2]: "ويدخل ويخرج". وهذا تعبير يطلق على من صار متمتعاً بحرية وحقوق أبناء البيت, الذين يدخلون ويخرجون من غير حرج ولا استئذان (تث 28: 6 و إرميا 37: 4 و أعمال 1: 21). (ج) شبع "ويجد مرعى". إن أبناء وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى. 10اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ العالم لا يعرفون الشبع. لأن كلمة "شبع" محذوفة من قاموسهم. ولكن من يعرف الله, ويصير من أبناءه, يشهد لصدق القول: "أمامك شبع سرور". يعتقد مايروستراخان وغيرهما, أن "الداخلين" من هذا الباب هم الرعاة الذين يدخلون إلى أقداس الشركة مع الله, فيتمتعون بالخلاص التام لأنفسهم (1 تى 4: 16), ويدخلون ويخرجون ليجدوا مرعى لرعيتهم. ولا يبعد أن يكون هذا المعنى متضمناً في الآية من قبيل التطبيق. عدد 10. (1) غرض السارق من مجيئه (10: 10 أ ). "السارق لا يأتي ليسرق ويذبح ويهلك". يلاحظ بنوع خاص من هذا المثل, أن كل عدد فيه متخالف في معناه مع سابقه, ومتحالف مع سابق سابقه. هذا هو التوازن المتباين: فعدد 10 متخالف في معناه مع عدد 9, ومتحالف مع عدد 8. وكذلك عدد 9 متخالف مع عدد 8, ومتحالف مع عدد 7. ومن محاسن هذا المثل أنه يبتدىء بالحسن وينتهي "بالأفضل". من كلام المسيح عن الشبع, الذي تجده الرعية في راعيها الحقيقي, انتقل إلى الكلام عن الهلاك الذي تمنى به الرعية, من السارق الذي لا يأتي إلا "ليسرق ويذبح ويهلك". هذه الكلمات الثلاث: "يسرق, يذبح, يهلك" سائرة في نظام تدرجي فالقتل أشد من السرقة, والهلاك نتيجة لكليهما وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. 11أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ (2) غرض المسيح من مجيئه (10: 10 ب). "وأما أنا فقد أتيت". إن العطايا الحقيقية, مشتقة من قلب معطيها, فهي عنوان حياته, ورمز صفاته: فالسارق, لا يمكنه إلا أن يسرق, ويذبح, ويهلك – لأن هذه من طبعه. أما المسيح رب الحياة, فلا يمكنه غلا لان يكون واهب الحياة الفضلى: "لتكون لهم الحياة وليكون لهم أفضل". والمراد بقوله: "أفضل" إن الرعية تجد مراعي أوفر مما تستطيع أن تأكل. فبعد أن تأخذ كفايتها من الحياة وتشبع, تفضل عنها الحياة وتزيد "كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز" (لوقا 15: 17). "ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة " (يو 1: 16). فالمسيح جاء لكي ما تكون الحياة, وتكون لنا أفضل في كميتها, وقياسها, ونوعها. السارق لا يأتي إلا ليستلب الحياة, وينتقص منها, أما المسيح فإنما أتى لكي يفيضها فتغمرنا. (ج) المثل الثالث – مثل الرعي الصالح (10: 11-18). في هذا المثل, خصص المسيح لنفسه, المتضمن في المثل الأول – الراعي. إن المثل الأول, تجمله أشعة الصباح البهية. والمثل الثاني يظلله فيء الظهيرة, والمثل الثالث مصطبغ بأشعة الغروب الذهبية, حين تميل الشمس لتختبىء وراء الأفق, فتقفل الأغنام راجعة إلى الحظيرة, وتتعرض لهجمات الذئاب التي تكون كامنة في مخابئها, متحينة الفرصة لتفتك بها. في هذا المثل الثالث بلغ المعنى ذراه, فقد قال فيه المسيح عن نفسه إنه "الراعي الصالح". وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ فالمقابلة فيه, ليست بين الراعي واللص كما في بدء المثل الأول وفي المثل الثاني, بل بين الراعي الصالح والراعي المأجور. فالمسيح ليس مجرد راعي , بل هو الراعي الصالح. كلمة "صالح" كما وردت في الأصل معناها "الجميل, والبديع, والفاضل, والخير". لأن اليونان, الذين كتب الإنجيل بلغتهم, كانوا يرون "الخير الأعظم" في الجمال. ومن مميزات هذا الراعي الصالح: (أ) تضحية نفسه عن الرعية (10: 11-13). (ب) المعرفة المتبادلة بينه وبين الرعية (10: 14-16). (ج) تضحية اختيارية لا اضطرارية (10: 17 و 18). عدد 11. "الميزة الأولى للراعي الصالح: تضحية نفسه عن الخراف" (10: 11-13). "والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف". هذا هو العنصر الفدائي في مزايا الراعي الصالح. الكلمة المترجمة: "يبذل", وردت في العهد الجديد ضمن كتابات يوحنا البشير دون سواه (10: 15 و 17 و 13: 37 و 38 و 15: 13 و 1 يو 3: 16). وفي كل هذه المواضيع ترجمت إلى "يضع". ويقول بعض الثقاة إن هذه الكلمة كانت تستعمل "لتقديم الفدية" التي يشترى شيء ثمين (قابل هذا بما جاء في مت20: 28). ومعناها الحرفي: "خلع"[3] (أنظر يوحنا 13: 4) – أي أن الراعي الصالح "يخلع" حياته على رعيته. ومن المحتمل جداً أنها تحمل بين عَنِ الْخِرَافِ. 12وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَجِيرٌ وَلَيْسَ رَاعِياً الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ فَيَخْطَفُ دفتيها إشارة ضمنية إلى ما جاء في إش 53:10 "جعل نفسه ذبيحة إثم". أما كلمة : "عن", فمعناها: "من أجل" – هذا تعبير آخر لكفارة الصليب. هذه هي التضحية العظمى, التي تنطوي على: (1) حب الراعي الصالح لرعيته (2) شجاعته التي يستخف بالمخاطر. (3) حرصه على ألا يتبدد من الرعية أحد. "أنا هو الراعي الصالح" – هذا هو الإعلان الرابع الذي فاه به المسيح عن نفسه في هذه البشارة (قابل 6:/ 35 و 8: 12 و 10: 7). عدد 12 و 13. الأجير. مقابل تضحية الراعي الصالح لرعيته, وصف المسيح أنانية الأجير. إذ كانت تضحية الراعي تنطوي على حبه للرعية, وشجاعته, وحرصه عليها, فان أنانية الأجير, تنطوي على: (1) حب الأجير لذاته, فهو يقدم رعيته على بح مصلحته الذاتية: "وأما الذي هو أجير وليس راعياً" – على الإطلاق: فلا هو بالراعي الصالح ولا الطالح, بل مأجور من الراعي لحراسة الأغنام – "الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً, ويترك الخراف". المقابلة هنا ليست بين الراعي الصالح وبين السارق واللص كما في عددي 8 و 10, بل بين الراعي الصالح وبين الأجير. ليس من الضروري أن نقرر أن المسيح قصد بـ "الأجير" شخصاً خاصا أو طبقة معينة, فربما ذكر الأجير والذئب كعنصرين مكملين للمثل. على أننا إذا حسبنا "السراق واللصوص", ممثلين للفريسيين الذين كانوا متقلدين السلطة الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. 13وَﭐلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ وَلاَ يُبَالِي بِالْخِرَافِ. التنفيذية في الأمة اليهودية, فإن "الأجير", يمثل الكهنة واللاويين الذين استودعوا نفوس الشعب باعتبارها مرشديهم الروحيين, وهم الطبقة المأجورة في النظام اليهودي. إن من خصائص "السارق واللص", السلب والنهب كذلك كان الفريسيون. ومن خصائص "الأجير", الجبن والهرب – كذلك كان الكهنة (يوحنا 12: 42). الفريق الأول يمثل العنصر المعادي للمسيح: "فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله". والفريق الثاني يمثل العنصر الذي يميل إلى الإيمان بالمسيح, لكنه يخشى بطش المشاغبين: "آخرون قالوا كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات" (9: 16). "الذئب", يرمز إلى الشيطان, أو إلى أي قوة يتخذها الشيطان آلة في يده لاختطاف رعية المسيح. (2) جبن الأجير: "ويهرب" إن لهروبه نتيجتين – إحداهما منصبة على الرعية أفراداً: "يخطف الذئب الخراف". فالذئب لا يخطف إلا فردا فردا. والثانية واقعة على الرعية كالجماعة, وهي مترتبة على النتيجة الأولى. لأن الرعية بعد أن ترى الذئب يخطف منها واحدا فواحدا. لا تستطيع أن تقف ضد هجماته "فتتبدد". عدد (13). عدم مبالاة الأجير: "... ولا يبالي بالخراف". في هذا العدد كشف المسيح عن علة هروب الأجير – عدم المبالاة. فالهرب عمل خارجي. وعدم المبالاة إحساس داخلي في القلب. هذه خطية سلبية – فهي خطايا الترك – لكنها من أشنع الخطايا (يعقوب 4: 16). 14أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي 15كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. عدد 14. الميزة الثانية للراعي الصالح – المعرفة المتبادلة بينه وبين الرعية: "أما أن" – على خلاف الأجير – "فإني الراعي الصالح وأعرف خاصتي" – ليست هذه مجرد معرفة سطحية تميز الرعية من شكلها الخارجي, لكنها معرفة عميقة داخلية. هي معرفة العين المحبة الفاحصة التي تصل إلى أعماق قلوب الرعية فتعرفها فردا فردا. وتعرف حالة كل فرد معرفة دقيقة. تحيط بكل صغيرة وكبيرة في حياته. كلمة "خاصته" معناها "الذين هم له" ويقابلها في عدد 12 "الذي ليست الخراف له". هذا هو الجانب الأول والأساسي لهذه المعرفة – إن المسيح يعرف خاصته. أما جانبها الثاني الذي ينبني على الجانب الأول ويشتق منه فهو – إن خاصة المسيح تعرف: "وخاصتي تعرفني". هو يعرف "خاصته" بأسمائها وبكل ما يحيط بها. و "خاصته" تعرفه بصوته وشخصه. مقياس للمعرفة المتبادلة ونبعها (10: 15 أ ). "كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب". أن مقياس المعرفة المتبادلة بين المسيح ورعيته هي المعرفة المتبادلة بين المسيح والآب. فهي معرفة مؤسسة على وحدة الطبيعة والحب الصادق, والتفاهم المتبادل. يا عجبي من هذا الحب المجيد الذي به رفعنا المسيح إلى نفسه. فلقد تنازل ليرفعنا إليه. وشاركنا في لحمنا ودمنا ليجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية - هنا يطرح المفسر قلمه جانبا ليجلس مبهوتاً من فرط هذه الأمجاد التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ. وسيلة المعرفة المتبادلة وغايتها (10: 15 ب). "وأنا أضع نفسي عن الخراف". هذه العبارة سببية للجملة التي قبلها وتابعة لها. لأن وحدة الطبيعة التي بين المسيح ورعيته, لم تتخذ لها حيزا في الظهور إلا بالصليب. كما أن معرفة المسيح بحقيقة حالات الرعية وحاجاتها, لا يمكن أن تنتهي بالصليب. ما أشبه قول المسيح: "وأنا أضع نفسي عن الخراف" بقرار نشيد محبب ردده الفادي وأعاده ثلاثة مرات (عدد 11 و 15 و 18). فإذا كان مخلصنا قد وجد لذة في أن يلهج بموته عنا – والموت كأس مريرة. أفلا نجد نحن لذة في أن نلهج بالحياة التي صارت لنا بهذا الموت – والحياة حلوة لذيذة؟! ليست هذه أول مرة نعثر فيها عن مثل هذا القرار. فقد سبق الفادي فردد قرارا آخر: "وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (6: 39 و 40 و 44 و 54). في هذا المثل رفع المسيح حب الراعي لرعيته إلي مستوى يعلو عما جاء في مثل الخروف الضال, الذي في بشارة لوقا . هناك رسم المسيح صورة الراعي وقد وضع عنقه تحت الخروف. وهنا أرانا الراعي الصالح, وقد وضع نفسه من أجل الحمل. إن موضوع المثل في لوقا هو الراعي العادي: "أي إنسان منكم" ولكن موضوع المثل في يوحنا هو الراعي الصالح متفرداً في جماله وجلاله. كلمة : "الخراف" تعني جميع المؤمنين. إن كفارة المسيح "عامة " من حيث كفايتها, "خاصة" من حيث فاعليتها. فهي "كافية" لجميع الناس, "شافية" لجميع المؤمنين (1 يو 2: 2). على أن المؤمنين بالمسيح لا تحدهم طائفة ولا تحصرهم أنظمة منظورة بل هم في كل قبيلة وأمة. 16وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ عدد 16. رعية واحدة في حظائر متعددة: "ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة... ". يخيل إلينا أن المسيح نطق بالكلمات المدونة في العدد السابق, وهو مثبت نظره في الصليب الذي كان منه قاب قوسين أو أدنى. وما هي إلى هنيها حتى رفع عينيه التين تخترقان حجب المستقبل, فرأى جمهور المؤمنين به مقبلاً إليه من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة. فأراد أن يرفع أنظار سامعيه على ما وراء أفق الحظيرة اليهودية الضيقة: "ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة". في الأعداد 1 و 2 و 3 حدثنا المسيح عن حظيرة واحد تضم رعايا كثيرة. وفي هذا العدد (عدد 16) يكلمنا عن رعية واحدة موجودة في حظائر كثيرة. كلمة "هذه الحظيرة" تعني النظام اليهودي. و "الخراف الأخر" تعني أتباع المسيح من الأمم. إذا كان النظام اليهودي أضيق من أن يضم كل أتباع المسيح, فإن أي كنيسة نظامية مهما علا شأنها وكبر, لن تستطيع أن تضمن بين جدرانها كل المؤمنين بالمسيح. فالكنيسة الغير منظورة أوسع مدى من أية كنيسة منظورة. إن أتباع المسيح لا يمكن أن تحصرهم جدران معينة. وإنما تحصرهم محبة المسيح. فعلى قدر ما ضيق المسيح مبادىء ملكوته, بهذا القدر عينه وسع أفق حدوده. فإلى الأخ المسلم تمد المسيحية يدها وتفتح قلبها مرحبة به ليأخذ مكانه في صدر المسيح. وإلى كل يهودي تقدم الدعوة ليأخذ مقامه في الزيتونة الأصيلة. إن شخصية المسيح الغنية هي المغناطيس الأكبر الذي يجتذب أبناء الله المتفرقين ويضمهم إلى صعيد واحد (11: 52). هذه رسالة المسيح التي جاء أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. 17لِهَذَا يُحِبُّنِي ليتممها فهو عالم أنه تحت إلزام أدبي قبله على نفسه طائعاً مختاراً. لذلك قال: "ينبغي أن آتي بتلك أيضاً". ما دامت الرعية له فهي ملكه لذلك يجب أن تكون عنده "فتسمع صوتي" – (أعمال 28: 28) – "وتكون رعية واحدة وراع واحد" – (أفسس 2: 14-17). إن كل مؤمن بالمسيح واقع تحت هذا الالتزام عينه: "صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوماً". ويضاف إلى هذا الالتزام الاختياري التزام آخر إجباري: "ويل لي إن كنت لا أبشر". لأن كل مسيحي واقع تحت دين: "إني مديون لليونانيين والبرابرة. للحكماء والجهلاء" (روميا 14: 1). عدد 17. الميزة الثالثة للراعي الصالح – ضحيته الاختيارية (10: 17 و 18). لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي". لاحظ المسيح أنت الصورة المرسومة في الأعداد السابقة (14 و 15 و 6), لا تمكنه تماماً لأن الذئب لا يستطيع أن يفترس الراعي المضحي بنفسه عن الخراف, إلا إذا استضعف الراعي أمامه فمع أن الراعي متصف بالشجاعة والتضحية, إلا أنه محاط بالضعف الذي لولاه لما تمكن الذئب منه. وإن هذا الضعف هو وجه الخلاف بين المسيح وبين أي راع. فالمسيح لم يسلم نفسه للموت, عن ضعف, بل عن سلطان إرادته الحرة المختارة. فبإرادته الحرة, أسلم نفسه للموت. وبإرادته الحرة كسر شوكة الموت وقام: "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً". الراعي العادي يضحي بنفسه, ولا قدر له على ردها. لكن المسيح يضع نفسه ليأخذها أيضاً.. الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي ما أشبه هذين العددين بجناحين, بهما ترتقي النفس وتصعد داخلة إلى ما وراء الحجاب, في محضر مشورة الله, قبل كون العالم, وقت تدبير الفداء, حين قبل المسيح على نفسه طائعاً مختاراً, باعتبار كونه "الابن", أن يجيء إلى أرضنا ليتمم مشيئة الآب, فيجعل إرادة الآب طعامه الذي به يقتات, ويتلذذ, ويشبع, ولما جاء ملء الزمان مات, وفي الوقت المعين قام. في هذين العددين يصف المسيح ضحيته الاختيارية, وصفا رباعياً: (1) في صلتها بمحبة الآب له: "لهذا يحبني الآب" (عدد 17 أ). (2) في حقيقتها الذاتية: "أضع نفسي لآخذها أيضاً" (عدد 17 ب). (3) في صلتها بقوة إرادته: "ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا في ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" (عدد 18 أ). (4) في صلتها بوظيفته الفدائية: "هذه الوصية قبلتها من أبي" (عدد 18 ب). (1) تضحية المسيح في صلتها بمحبة الآب له: "لهذا يحبني الآب". إن تضحية المسيح نفسه اختيارياً, هي علة محبة الآب له. إن الأب يحب الابن منذ الأزل. لكن هذا التعبير مستعار من لغة البشر, ليترجم لنا عن الصلة المتبادلة بين الآب والابن في تدبير الفادي. فالمسيح كابن مطيع للآب. والآب يحب الابن. على أن هذه الصلة مبينة على الرضا المتبادل. فالابن راض بمشيئة الآب إلى درجة السرور بها: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" إذا كان الآب قد سر بابنه الحبيب في شخصه, وكلامه,وأعماله لِآخُذَهَا أَيْضاً. وطاعته, فإن طاعة الابن للآب بلغت ذروتها,ز في الصليب: "وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله أيضاً" (فيلبى 2: 9 و 10). لهذا السبب عينه, يعتبر بولس الرسول أن كفارة المسيح "نسيم رائحة طيبة " لدى الله الآب (أفسس 5: 2). (2) تضحية المسيح في حقيقتها الذاتية: "لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً". وفي هذا أيضاً يمتاز المسيح عن الراعي البشري. لأن الراعي البشري, متى بذل نفسه عن الخراف, لا يبقى في مقدوره أن يستردها بعد. لأنها تخرج من حوذته عن بذله إياها. أما المسيح, ففي سلطانه أن يضع نفسه بموته الاختياري, وفي سلطانه أيضاً أن يأخذها بقيامته المقتدرة. فلقد مات بقوة إرادته, وقام بقوة هذه الإرادة عينها. إن قيامته غير منفصلة عن صليبه. لأنه وضع نفسه وهو متسلح بنية أخذها. وفي كل البشائر لا تجد المسيح يتحدث عن الصليب إلا ويردف حديث صليب بنبوة القيامة. هذا دليل قاطع على أن المسيح كان مقدراً قيمة التضحية العظمى التي بذلها لأجلنا. إذ لم يبذل نفسه كرهاً منه لها, كمن يضع شيئاً في نية التخلص منه, بل وضعها في نيته أن يستردها, بعد قيامته وصعوده, ليتمم ما أكمله على الصليب, إلا أن يأتي بآخر حمل من تلك الخراف الأخر التي ليست من الحظيرة اليهودية, فيعود متحداً بالآب قبل التجسد. يقول جودي: لو اكتف المسيح بتقديمه نفسه على الصليب بغير قيامة , لأعتبر موته انسحاباً للمحضر الآب.. وبذبيحة ناقصة كهذه, لا يرضى الآب. 18لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. عدد 18. (3) ضحية المسيح في صلتها بمحض سلطانها "ليس أحد.. بل أضعها أنا... لي سلطان ...". في هذا العدد يصف المسيح موته الاختياري: (1) وصفاً سلبياً: "ليس أحد يأخذها مني". فلا اليهود, ولا بيلاطس , ولا هيرودس, ولا يهوذا هم الذين أسلموه. إنما المسيح هو الذي أسلم نفسه لأنه أحب, وأحب لأنه أراد (14: 31). لم تكن المسامير بقادرة أن تثبت يديه ورجليه في الصليب. لكن حبه للبشرية, ورضاه بمشيئة الآب, هما اللذان ثبتا يديه ورجليه بخشبة اللعنة, إن كلمة : "أحد" تعني كل هؤلاء جميعاً, وتمتد إلى كل قوة أرضية, وهي أيضاً تعني "الآب". فالمسيح لم يشرب من يد الآب كأس الصلب المريرة لأنها فرضت عليه فرضاً, بل شربها لأنه قبلها راضياً مسروراً: "الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها"؟. (ب) وصفاً ايجابيا: "بل أضعها أنا من ذاتي", هذا يذكرنا يقوله لبيلاطس(19: 11). (ج) وصفاً يقينياً: "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها" هذه نغمة الواثق – بدليل تكرار كلمتي "لي سلطان ". لم يكن الموت "فرض عين " على المسيح, ولا فرض كفاية, لأن الموت قصاص الخطية. والمسيح خلو من الخطية بشهادة الأعداء والأصدقاء. إن هذه الكلمات تقرر لنا أيضاً بطريقة حاسمة, أن قيامة المسيح كانت من عمله الخاص وبقوته الذاتية. لأن نفسه التي "خلعها" بالموت لأجل هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي». 19فَحَدَثَ أَيْضاً انْشِقَاقٌ بَيْنَ الْيَهُودِ بِسَبَبِ هَذَا الْكلاَمِ. 20فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: البشرية كانت تحت إذنه حتى استردها. هنا يلتقي عمل الآب بعمل الابن, لأن القيامة من عمل الآب أيضا. (4) ضحية المسيح في صلتها بوظيفته الفدائية: "هذه الوصية" - - أي مأمورية موت المسيح وقيامته اختيارياً – "قبلتها من أبي" – هذه الكلمات تعود بنا إلى حيث ابتدأنا في غرة العدد السابق: "لهذا يحبني الآب". هذه مهمة عجيبة بل هي مهمة الأجيال, بل مهمة الأزل والأبد, فليس الصليب إذا وليد المصادفات, ولا هو ثمرة مؤامرات الكتبة والفريسيين, ولا هو غضبة الأرض الظالمة, بل هو تدبير أزلي محكم في حضرة الله, والمسيح, تواضعاً منه, يسمى هذا التدبير "وصية" بالنسبة له "كابن" لكنه قام به لأنه "قبله". عدد 19. نتيجة وقع كلام المسيح على سامعيه (10: 19-21). "فحدث أيضاً" – كما حدث سابقاً (7: 12 و 30 و 31 و 40 و 41 و 9: 8 و 9 و 16). كلمة "أيضا" تفيد عملية متكررة. في هذا تم قول المسيح: "ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً", وتمت كلمات سمعان عنه: "وضع لسقوط وقيام كثيرين". وكما أن النور يشق غلاف الليل, فيفصل بين الخيط الأسود والخيط البيض كذلك كان كلام المسيح "نور العالم". فحدث بسببه "انشقاق" بين اليهود. عدد 20. هذيان أبناء الليل "فقال كثيرون منهم" – وللأسف الأشواك أكثر من الورود. والرخم أكثر من الأسود – "به شيطان وهو يهذى". «بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟» 21آخَرُونَ قَالُوا: «لَيْسَ هَذَا كلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ هذا ضرب من هذيانهم حين رأوا السلطة تفر منهم هاربة ولاجئة إليه. وأكبر دليل على هذيانهم, خوفهم على الناس منه. وهم يعلمون أنه لم يعمل ذنباً. بل أن كل أعماله وأقواله معجزات, وكل معجزاته حسنات. فقالوا: "لماذا تسمعون له؟" فإذا كان كلامه شراً, فليميزه الناس, وإن خيراً فمم يخافون؟ كما أن المسافر في قطار سريع, يتخيل أعمدة التلفون متحركة كذلك عبر هؤلاء القوم عن هذيانهم بقولهم عن قدوس الله: "به شيطان " وعن رب الحكمة بقولهم: "يهذى". هذه خطية التجديف على الروح القدس. عدد 21. منطق أبناء النور "آخرون قالوا" – عن حكمة ففاهوا بحجتين منطقيتين – أولاهما مستمدة من طبيعة كلامه: "ليس هذا كلام من به شيطان " – والثانية مبنية على طبيعة أعماله: "ألعل شيطان يقدر أن يفتح أعين العميان؟" إن الشيطان قاتل, فلن يجد الإحسان إلى قلبه باباً. هؤلاء هم طليعة رعية المسيح الحقيقية, وقد خرجوا من الحظيرة اليهودية الضيقة إلى حرية مجد أولاد الله. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن في تشبيه المؤمنين بالخراف أوجه شبه كثيرة, نذكر منها بعضها: (أ) عدم الأذى. (ب) الوداعة. (ج) الضعف. (د)الاحتياج إلى راع. (هـ) الطاعة. (و) قبول التعليم. (ز) النفع للآخرين. فالمؤمنون هم رعية المسيح وخاصته, للأسباب الآتية: (1) لمحبته لهم. يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟».22وَكَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ (ب) لكونهم عطية الآب له. (ج) لأنه افتداهم واشتراهم بموته. (د) لأنه اختارهم ودعاهم. (هـ)لأنه يرعاهم ويحميهم ويكفل لهم الأمن والصيانة والأشباع. (و) لكونه قد اختاروه. ثانياً: الخطاب الأول 10: 22-31. والكلام منقسم فيه إلى (أ) مقدمة 10: 22-24. (ب) نص الخطاب 10: 25-30. (ج) تأثير الخطاب 10: 31. عدد 22. (أ) مقدمة تاريخية 10: 22-24. "وكان عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء". بهذه الكلمات يقدم لنا البشير وصفاً دقيقاً للملابسات الخاصة التي أحاطت بهذا الحديث الثاني, من حيث الزمان: "عيد التجديد". والمكان: "في أورشليم ", والطقس "وكان شتاء". إذاً قد توسط شهران بين عددي 21 و 22. فأولهما يختتم حديثاً فاه به المسيح بعيد عيد المظال الذي يقع عادة في الخامس عشر من شهر تشرين (أكتوبر). وثانيهنما يمهد لحديث نطق به الفادي في عيد التجديد الذي يقع عادة في الخمس والعشرين من كسلو (ديسمبر). هذا العيد الثاني الذي أنشأه يهوذا المكابي بعد أن طهر المذبح من الرجاسات والنجاسات التي ألحقها به أنطيوخوس الشهير وأعاد الذبيحة. وكان يظل قائما مدة ثمانية أيام ابتداء من 19 ديسمبر في ذلك العام (29 للميلاد). وكان يسمى أيضاً "عيد الأنوار" نظراً للنوار البهية التي كانت تضاء بها أورشليم , وكل الأراضي المقدسة آنئذ, ومن فرط ابتهاج اليهود بهذا العيد أنهم كانوا يحرمون فيه الصوم والحزن. "ليفرح الشعب فرحاً كاملا أمام الرب". وَكَانَ شِتَاءٌ. 23وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي الْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ 24فَاحْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ ومن المؤسف, أن اليهود لم يأخذوا من تلك الأنوار البهية إلا ظلها الكثيف. فلا تجد ما يناسب حالتهم التعسة, ومن الملابسات الطبيعية المحيطة بهم إلا هذا الوصف الدقيق: "وكان شتاء". فلقد كانوا في شتاء حساً ومعنى فالشتاء يمثل عواطفهم في عواصفه الباردة, لا في ثلوجه الفضية الناصعة (13: 30). قضى المسيح تلك المدة التي بين غيد المظال وعيد التجديد, في الجليل, ولما أقبل عيد التجديد, عاد المسيح إلى أورشليم ومعه بعض رسله, تاركاً السبعين ليتمموا رسالتهم في البلاد التي أرسلهم إليها. هذا يوافقه ما جاء في سائر البشيرين (مت 19: 1 ومر 10: 1 ولوقا 9: 51). عدد 23. البقعة الخاصة التي كان المسيح موجوداً فيها وقتئذ "وكان يسوع يتمشى في الهيكل في رواق سليمان ". بسبب زمهرير الشتاء وأمطاره, اعتكف المسيح في الهيكل في رواق سليمان . فلا يفوتنا أنه إنسان تام وإله تام. ومما يروي عن هذا الرواق أنه كان قائماً على أعمدة في جهة الهيكل الشرقية, في الساحة المعروفة بـ "دار الأمم". والمعرف عنه أنه بناء سليمان , وهو ما سلم من الخراب, الذي ألحقه بالهيكل, نبوخذ نصر عام 586 ق.م. وشغلت هذه البقعة التاريخية حيزاً في ذاكرة البشير, لأنها شهدت حوادث مهمة في تاريخ الكنيسة الأولى (أعمال 3: 11). عدد 24. (1) المناورة العسكرية التي قام بها اليهود: "فاحتاط وَقَالُوا لَهُ: «إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ اليهود" بدلا من أن يحتاطوا به. كما تحتاط النجوم بالقمر, فتكسب بهاء وجمالاً, أو كم يحتاط النحل بالزهر فيكتسب منه عصارة شبيهة, نراهم وقد قاموا بمناورة وضربوا حوله نطاقاً "عسكرياً", فقطعوا عنه كل اتصال بتلاميذه, محتاطين لخروجه بكل وسيلة. وساعدهم على ذلك, موقع رواق سليمان بالنسبة للهيكل. (2) استجوابهم إياه: "وقالوا له إلى متى تعلق أنفسنا" – هذه نغمة المهددين الذين أشهروا سلاحهم عليه مقدمين له فرصة وحيدة لجواب مختصر, قاطع: نعم أو لا, واضعين أمامه, الموت والحياة. إن باستجوابهم إياه في مرة سابقة (8: 25) ولكن بطريقة تهديدية صارمة. لقد عيل صبرهم, ولم يبق لهم في قوس الرجاء منـزع, والنير الروماني كان يحز رقابهم حز السكين. وقد تعلقت أنفسهم طويلاً بأجوبته غير المفهومة تماماً, وكأنى بهم قد وضعوا فأسهم على أصل شجرة حياته الأرضية, وألزموه أن يقول صراحة ما إذا كان هو المسيح المنتظر, الذي يحررهم من النير الروماني.كما حررهم يهوذا المكابي من نير أنطيوخوس إبيفانوس, أم أن يقول إنه ليس المسيح, فينفضوا من حوله, إذ يعرفون نهاية أمره. ويكاد يكون محققاً, إن بين هؤلاء, قوما كانوا متسلحين بنية سيئة, آملين أن يفوزوا منه بالجواب: "أنا المسيح" لكي يقتنصوه, فيقدموه للمحاكمة. في قلب هذا النطاق العسكري, فاه المسيح بجواب غاية في الحكمة لَنَا جَهْراً». 25أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وسداد الرأي, وقوة المنطق. ويقع جوابه في دورين, انتهى أولهما بشروع اليهود في رجمه بالحجارة (10: 25-31) واختتم ثانيهما بمحاولتهم أن يلقوا القبض عليه (10: 32-39). عدد 25. (ب9 نص الخطاب الأول (10: 25-31) "أجابهم يسوع" إن الإجابة على سؤالهم, على جانب عظيم من الصعوبة. لأن العلم بحقيقة المسيح يستلزم معرفة اختبارية, ولا تكفي فيه الأخبار السماعية – هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى لأنهم يفهمون من كلمة : "المسيح" غير ما تعنيه هذه الكلمة. هم ينتظرون "مسيحاً" سياسياً يرفع عن أعناقهم نير الرومان. وهو في حقيقته مسيح روحي سماوي يهب الحياة لموتى الرجاء, ويمنح الحرية امن يرسفون في قيود الخطية والآثام. فإن قال: "أنا هو المسيح", كان بذلك مخالفاً الحق كما يفهمونه هم. وإن قال: "لست أنا المسيح" كان بذلك مخالفاً الحق كما يقصده الله, وكما فهمه الأنبياء. وما قيمة الجواب الذي يقال تحت سيف التهديد, لقوم يريدون أن يتخذوا من جوابه سبباً للوقيعة بينه وبين الهيئة الرومانية الحاكمة, ولا يريد أن يستقدم ساعة صلبه ولا يستأجرها؟ أمام هذه الصعاب يمكننا أن نقدر الحكمة الممتازة التي أملت هذا الجواب الواضح, القاطع, الجريء, الذي فيه أبان لم, بكيفية لا يأتيها الريب من ناحية من نواحيها, أنه سبق فعرفهم بحقيقة شخصه, وان السبب في عدم إيمانهم, ليس في قلة التصريحات التي بلغتهم منه, بل في عدم إيمانهم به. وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. 26وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فالتصريحات متوفرة, والشهادات لصدقها متواترة, إنما قلوبهم هي المتوترة بعدم الإيمان: "لستم تؤمنون". في هذا الجواب, قدم لهم المخلص شهادة مثلثة على أنه هو المسيح: (1) شهادة تصريحاته السابقة (8: 25). "إني قلت لكم" – إني أنا المسيح – "ولستم تؤمنون". (2) شهادة معجزاته: "الأعمال التي أنا أعملها... هي تشهد لي" – إني أنا المسيح. لقد نبر المسيح على كلمة : "أنا", كما نبروا هم على كلمة "أنت", في استجوابهم إياه (عدد 24). إن في استعماله كلمة : "أعمل", بصيغة الحاضر, بدلاً من الماضي, دليلاً على أنه لم يكف عن صنع المعجزات: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل". (3) شهادة الآب له: "باسم أبي" لو يكن الآب مصادقاً على أن يسوع هو المسيح, لما سمح له بإتيان هذه المعجزات باسمه, لأن اسمه الكريم ختم جليل على رسالة المسيح (قابل هذا بما جاء في 3: 2 و 5: 36 و 7: 31 و 9: 33 و 34 وأعمال 2: 22). كلمة : "باسم أبي", معناها: "حال كوني مرسلاً من أبي, وعاملا باسمه". عدد 26. "سحابة قاتمة – الذين ليسوا له" "أنتم.. ": "ولكنكم لستم تؤمنون...". في هذا العدد بين لهم المسيح, عن علة عدم اقتبالهم إليه, كائنة في عدم إيمانهم به: "ولكنكم لستم تؤمنون". وإن عدم إيمانهم به, بينة واضحة على أنهم ليسوا من خرافه, لأن من مميزات خرافه الخاصة أنها: لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي كَمَا قُلْتُ لَكُمْ. 27خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. 28وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. (1) تسمع صوته, (2) وتعرفه, (3)وتتبعه (عدد 3و 4). هذا معنى كلمة : "لأنكم". فهي لا تدل على كونهم من غير خرافه, منعهم من الإيمان به, بل إن عدم إيمانهم به, برهان على أنه ليس من خرافه. إن استعمال كلمة "لأن" هنا, يتفق واستعمالها في لوقا 7: 47: "قد غفرت خطاياه الكثيرة. لأنها أحبت كثيراً". فكلمة "لأن" في كلا الموضعين "برهانية" وليست "سببية". "كما قلت لكم" – الإشارة هنا إلى ما تحدث به المسيح إليهم في 10: 3 و 4 و 8: 47, وقت اجتماعه بهم في عيد المظال, والخطاب في هذا الكلام موجه إلى الذين كانوا حاضرين وقت إلقائه خطابه السابق في ذلك العيد. عدد 27 و 28. – سحابة نيرة – الذين هم له – "رعيتي... وأنا": "خرافي تسمع صوتي..." إذا كنا قد رأينا في جو العدد السابق, سحابة قاتلة مظلمة, يستتر وراءها الذين لم يؤمنوا بالمسيح. فإننا نرى في جو هذين العددين سحابة نيرة تظلل خاصة المسيح التي تؤمن به: "خرافي تسمع صوتي" من الممكن أن نفصل هذين العددين كما ترى على الصفحة التالية: إن استماع الخراف لصوت راعيها يتمشى مع معرفة الراعي لراعيته. وإن إتباعها إياه, يكافأ بمنحه إياها هبة حياة الأبد. وإن صيانتها من الموت مضمونة بقوته. هذا الوعد الأخير من الأدلة على ثبات المؤمن في النعمة. ما الداعي لوجود أربع بشائر؟
عدد 27 و 28. المسيح ورعيته. من الجائز أن نضع هذين العددين في أحد الثلاثة الأوضاع الآتية: الوضع الأول: يتألف من ثلاثة حقول: الحقل الأول يتركب من مقطع واحد, والثاني من مقطعين, والثالث من ثلاثة مقاطع:
الوضع الثاني: يتألف من حقلين: وكل حقل منهما يتركب من ثلاثة مقاطع:
الوضع الثالث: يتألف من ثلاثة حقول: كل حقل منها يتركب من مقطعين, وكل مقطع منهما متبادل مع سابقه:
29أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. 30أَنَا وَالآبُ عدد 29 و 30. الختم الملكي – الضمان المزدوج: "أبي.. وأنا". إذا كان موضوع الكلام في عدد 26: "أنتم... وأنا", وفي عددي 27 و 28 "رعيتي.. وأنا". هذا هو الضمان الكامل الذي به تختم هبات المسيح لرعيته. إن كلام المسيح في هذين العددين متصاعد كما على سلم, حتى بلغ القمة عند قوله: "أنا والآب واحد". فالكلام في عدد 29 له جانبان – أحدهما إيجابي "أبي هو أعظم من الكل" – أي من كل القوات المهاجمة لرغبتي – قوة العالم, والجسد, والشيطان. والجانب الثاني سلبي – وهو نتيجة للجانب الإيجابي: "لا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي". ولئلا يتبادر إلى ذهن بعض سامعيه أن كلمة "الكل" قد تتسع وتبسط جناحيها, وتظلل المسيح تحتها, قرر لهم بطريقة قاطعة, لا يأتيها الشك من ناحية من نواحيها, أنه: "هو والآب واحد" – فهو واحد معه في: الجوهر. والقدرة. والإرادة. هذا هو المعنى الذي فهمه اليهود. لذلك أرادوا أن يرجموه. بل هذا هو المعنى الذي أرادهم المسيح أن يفهموه. لأنه لم يعتذر عما قال. ولا هو تراجع في هذا الإعلان. لا بل هذا هو المعنى الذي يريدنا المسيح أن نفهمه الآن. أنه هو والآب واحد: جوهره. جوهر الآب. قدرته قدرة الآب. وإن لم يكن المسيح إلهاً. فهو مجدف. ولا موقف متوسط. فإلى الذين يريدون أن يعتقدوا وَاحِدٌ». 31فَتَنَاوَلَ الْيَهُودُ أَيْضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. 32فَقَالَ يَسُوعُ: بكماله وينكروا لاهوته, نوجه الخطاب: فإما أن تقولوا صراحة إنه مجدف فترجموه. أو أن تعترفوا به إلهاً فتعبدوه. وإن لم تكونوا ضمن عابديه باختياركم, فأنتم على رغم إرادتكم من راجميه!. إن حياة المؤمنين مدعمة بأسس أربعة: (أ) كون الله أعطى المسيح إياهم. (ب) تحصيل يسوع الحياة الأبدية لهم ومنحهم إياه. (جـ) تعهد الآب والابن معاً بوقايتهم. (د) ليس لقوة في العالم أن تبطل مقاصد الله. عدد 31. تأثير خطاب المسيح: "فتناول اليهود أيضاً"- مرة أخرى علاوة على المرة السابقة (8: 59) – "حجارة ليرجموه" – بسبب كلامه في عدد 30, الذي اعتبروه تجديفاً. لم يكن عملهم في هذه المرة. على سبيل التهديد, بل كانوا يقصدون ما يعملون. لقد كانوا في هذه المرة أشد انتقاما منهم في المرة السابقة. لأن حقدهم استوى ونضج. هذا هو التدرج السفلي إلى دركات عدم الإيمان – بل هذا هو التدهور إلى الهوة التي لا تعرف قراراً. ثالثاً: الخطاب الثاني: (10: 32 - 39). في هذا الخطاب عالج المسيح مسألتين مهمتين: أولاهما – تهمة التجديف التي وجهت إليه (10: 32 - 36) وثانيتهما نسبته إلى الآب (10: 37 و 38). وفي عدد 39 وصف البشير مبلغ تأثير اليهود من هذا الخطاب الثاني. عدد 32. (أ) المسيح يدفع عن نفسه تهمة التجديف (10: 32 - 39). (1) المسيح يستجوبهم (10: 32). لم ينسحب المسيح في هذه المرة كما فعل «أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي - بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» 33أَجَابَهُ الْيَهُودُ: «لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلَهاً» في المرة السابقة (8: 59), بل قارعهم بالحجة. فحبس الحجارة في أيديهم, بسؤال منطقي أطفأ به نار حقدهم: "أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني"؟ إن أعمال المسيح حسنة بكمال قداستها, وسلطانها, وفائدتها. وقوله "أريتكم" يدلنا على أن الأعمال الحسنة التي أتاها المسيح, هي عينات لأعمال الله المكنونة والمستورة في خبايا عمله الأزلي. هذا سؤال لاذع بتأنيبه. جارح بعذوبته ورقته. فهو موجه إلى ضمائرهم. ولكن أين هذه الضمائر وقد عبث بها الحقد وحب الإجرام؟ وهل من برهان أدل على هذا, أكثر من كونهم لا يثورون عليه إلا كلما رأوه يعمل خيراً بالإنسانية المعذبة؟ فلقد ثاروا عليه بعد إبرائه مريض بركة بيت حسداً (ص 5) وبعد فتحه عيني المولود أعمى (ص 9). وفيما بعد سنراهم هائجين عليه بعد إقامته لعازر من القبر (ص 11)!!. عدد 33. (2) جوابهم المنمق "لسنا نرجوك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف " – هذا هو التكييف القانوني الذي صاغوا فيه عملهم لكي يرضوا بهم ضمائرهم المشتكية والمحتجة. إن جوابهم هذا واقع قي شطرين – أولهما ذكر على وجه التعميم "لأجل تجديف ". والثاني ذكر على سبيل التخصيص والتطبيق: "لأنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً". 34أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ 35إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ 36فَالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ عدد 34-36. (3) احتجاج المسيح المنطقي "أجابهم يسوع...". يقع هذا الاحتجاج المنطقي في حجتين متدرجتين – من الأدنى على الأعلى. الدرجة الأولى: إذا كان كتابكم الذي بين أيديكم قد قال عن قضاتكم, وهم بشر مثلكم, إنهم آلهة (ألوهيم) (مز 82:6), ولم تستطيعوا أن تتهموا هذا الكتاب بالتجديف "لأنه لا يمكن أن ينقض المكتوب", فعلى فرض أني لست سوى بشر كأحد قضاتكم, وقلت على نفسي أني إله, فلماذا تتهمونني إذا أنا بالتجديف مع أني لم أقل إلا ما قاله كتابكم المعصوم؟ الدرجة الثانية: إذا جاز لكتابكم أن يخلع هذا اللقب الجليل على بشر , لأنهم كانوا يحكمون باسم الله, حال كونهم خطاة وقد تكون أحكامهم خاطئة – كما يشهد بذلك العدد الثاني من ذات المزمور – فكم بالأحرى يحق لي أنا,أن أقول عن نفسي: إني ابن الله, حال كوني أنا "الكلمة" الحي المعصوم, وقد قدسني الآب وكرسني منذ الأزل, لأنني بأخذي ذاتي منه في ميلادي الأزلي, قد أخذت كمال القدا, وفي ملء الزمان أرسلني للعالم مخلصاً وفادياً؟؟! المراد "بالناموس", كلمات الله المكتوبة. وقد أطلقت عليها كلمة "الناموس" من باب التغلب الذي يجوز فيه أن يسمى الكل باسم أحد أجزائه. وقد أسند المسيح كلمة : "ناموسكم" إلى ضمير المخاطبين, أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ابْنُ اللَّهِ؟ 37إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فلاَ تُؤْمِنُوا بِي. 38وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِالأَعْمَالِ لا ليخرج نفسه عن دائرة احترامه وتقديسه للناموس. بل لكي يتخذ من كتابهم سهماً يرد به هجماتهم. (أطلب تفسير هذه الكلمة في 8: 17). كلمة "قدسه" معناها الحقيقي كرسه ومسحه لأجل الفداء. عدد 37 و 38. (1) المسيح يدعوهم إلى الإيمان به كإله "إن كنت لست..". لم يكتف المسيح بأن دفع عن نفسه تهمة التجديف. بل تقدم فقرر لهم حقيقة لاهوته بطريقة قاطعة.ولم يقنع بأن وقف منهم موقف المدافع, كأنه لم يقل شيئاً لا شراً ولا خيراً, بل واجههم مهاجماً إياهم هجوماً لطيفاً, ودعاهم إلى أن "يعرفوا ويؤمنوا إن الآب فيه وأنه هو في الآب". لقد صرح لهم الفادي في عدد 37, أنه وإن تسامح معهم في عدم تصديقهم شهادة كلامه لحقيقة الوهيته, فإنه لن يتسامح معهم في عدم إيمانهم به, بسبب شهادة أعماله. فصوت الأعمال أعلى من صوت الكلام, وإذا كان كل عمل مطبوعاً بطابع الشخصية التي تعمله.. فإن الأعمال التي أتاها المسيح مطبوعة بطابع الشخصية التي تعمله. فإن الأعمال التي أتاها المسيح مطبوعة بطابع شخصية الآب. وإذاً فالآب في المسيح. والمسيح فيه. فإن لم تكن لهم آذان لتسمع كلامه, فإن لهم عيوناً لترى أعماله, وتميز الطابع المطبوعة به "آمنوا.. تعرفوا.. تؤمنوا.." – هنا درجتان في الإيمان تتوسط بينهما المعرفة. (أ) "آمنوا" – هذه هي الدرجة الابتدائية في الحياة المسيحية. لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ». 39فَطَلَبُوا أَيْضاً أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ إيمان التصديق والطاعة. هذا الإيمان يسبق المعرفة, كما قال المسيح لأحد تلاميذه الأولين "تعال وانظر" (يو 1: 46), وكما قال لليهود في عيد المظال "إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم" (7: 17). (ب) "تعرفوا.." هذه أولى ثمرات شجرة المسيحية الجديدة – شجرة معرفة الخير الأعظم. إذا كان الإنسان الأول قد سقط بأكله من شجرة معرفة الخير والشر, فإن الإنسان الجديد يتجدد حسب صورة خالقه بأكله من شجرة معرفة الخير الذي لا يدنوا منه شر (جـ) "وتؤمنون.."هذه درجة أرقى في سلم الإيمان – إيمان التمييز والتحقق. إننا نصدق أولاً. ثم نعرف. ثم نميز ونتحقق فيما بعد "أن الآب في وأنا فيه" – ما أشبه هذا الكلام بقوله "أنا هو الآب الواحد" (عدد 30). هذا إفصاح عن الاتحاد الكلي, والمساواة, بينه وبين الآب. عدد 39. وقع هذا الخطاب الثاني: "فطلبوا أيضاً" – مرة أخرى – "أن يمسكوه", ولعلهم عدلوا عن رجمه بالأحجار في الهيكل, حرصا على حرمة الهيكل الرسمية, فطلبوا أن يمسكوه ليقتلوه في مكان آخر, أو لكي يقدموه للمحاكمة أمام السنهدريم, بحجة أنهم وجدوه متلبساً بجريمة التجديف. إنهم يقدسون الهيكل المبني بالأحجار, ولا يخافون الاعتداء على رب الهيكل!! "فخرج من أيديهم". ليس من الضروري أن يكون هذا الخروج بمعجزة, ولعله كان كخروج سابق (8: 59 و لو 4: 30). 40وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ الأُرْدُنِّ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِيهِ أَوَّلاً وَمَكَثَ هُنَاكَ. عدد 40 – 42. خاتمة تاريخية. "ومضى أيضاً" علاوة على المرة المذكورة في 1: 28 – "إلى عبر الأردن". أمام هذه المقاومة التي اتخذت الآن شكلا عنيفاً, ما كان من الممكن أن يظل المسيح في أورشليم من غير أن تثور ثائرة اليهود عليه, فيقدموه للصلب, ولما تأت ساعته بعد. لذلك انتهز فرصة انقضاء عيد التجديد, وترك العاصمة اليهودية, قاصداً بيرية "إلى عبر الأردن, إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولا ومكث هناك". ولا شك في أن زيارة المسيح وتلاميذه لهذا المكان التاريخي, قد ملأت نفوسهم بالتذكارات العميقة المقدسة. هذا هو المكان الذي وجد فيه المسيح تلاميذه الأولين. وفيه تفتحت عيونهم إلى "نور الحياة" لأول مرة. ومن الملذ أن يعود المسيح, عند اختتام خدمته إلى المكان الذي شهد بدايتها. هنا, في هذا المكان, خدم الرجل الذي لم يخف أحد إلا الله فكانت الناس تخشاه. هنا أقام أعظم المولودين من النساء بعد المسيح. هنا رن صوت الحق الصارخ, الذي أخفت في ظلمات السجن بعد حين. هنا نزل الروح القدس بهيئة جسمية على المسيح. كلمة : "أولا". تحمل مقارنة بين المكان الذي خدم فيه يوحنا في 1: 28, وذاك الذي خدم فيه في 3: 23. كان المسيح قبيل خدمته الجهارية في هذا المكان. وقبيل صليبه عاد إليه حيث كان أولا. 41فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالُوا: «إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ كُلُّ مَا قَالَهُ يُوحَنَّا عَنْ هَذَا كَانَ حَقّاً». 42فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِهِ هُنَاكَ. عدد 41. إيمان الكثيرين به: "فأتى إليه كثيرون". فرق عظيم بين جمود أهل اليهودية وجحودهم, وبين إيمان أهل بيرية المبنى على الفحص والاستقراء أنهم بإيمانهم هذا أضافوا تهمة جديدة إلى قائمة الاتهام التي لصقت باليهود. يتضمن أيضاً هذا العدد التاريخي, مقارنة مزدوجة بين المعمدان وبين المسيح. جانبها الأول: أن المعمدان لم يفعل آية واحدة – بشهادة أهل تلك البقعة, وإن المسيح عمل معجزات كثيرة. جانبها الثاني: أن يوحنا لم يكن هو الشخص الذي يحقق انتظارهم لكن يسوع هو المسيح المنتظر الذي قد تحققوا فيه كل ما قال فيه المعمدان: "كل ما قاله يوحنا عن هذا كان حقاً". "إن يوحنا لم يفعل أية واحدة. ولكن كل ما قاله يوحنا عن هذا كان حقاً". إذا لم تكن قوة يوحنا في عمل المعجزات, بل في الشهادة بالحق وللحق. أو ليست الشهادة بالحق, من أسمى المعجزات في عالم هو البطل مجسماً. غير أنه كان عصر المعجزات قد مضى وانقضى, فإن عصر الشهادة للحق لم ينقض, ولن ينقضي. وإن في ميدان الشهادة للحق متسعاً للجميع. عدد 42.ختام جليل "فآمن كثيرون به". إيماناً قلبياً عملياً – "هناك" – في عبر الأردن – لا في أورشليم . هذه طعنة نجلاء في قلب أورشليم !!. 1- كان في أورشليم سوقان - إحداهما للأغنام, والثانية للأصواف. 2- قابل هذا بما هو معزوف في هذه الأيام من أن مجلس إحدى المدائن أنعم على شخص ممتاز بنيشان: "حرية المدينة".
|