مكتبة الأخوة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
اَلأَصْحَاحُ السَّادِسُ عَشَرَ
هذا أصحاح المعزي. هذا فصل مطلعه شقاء, وقلبه شفاء , وخاتمته عزاء, ما أشبهه بيوم الطبيعة, يبدأ بالليل ويختتم بالنهار. في هذا الأصحاح, واصل المسيح كلامه الذي انتهينا غليه في الصحاح السابق, فاستهله بذكر الاضطهاد, والتقتيل, والبغضاء, التي كان على التلاميذ أن يلاقوها في مقتبل الأيام, ليجعل من صفحة الألم, لوحة سوداء. يسطع عليها نور المعزي, بلمعان باهر. وبما أن هذا الأصحاح مرتبط ارتباطاً حيوياً بسابقه, لذلك سنتابع فيه التفسير طبقاً للتقسيم الذي فصلناه في غرة الأصحاح السابق صفحة 632. عدد 1: 4. تتمة الكلام عن التلاميذ والعالم. في ختام الأصحاح السابق, وعد المسيح تلاميذه بمجيء المعزي الذي سيقف معهم تجاه العالم المليء بالبغضاء نحوهم. وفي مقدم الأصحاح, استأنف كلامه عن بغضة العالم لهم حينما تكون قد اشتدت, واحتدت, ونضجت, فأثمرت طرداً, واضطهاداً, وتقتيلاً. في خاتمة الأصحاح السابق تحدث إليهم عن شعور العالم نحوهم. وفي مطلع هذا الأصحاح تكلم عن أفعال العالم, التي هي وليدة ذلك الشعور المرير. "سيخرجونكم ... كل من يقتلكم ... سيفعلون هذا بكم". 1«قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ لاَ تَعْثُرُوا. 2سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ عدد 1. غاية المسيح من تحدثه إليهم عن بغضة العالم لهم, ومجيء المعزي. "قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا". في اعتقادنا أن كلمة : "هذا" تعني ما حدثهم به عن بغضة العالم لهم ومجيء المعزي (15: 17 27). ويعتقد الأسقف وستكوت أنها تعني كل كلام المسيح الذي أفضى به إلى تلاميذه عن اتحادهم به, وشركة آلامهم معه, وشهادتهم المتفقة وشهادة الروح. أما قصد المسيح من حديثه معهم, فقد أبانه في هذه الكلمات: "لكي لا تعثروا". وردت كلمة "يعثر" – في الأصل – مرتين في بشارة يوحنا – هنا وفي 6: 61, وهي ترسم لنا صورة سائر في طريقه فتصطدم رجله بحجر أو حاجز. وهي تحمل إشارة معنوية إلى احتمال تزعزع ثقة التلاميذ بسبب ما يلقونه من تعذيب واضطهاد. عدد 2. بعض الاضطهادات – والباعث للعالم عليها – تقديم "قربان" لله: "سيخرجونكم من المجامع ... يظن كل من يقتلكم ...". ذكر المسيح نوعين من الاضطهاد – أ – اضطهاداً منصباً على مقام التلاميذ الديني والاجتماعي: "سيخرجونكم من المجامع" (اطلب تفسير 9: 22 و12: 42). هذه درج أولى في برنامج اضطهاداتهم وسيأتي بعدها ما هو أشر وأمر.-ب- اضطهاداً منصباً على حياتهم: ".. كل من يقتلكم". تدل كلمة "ساعة" على أن هذه الاضطهادات داخلة ضمن تدبير الله الذي رتبه للرسل. بعد أن ذكر المسيح للتلاميذ عينتين من الاضطهادات الوشيكة أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ. 3وَسَيَفْعَلُونَ هَذَا بِكُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآبَ وَلاَ عَرَفُونِي. 4لَكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ الوقوع عليهم, نبههم إلى: (1) الباعث الظاهري الذي يحمل العالم على اضطهادهم: "يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله". وكذلك فعل شاول الطرسوسي (أعمال 26: 9). ويقول هنسيوس أحد المؤرخين العصريين: إن اليهود كانوا إلى العصر الماضي, يحسبون قتل المسيحيين "قرباناً" يقربونه إلى الله في عبادتهم. عدد 3. (2) العلة الدفينة لاضطهاد العالم لهم: "وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني". هذا هو التعصب الديني الأعمى الذي لا يعرف إلهاً ولا يحب إنساناً, لكنه يحب نفسه وعقيدته. إن الله محبة, لا يمكن أن تخدم المحبة بالبغضاء والتجريح والتقتيل. أليس من الأمور المضحكة المبكية, أن الغيرة العمياء تبعد الإنسان عن الغاية الأساسية التي يرمي إليها؟ فبينما يتوهم هؤلاء المضطهدون أنهم بقتلهم المسيحيين, "يتقربون" إلى الله, إذا بهم يسمعون من الله هذه الكلمة: "أنكم بعملكم هذا قد برهنتم على أنكم لا تعرفوني لأنكم لو عرفتموني لعرفتم من أرسلته إليكم, ولو عرفتم من أرسلته أنا إليكم, لعرفتم بالتالي من أرسلهم هو إليكم". فإذا ما جهل أحدهم المسيح, كان جهله هذا دليلاً على أنه يجهل الله: "لم يعرفوا الآب ولا عرفوني". عدد 4. عود إلى بدء: " لكني قد كلمتكم بهذا" – أي بما سيصيبكم في مستقبل الأيام من اضطهاد وتعذيب - "حتى إذا جاءت الساعة" – التي أنبأتكم بها في عدد 2 – "تذكرون أني قلته لكم". أن المسيح إذا أنبأ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ مِنَ الْبِدَايَةِ لأَنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ. تلاميذه بما سيصيبهم في مستقبل الأيام, سبق فسلحهم بسلاح الصبر والرجاء, والفخر بمشاركتهم إياه, قبل أن تجيء ساعة النضال. حتى متى حانت, يكونون قد تهيئوا لها. "ولم أقل لكم من البداية" _ أي منذ بداية اتصالكم بي كأتباع, وتلاميذ, ورسل – "لأني كنت معكم" – فكان وجودي خير حصن لكم. لأني كنت أتلقى عنكم نبال الأعادي, وبعد ليلة وضحاها, سأتلقى عنكم الصدمة الأخيرة على الجلجثة. كيف نوفق إذاً بين قول المسيح: "لم أقل لكم من البداية", وبين كلماته المسجلة في متى 10: 17 و21 و28؟. يقول يوحنا الذهبي الفم: إن الاضطهادات التي تحّدث عنها المسيح إلى تلاميذه في يو 16: 14 أشد هولاً من تلك المذكورة في متى 10: 17 و21 و28 ويقول بنغال: إن المسيح, عند دنو نهاية خدمته, كلم تلاميذه عن الاضطهادات بإسهاب وإفاضة (يو 16: 4). لكنه في قلب خدمته, تحدث إليهم عن الاضطهادات بكلام مجمل. ويظن وستكوت أن كلام المسيح في يوحنا , ليس قاصراً على الاضطهادات بل يتناول أيضاً صلته بتلاميذه, وصلة المعزي والعالم بهم, بخلاف كلامه في يوحنا , فقد قصره على الاضطهادات. ويعتقد جودي أن الكلام الذي سجله متى ليس مقصوراً على مناسبة خاصة. بل يشمل كل الكلام الذي قاله المسيح عن الاضطهادات, سواء ما قاله في بدء خدمته أم في قلبها, أو عند نهايتها – بما في ذلك, الكلام المدون في يوحنا 16. ونميل نحن إلى الأخذ بأحد الرأيين الأولين. 5وَأَمَّا الآنَ فَأَنَا مَاضٍ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي السهم الرابع – العالم والمعزي (16: 5-11) تكلم المسيح في هذه الأعداد عن أمرين – أولهما: شرط مجيء المعزي (16: 5 - 7) ثانيهما: عمل المعزي في العالم (16: 8 – 11). عدد 5 – 7 (1) شرط مجيء المعزي – إن مجيء المعزي متوقف على انطلاق المسيح. لاشك في أن التلاميذ جزعوا من تحدث المسيح إليهم عن الاضطهادات, وازداد جزعهم عند سمعهم قول المسيح: "لأني كنت معكم" ( عدد 4). لذلك أراد الفادي المحب أن يعرفهم إلى أين هو ماض عنهم, معنفاً إياهم على عدم استفهامهم منه عن المكان والمقام اللذين سينطلق إليهما (عدد 5 و6), ثم دلهم على الخير الذي يعود عليهم من انطلاقه (عدد 7). عدد 5. إلى أين يمضي المسيح: "وأما الآن" – هذه نقطة انتقال في الفكر, وفي نغمة الكلام. في الأعداد السابقة عدد (1- 4), وعد المسيح تلاميذه بضيق في العالم, وفي هذه الأعداد (عدد 5 – 7). وعدهم بمجيء المعزي الذي ينتصر بهم على العالم. فمن ظلمة الضيق, انتقل بهم إلى نور الوعد. إن في قول المسيح لهم: "وليس أحد منكم يسألني أين تمضي". تعنيفاً خفيفاً لتلاميذه, الذين ألهاهم حزنهم على انطلاقه, عن أن يسألوه عن المكان المنطلق إليه, ولو كانوا قد سألوه لأحاطهم علماً بالمجد الذي سيتمتع هو به, وبالخير الذي سيعود عليهم, نتيجة هذا الانطلاق. عندئذ كانوا يفرحون لأجله ولأجلهم. لأن محبتهم له تفرض عليهم أن يفرحوا لتمجيده أَيْنَ تَمْضِي. 6لَكِنْ لأَنِّي قُلْتُ لَكُمْ هَذَا قَدْ مَلَأَ الْحُزْنُ قُلُوبَكُمْ. 7لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ (4: 28), ولأن محبتهم لأنفسهم, توجب عليهم أن يفرحوا للخير الذي سيصيبهم. ولا يعتبر سؤال بطرس (13: 36) مستثنى من قول المسيح "ليس أحد منكم يسألني", لأن بطرس كان يبغي من سؤاله أن يقنع المسيح بالعدول عن الانطلاق, لا أن يعرف إلى أين ينطلق المسيح. إن هذا التعنيف الخفيف, يحمل معه تحريضاً من المسيح للتلاميذ, على أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم إلى الجانب المنير من تصريحاته وإعلاناته, عندئذ يستطيعون أن يكتشفوا فبها كنوز خير , وخير كنوز. عدد 6. انصراف التلاميذ إلى الجانب المحزن من انطلاق المسيح: "لكن لأني قلت لكم هذا" – أي أني سأنطلق عنكم – "قد ملأ الحزن قلوبكم" وكم من المرات يتبرع المرء لقلبه بالأحزان في وقت يكون فيه محاطاً بأجل النعم وأكمل الخيرات! العيب ليس ي ما يحيط بنا, ب في عيوننا التي تنظر إلى بستان الحياة تلهيها أوراقه القليلة الصفراء, عن ثماره الكثيرة الناضجة. عدد 7. الخير الذي سيصيبهم بعد انطلاق المسيح عنهم: "لكني أقول لكم الحق". في هذا استحثاث منه لهم, على المزيد من الوثوق بكلامه (14: 2) "أنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي". إن الخير المشار إليه, هو – أ - تكميلهم في الإيمان والمحبة. – ب – حملهم على إتمام وظيفتهم إذ كان المسيح هو العامل, وكانوا هم يستريحون لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. 8وَمَتَى جَاءَ مدة بقائه معهم – ج – إن الخير الأعظم هو حلول الروح القدس فيهم وعليهم فهو موهبة قد استحقها المسيح لهم ولنا بموته. وكان ينبغي أن يملك بكمال المجد عن يمين الآب, حتى يرسل هذه الموهبة التي هي ثمرة دمه مزكى. هذه الحقيقة يؤيدها قول البشير في مناسبة سابقة: "الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد" (7: 39). أما أن الروح القدس هو "الخير الأعظم", فهذا واضح من مقابلة ما جاء في متى 7: 11 بما ورد في لوقا 11: 13. فمتى يقول "فكم بالحري أبوكم الذي في السموات, يهب خيرات للذين يسألونه". ولوقا يقول "كم بالحري الآب الذي من السماء, يعطي الروح القدس للذين يسألونه". فالذي قال فيه متى : "خيرات", قال فيه لوقا "الروح القدس". فالروح القدس هو الخير الأعظم. عدد 8 – 11. عمل الروح المعزي في العالم – التبكيت: "ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية, وعلى بر , وعلى دينونة". إن الروح الذي يبكت العالم, هو نس الروح الذي يعزي المؤمنين. وكذلك كان عمود النار في البرية قديماً – ظلاماً على المصريين ونوراً لبني إسرائيل. في عدد 8, ذكر المسيح عمل الروح القدس بكلمات مجملة, وفي الأعداد 9 – 11, فصل ما أجمله غي عدد 8. والكم في هذه الأربعة الأعداد (عدد 8 – 11) يتناول أمرين – أولهما: ماهية التبكيت الذي يقوم به ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ الروح القدس: "يبكت العالم". وثانيهما: موضوع هذا التبكيت: "على خطي. وعلى بر . وعلى دينونة". أولاً: ماهية التبكيت الذي يقوم به الروح القدس: "ومتى جاء ذاك يبكت العالم". إن كلمة : "يبكت" معناها, يغلب بالحجة, حتى يسكت. وهي تجمل معها شيئاً غير قليل, من التعنيف,والتوبيخ, والتقريع. وهي كما استعملت في العهد الجديد, بلغته الأصلية, تعني: - أ – إعلان النور وإظهار الخطأ. "لا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله" (يو 3: 20 و8: 46) "الكل إذا توبخ يظهر بالنور" (أفسس 5: 13). – ب – تطبيق الحق المعلن على الإنسان المعدي: "موبخين من الناموس كمعتدين" (يعقوب 2: 9) "ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم" (يهوذا 15). "وبخ. انتهر. عظ" (2 تيمو 4: 2). – ج – التأديب العقابي "قادراً أن يوبخ المناقضين" (تيطس 1: 9). "وبخ بكل سلطان " (تيطس 2: 15) – د – التعنيف بقصد الإصلاح والرد عن الخطأ: "أي كل من أحبه أوبخه وأؤدبه. فكن غيوراً وتب" (رؤيا 3: 19), "لا تخر إذا وبخك" (عب 12:5), "وبخهم بصرامة لكي يكونوا أصحاء في الإيمان" (تيطس 1: 13). قد يؤدي هذا التبكيت إلى الحياة إذا أطاع الإنسان إيحاآت الروح, وقد يؤدي إلى موت الدينونة ودينونة الموت إذا قاوم المرء تأثيرات الروح, "لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 16). عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وقد تجلت هاتان النتيجتان – إحداهما مقبل الأخرى – يوم الخمسين: "وكان آخرون يستهزئون قائلين إنهم قد امتلأوا سلافة"... "فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس " (أعمال 2: 13 و14). والظاهر من قرائن الكلام في سفر الأعمال وفي بشارة يوحنا , إن الروح القدس يؤدي عمله التبكيتي في العالم بواسطة الرسل والكنيسة. هذا وإن تبكيت الضمير يختلف عن تبكيت الروح القدس, في أن أولهما هو تبكيت الناموس, وثانيهما هو تبكيت النعمة. أولهما يؤدي إلى اليأس فالموت – كما في أمر يهوذا الإسخريوطي. وثانيهما يقود إلى الرجاء والحياة – كما في أمر بطرس . ويقول تقليد قديم إن أول شخص تمتع بنعمة الخلاص يوم الخمسين هو ذاك الذي طعن المسيح بحربة في جنبه على الصليب. فالضمير يبكت على بر ضاع, والروح يبكت على بر ظهر. الضمير يبكت على دينونة مسلطة سيفها على الرقاب. والروح يبكت على دينونة تمت, وانقضت, وزال أثرها. ثانياً: موضوع التبكيت الروح: "يبكت العالم على خطية, وعلى بر , وعلى دينونة". إن جل بشارة يوحنا شهادة ناطقة لعمل الروح القدس المبكت. فتبكيته العالم على خطية, ظاهر في 3: 19 – 21 و5: 28 و38 – 47 و8: 21 و34 – 47 و9: 41 و14: 27. وتبكيته العالم على بر , مبين في 5: 30 و7: 18 و24 و8: 28 و46 و50 و54 و12: 32 و14: 31 و18: 37. وتبكيته العالم على دينونة موضح في 12: 31 وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. 9أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ و14: 30 و7: 15 ويقول ا.ج غوردون: أن عمل الروح القدس في تبكيته الثلاث, تقابله وظيفة المسيح الثلاثية – كنبي, وكاهن, وملك. "خطية", "بربر", "دينونة". هذه ثلاث كلمات – الأولى لاصقة بالإنسان الساقط, والثانية متصلة بالمسيح المقام, والثالثة لاحقة بالرئيس المخلوع. الكلمة الأولى تصف داء البشرية خطية العالم. والثانية تصف الدواء – بر المسيح. والثالثة تصف مصير من يرفض الدواء ويرضى بالداء. فعلى الإنسان أن يختار بين الحالين – إما أن يقبل بر المسيح فيرفع معه أو أن ينحاز إلى جانب إبليس فيدان نعه. وجدير بالملاحظة, أن هذه الثلاث الكلمات: "خطية, بر , دينونة" وردت نكرات, من قبيل التعميم والإطلاق. عدد 9. حجة تبكيته العالم على خطية. "أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي". يراد بهذا,إن عدم إيمان العالم بالمسيح, دليل قاطع على أن العالم واقع في الخطية. فكأنما الخطية كانت في حاجة إلى البر مجسماً, لكي تظهر خاطئة جداً. هذا يؤيده قول سمعان الشيخ في المسيح: "ها قد وضع لسقوط وقيام كثيرين, ولعلامة تقاوم .... لتعلن أفكار من قلوب كثيرة" لوقا 2: 34 و35) فمع أن الخطية اتخذت مظاهر شتى قبل مجيء المسيح إلى العالم, إلا أنها اتخذت أشنع مظهر عندما صلبت رب المجد. هذا واضح جلياً من قول بطرس لليهود يوم الخمسين. "هذا أخذتموه مسلماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق. وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه" (أعمال 2: 23). أما غير المؤمنين, الذين لم يكن لهم نصيب فعلى مع الذين صلبوا المسيح فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. فهؤلاء سبيكتهم الروح القدس, على خطية عدم نوالهم نصيباً فعالاً في المسيح المصوب. هؤلاء هم الذين, بعدم إيمانهم, يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه. إن خطي عدم الإيمان بالمسيح, ليست فقط دليلاً على اتجاه القلب الساقط المبتعد عن الله, لا هي أيضاً أس كل الخطايا. وهي خلاصتها مركزة في نقطة واحدة. لأن المسيح, بموته عنا, أخذ مقامنا أمام الله, فاستحقت عليه كل دينونة الخطية التي كنا رازحين تحتها, ورضيت العزة الإلهية بهذه النيابة. فكل شخص يقبل المسيح فادياً, ترفع عنه أثقال خطاياه بانتقالها إلى المسيح. وكل شخص يرفضه ولا يؤمن به, يظل رازحاً تحت آثامه, مضافاً إليها إثم جديد هو رفضه مسيح الله. فضلً عن ذلك, فإن الروح القدس يبكت العالم على وجهة نظره في ماهية الخطية. فالعالم اليهودي كان يعتقد أن الخطية قاصرة على التعدي على الناموس الطقسي, وكسر السبت. لذلك قالوا في المسيح: " نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ (9: 24). فجاء الروح القدس مبكتاً العالم على نظرته الخاطئة في الخطية. مبيناً له أن الخطية الحقيقية هي رفض إرادة الله الظاهرة في إرساله المسيح إلى العالم (أعمال 2: 22 و33 و36 و3: 14 و15). فعدم الإيمان بالمسيح, هو صورة أخرى لرفض مشورة الله, واعتناق مشورة الذات الجسدانية, أو هو بمثابة رفض النور واختيار الظلام. إذ لا يختار الظلام إلا المظلم القلب, فالمسيح هو أصدق محك للأخلاق. 10وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي عدد 10. حجة تبكيته العالم على بر : "أما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً". ذكر المسيح في هذه الكلمات حجة دامغة لبره – هي صعوده وجلوسه عن يمين العظمة: "لأني ذاهب إلى أبي" – هذا ختم رضى الآب عن المسيح, إذ رفعه من القبر وأجلسه عن يمين القوة. فعندما صلب المسيح, هتفت قوات الظلمة قائلة: "لو كان هذا باراً لما صلب . ولو كان هو ابن الله, لنزل عن الصليب!". ولكن بره ظهر وبان, بعد أن كسر مصاريع القبر وارتقى صاعدًاً إلى الآب في العلا. "فأسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا" (رومية 4: 25). فإذا كانت قيامة المسيح, حجة بره, فإن ارتقاءه إلى يمين العظمة هو ختم هذه الحجة. فكل ذبيحة مقبولة لدى الله, لم تكن الأرض مقصدها النهائي, بل كانت السماء غايتها. لأن الله كان يرسل ناراً لترفعها إليه, علامة قبوله إياها. لذلك صار صعود المسيح إلى السماء, حجة بره الكامل. إن الحجر الذي رفضه البناءون يوم الجمعة الحزينة, قد رفعه الله وجعله رأس الزاوية, في فجر الأحد التالي. وفي يوم الخمسين. نقض حكم الله أحكام البشر فالبر المقصود هنا, هو بر المسيح. ومثلما يبكت الروح القدس العالم على وجهة نظره في الخطية, كذلك أيضاً يبكته على وجهة نظره في البر. فكما أن الخطية ليست قاصرة على التعدي على الشريعة الطقسية, بل هي رفض المسيح المقدم من الله مخلصاً للعالم وفادياً, كذلك البر, فليس هو القيام بمطالب الناموس, وإنما هو قبول بر المسيح الذي يبرر الفاجر (رومية 3: 21 و10: 3). وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضاً. 11وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ أما قوله: "ولا ترونني أيضاً", فإنه يرينا ضرورة شهادة الروح القدس لبر المسيح بعد صعوده. فكما أن رئيس الكهنة كان يدخل قديماً إلى قدس الأقداس مقدماً الكفارة عن الشعب الذي كان يظل واقفاً خارجاً منتظراً حكم الله في الكفارة المقدمة منه, وما كان الشعب يطمئن, إلا بعد أن يرى رئيس الكهنة خارجاً من الهيكل وعلائم الظفر مرتسمة على محياه, دليلاً على أن الله قبل الكفارة المقدمة منه. كذلك بعد أن دخل كاهننا الأعظم إلى ما وراء حجاب قدس الأقداس العلوي, وغاب عن الأبصار, لم يبق سبيل إلى إقناع العالم بأن ذبيحة المسيح الكفارية قد قبلت, إلا بمجيء الروح القدس, من قبل المسيح, حاملاً بشرى قبول كفارته. عندئذ يتبكت العالم على بر المسيح: "فيسوع هذا أقامه الله .... وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب, سكب هذا ... فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً" (أعمال 2: 33 – 35) عدد 11. حجة تبكيته العالم على دينونة: "أما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين". ليست هذه دينونة العالم الأممي, التي كانت منتظرة من الأمم, ولا هي دينونة اليهود التي اتخذت مظهراً قوياً يوم خراب أورشليم بل هي دينونة "رئيس هذا العالم", وهي عربون وأساس دينونة الأمم واليهود. ومتى صرع السلطان ولت جنوده (راجع شرح 12:31 و33). هذه الدينونة تمت في الصليب والقيامة. وما إدانة الشيطان, إلا نتيجة ظهور قَدْ دِينَ.12«إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. 13وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ بر المسيح لأن تبرئة المتهم ظلماً, هي إدانة للمشتكي بهتاناً. فالمبلغ بلاغاً كاذباً يقع عليه عقاب من يقترف جريمة. السهم الخامس – الروح المعزي والتلاميذ (16: 12-15). بعد أن تكلم المسيح عن عمل الروح في تبكيته العالم, انتقل إلى كلامه عن عمل الروح في إرشاده التلاميذ وإنارتهم. عدد 12. قابلية التلاميذ المحدودة: "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم" – علاوة على الأمور الكثيرة التي حدثتكم عنها الآن – "ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن" – وليس السبب في ذلك, عدم ثقتي بكم. كلا. فإني قد سبقت وأكدت لكم أني لا أعود أسميكم عبيداً.. لكني قد سميتكم أحبائي لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (15: 15). وإنما سببه, عدم اتساع قابليتكم الروحية في الوقت الحاضر – "فأنتم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن". إن قابلية الإنسان هي قياس تمتعه بأي شيء. جسدياً كان أم روحياً. عدد 13- 15. اتساع قابليتهم الروحية بعد مجيء الروح القدس: "ومتى جاء ذاك ...". إن عمل الروح القدس متمم لعمل المسيح, كما أن عمل المسيح ممهد لعمل الروح: "إن لي أموراً... وأما متى جاء ذاك". في كلام المسيح عن عمل الروح في قلوب التلاميذ, حدثهم عن: - أ – أحد أسماء الروح الحسنى: "روح الحق". لقد سبقنا فأوضحنا المراد بهذا فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ الاسم: "روح الحق" في 14: 17. – ب – ماهية عمل الروح "يرشدكم"... "ويخبركم" ... "يأخذ مما لي ويخبركم". هذا عمل ثلاثي: (1) الإنارة: "يرشدكم إلى جميع الحق". كلمة "يرشد" تصور لنا سائحاً متجولاً في مملكة غريبة و"الدليل" يقوده "ويرشده" في أرض الغربة. فالروح القدس هو "دليل" التلاميذ في مملكة الحق. هذه هي إنارة الروح, وهي تتناول "جميع الحق" الذي سمعه التلاميذ من المسيح, ولم يعرفوا كل محتوياته ومكنوناته إلا بعد أن أنار لهم الروح جميع جوانب هذا الحق. فالمسيح أعطى التلاميذ الحق في البذرة, والروح القدس سينمي لهم هذا الحق, وينميهم فيه (14: 26). (2) الإلهام: "يخبركم بأمور آتية", هذا هو إلهام الروح, وهو امتياز خاص بالرسل, يتناول "أموراً آتية" لم يكن قد قالها المسيح للرسل بعد, لأنهم لم يستطيعوا احتمالها (عدد 12) – مثل الملهمات الإلهية التي وضعها الرسل في الرسائل وفي سفر الرؤيا – نظير قيام الكنيسة على أنقاض المجمع اليهودي, ومستقبل الكنيسة في مجاهدتها ونصرتها (رؤيا 1: 1- 3). (3) الإيهاب: "يأخذ مما لي ويخبركم". بعد أن يكون الآب قد مجد المسيح برفعه إليه. يأخذ الروح القدس من أمجاد المسيح وكمالاته. ويشع بها في قلوب التلاميذ. وقلوب سائر المؤمنين. هذا هو إيهاب الروح – وموضوعه شخص المسيح, وكمالاته. (ج). المصدر الذي منه يستمد الروح عمله. ذكر المسيح هذا المصدر, في كلمتين – أولاهما سلبية: "لا يتكلم من نفسه". فكما أن المسيح لا يتكلم بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. 14ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. 15كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهَذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ من عندياته, باعتبار كونه مرسلاً من الآب (14: 10). كذلك الروح القدس لا يتكلم من نقسه لكونه مرسلاً من المسيح. والكلمة الثانية إيجابية. وقد ذكر فيها مصدر مزدوج – جانبه الأول: ما يسمعه الروح من الآب والابن فيما يختص بتدبير الفداء. وجانبه الثاني: ما يقبله الروح مما للمسيح "لأنه يأخذ مما لي ويخبركم". عدد 14 و15. (د). غاية عمل الروح القدس: "ذاك يمجدني...كل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم". هذا دليل قاطع على أن المسيح شاعر بمجده الممتاز, لأن كل ما للآب هو له, وإن السبيل الأمثل, لتمجيد المسيح, هو فتح كنوزه مجده, وكمالاته, وأسراره, وإبلاغها إلى المؤمنين به. فكما أنه لاشيء يذل الفقير, نظير إشهار فقره وبؤسه أمام الآخرين, كذلك لاشيء يمجد الغنى نظير كشف كنوزه, وإظهارها, لأتباعه ومريديه, وإشراكهم فيها. لأن إظهار ما للمسيح, هو إظهار كل ما للآب. وردت كلمة "يأخذ" في صيغة الحال لتفيد العمل المستمر على التوالي. ووردت كلمة : "يخبركم" في صيغة الاستقبال. هذا دليل آخر على أن الروح شخص ذاتي. في عدد 15 ذكر الثلاثة الأقانيم – الآب, والابن, والروح القدس فالابن يأخذ مما للآب, والروح القدس يأخذ مما للابن. الابن يمجد الآب, مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. 16بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ».17فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ والروح القدس يمجد الابن. كل هذا قاصر على الوظيفة. وأما في الجوهر, والقدرة, والمجد, فالثلاثة الأقانيم متساوون, لأنهم إله واحد. السهم السادس – حزن يستحيل إلى فرح (16: 16 – 24). عدد 16. (1). تصريح للمسيح – قليل وقليل. "بعد قليل لا تبصرونني. ثم بعد قليل أيضاً ترونني لأني ذاهب إلى الآب". وردت كلمة "قليل" سبع مرات في الأعداد 16 – 19. وقد أراد بها المسيح وقتين مختلفين لهما نتيجتان متناقضتان: "بعد قليل لا تبصرونني". و"بعد قليل ترونني". فالـ"قليل" الأول مدته بضع ساعات, ابتدأت وقت تكلم المسيح معهم وانتهت بنزوله إلى القبر واحتجابه عن أبصار التلاميذ. هذا هو"القليل" الذي أراده بقوله "بعد قليل لا تبصرونني". وأما"القليل" الثاني الذي قصده بقوله: "بعد قليل أيضاً ترونني" فهو الوقت الذي ابتدأ بنزول المسيح إلى القبر, إلى اليوم الذي قام فيه وظهر لخاصته: "ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب" (20: 20). على أن هذا "القليل" الثاني لم ينته بيوم قيامة المسيح, لكنه امتد إلى يوم الخمسين حين أعلن المسيح ذاته لتلاميذه بالروح القدس (أعمال 2). هذا المعنى الثاني يؤيده باقي العدد: "لأني ذاهب إلى الآب" (عدد 16), ويدعمه كلام المسيح عن "ذلك اليوم" في عددي 23 و26. عدد 17 و18. (2). تساؤل قوم من التلاميذ واعترافهم بجهلهم: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَا هُوَ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَنَا: بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي وَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ؟». 18فَتَسَاءَلُوا: «مَا هُوَ هَذَا الْقَلِيلُ الَّذِي يَقُولُ عَنْهُ؟ لَسْنَا نَعْلَمُ بِمَاذَا يَتَكَلَّمُ». 19فَعَلِمَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْأَلُوهُ فَقَالَ لَهُمْ: «أَعَنْ هَذَا تَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ لأَنِّي قُلْتُ: بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي "فقال قوم من تلاميذه ما هو هذا... لسنا نعلم". يستنتج بعض المفسرين – وفي مقدمتهم جودي – أن في تساؤل قوم من التلاميذ بعضهم مع بعض, دليلاً على أن المسيح أفضى إلى تلاميذه بهذا الحديث في الطريق, لا في العلية, لأن مجال خلو بعضهم إلى بعض للتساؤل, يكون في الطريق, أوسع منه في العلية. على أنه من المحقق أن كاتب هذه الملاحظات الدقيقة, كان شاهد عيان. ويكاد يكون من المستحيل على كاتب – مهما كان جريئاً – أن يتحدث عن الضعف, والجبن, والجهالة, التي أحاطت بالرسل في هذا الظرف الخاص, ما لم يكن واحداً منهم. سيما وأنهم بعد هذا الوقت بمدة وجيزة – منذ يوم الخمسين فصاعداً – صاروا مضرب الأمثال في الشجاعة, والمعرفة, والإقدام, والإلهام. عدد 19. (3) حكمة المعلم والطبيب "فعلم يسوع" بقوته الخارقة التي تقرأ صفحات القلوب. "أنهم كانوا يريدون أن يسألوه. فقال لهم أعن هذا تتساءلان فيما بينكم ... الحق الحق أقول لكم" – هذا دليل آخر على حكمة المسيح المتناهية, التي ظهرت في علمه بذات الصدور, وفي معالجته ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي 20اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ. 21اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ ضعفات تلاميذه بأحسن الوسائل, وأدقها. فمع أن المسيح لم يجبهم عن تساؤلهم عما "هو هذا القليل الذي يقول عنه" – إذ ترك معرفة هذا, لاختباراتهم في ضوء مزمن, بنور الروح القدس – إلا أنه عالج ضعف قلوبهم, وسكب فيها عزاء مجيداً بنعمته, إذ عرفهم بالشعور الذي سيكونون عليه بعد كل من هاتين الفترتين المعبر عنهما بكلمة: "قليل". أنهم بعد "القليل" الأول سيبكون. وبعد "القليل" الثاني سيفرحون. ووجه العزاء. أن حزنهم ذاهب, وفرحهم مجيد خالد. عدد 20. (4) مقابلة مزدوجة: "الحق الحق ....". يقع هذا العدد في شطرين: في الشطر الأول نجد مقابلة بين حزن التلاميذ ونوحهم, وبين فرح العالم اليهودي: "أنكم ستبكون وتنوحون". بهذه الكلمات وص المسيح مبلغ تأثرهم في الفترة التي رقدها جسده في القبر. وفي الشطر الثاني, نرى مقابلة بين حزن التلاميذ الوقتي, وبين فرحهم الدائم الذي يعقب حزنهم. "أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح". أن فرحهم هذا سيكمل عند مجيء المسيح ثانية. عدد 21 و22. مزايا فرح التلاميذ: "المرأة وهي تلد تحزن ...". من مزايا هذا الفرح: (أ) إنه وليد ساعة الشدة (عدد21). ما ألذ الراحة تعقب التعب, وما أبهج الفرح يعقب الشدة. فمن الأمور المعزية والمشجعة: لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ وَلَكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ. 22فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلَكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَلاَ يَنْزِعُ (1) أن الشدة التي تعانيها المرأة, مهما تكن قوية بحدتها, فهي قصيرة في مدتها. لذلك وصفها المسيح بقوله: "ساعتها". (2) إنها شدة تسفر عن "ولادة إنسان في العالم", فيولد معه فرح لا يعبر عنه ومجيد. وكذلك ساعة الشدة التي قاساها التلاميذ لم تطل كثيراً, إذ لم تزد عن ثلاثة أيام, لكنها تمخضت عن مولد جديد – أعني به كنيسة المسيح الحي, عمود الحق وقاعدته. فقد ولدت الكنيسة يوم الخمسين. فأخلق بها من شدة مجيدة نحمد الله عليها. عدد 22. (ب) إنه فرح ناشئ عن عودة المسيح لرؤية تلاميذه: "فأنتم كذلك عندكم الآن حزن. ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم". في عدد 16 تحدث المسيح عن رؤية التلاميذ إياه, لكنه في هذا العدد تحدث إليهم عن رؤيته إياهم. حسن وجميل أن يتاح لنا أن نرى المسيح فنستمد منه العون كما يستمد العبد عونه من سيده حين يرفع نظره إليه. ولكن أحسن منه وأجمل, أن يجود المسيح تكرماً فيلقى نظرة علينا – هذه خير رعاية وعناية منه لنا. ما أبهى وأمجد أن تكون هذه الرؤية متبادلة بين المسيح وتلاميذه. (ج) إنه فرح قلبي لا ينزعه منهم أحد: "فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم". هذا امتياز الفرح الذي يهبه الله, على الفرح الذي يمنحه العالم. إن الفرح الذي يهبه الله هو فرح القلوب. أما ذاك الذي يهبه العالم فهو أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ. 23وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لاَ تَسْأَلُونَنِي شَيْئاً. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ. 24إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِاسْمِي. فرح ناشئ عن امتلاء الجيوب. الفرح الإلهي كنبع فياض في قلب الصخور والجبال, لا تستطيل إليه يد الحدثان, لكن الفرح العالمي دائم التقلب. فهو في هبوط وارتفاع, وارتفاع وهبوط – ما أكثر هبوطه وما أقل ارتفاعه. عدد 23. (د) إنه فرح مؤسس على معرفة وافية, وقوة كافية. فالمعرفة الوافية يدل عليها قوله: "في ذلك اليوم" – أي في يوم الخمسين – "لا تسألوني شيئاً". أي تكفون عن أسئلتكم (عدد 17 و18 و19) فلا تعودون تستفهمون مني عن شيء, لأن الروح القدس سيأخذ مما لي ويعطيكم, فيملأ قلوبكم بما تحتاجون إليه من المعرفة. والقوة الكافية ظاهرة من قوله: "الحق الحق أقول لكم. إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم". إن كلمة "كل ما طلبتم" جامعة في مداها, وهي تشير إلى صلوات التلاميذ باسم المسيح بعد امتلائهم من الروح القدس يوم الخمسين. هذا نبع قوة فياض للتلاميذ, لأنه بمثابة "تحويل" على بنك السماء, بغير قيد ولا شرط – إلا "اسم المسيح". ولقد أوضحنا المراد بهذه العبارة: "اسم المسيح" في 14: 13 و14. فاطلبها هناك. عدد 24. (هـ) حث وإنهاض. ونتيجتها. أما الحث, في قوله: "إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي". إن معرفة التلاميذ بهذا "الاسم" الجليل, كانت إلى الآن ناقصة مبتورة, فلم تبلغ مدى ملئها إلا بالإعلانات المجيدة التي اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً.25«قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا بِأَمْثَالٍ وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ حِينَ لاَ أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ بَلْ أُخْبِرُكُمْ أوحى بها إليهم الروح القدس يوم الخمسين, حين أفهمهم الغاية القصوى من تجسد المسيح ورسالته, وأحاطهم بأسرار فدائه, وأرق في قلوبهم نوراً سماوياً أبان لهم به حقيقة ذاته وصفاته. فما كانوا إذا يستطيعون أن يصلوا باسم المسيح. إلا منذ يوم الخمسين فصاعداً (14: 17 – 23). هذا مراد المسيح من قوله: "إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي". بل هذا هو أيضاً موقف كل إنسان يعيش قبل يوم الخمسين اختباراً. أما الإنهاض, ففي قوله: "اطلبوا تأخذوا – في هذه الكلمات, انتقل المسيح بفكر تلاميذه, إلى يوم الخمسين, حين يتاح لهم أن يصلوا باسمه – أي في مقامه وفي نور الإعلانات التي ستبلغ إليهم عنه. أما نتيجة الحث والإنهاض, ففي قوله: "ليكون فرحكم كاملاً". إن الفرح الكامل هو الفرح الناضج, الدائم الوجود, والمائي القلب. السهم السابع, والأخير – نصرة بعد كسرة (16: 25 – 33). عدد 25. إلى الآن ... وفي تلك الساعة: "قد كلمتكم بهذا بأمثال ولكن تأتي سلعة حين أخبركم عن الآب علانية". إلى الآن كلم المسيح تلاميذه "بأمثال" – مثل كلامه عن الكرمة والأغصان, والطريق, والمرأة في شدتها. على أن كلمة "أمثال " ليست قاصرة على الألغاز, والمجازات, والاستعارات, والكنايات المدونة في بشارة يوحنا , لكنها تشمل أيضاً الأمثال التي حفظها سائر البشيرين (انظر متى 13: ولوقا 15). وأما متى عَنِ الآبِ علاَنِيَةً. 26فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَطْلُبُونَ بِاسْمِي. وَلَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا أَسْأَلُ الآبَ مِنْ أَجْلِكُمْ 27لأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي جاءت "الساعة" التي يمتلئون فيها من الروح القدس يوم الخمسين, فحينئذ لا يكلمهم بألغاز غير مفهومة, بل يخبرهم عن الآب علانية, لأن الروح القدس سيعلمهم كل شيء بوضوح, وجلاء, وعلانية. عدد 26 و27. شدة محبة الآب للتلاميذ. ماهيتها: "في ذلك اليوم" – أي في يوم الخمسين – "تطلبون باسمي". هذا وصف لما يجب أن تكون عليه الكنيسة في سهرها, واستعدادها, وصلاتها. "ولست أقول أني أنا أسأل الآب من أجلكم لأن الآب نفسه يحبكم". أراد المسيح بهذه الكلمات أن يطبع على قلوب التلاميذ, صورة واضحة, جلية, لشدة محبة الآب لهم فأفهمهم أن الآب يحبهم من تلقاء نفسه, محبة قوية اختيارية. لا يحتاج معها إلى استعطاف من جانب المسيح لأجلهم. ولم يقصد الفادي بهذا الكلام أن ينفي شفاعته. كلا. فإن خلاصة الإنجيل كله, هي أن المسيح شفيعنا الأوحد (عب 7:25), ولا يعقل أن المسيح ينقض ما سبق فقرره في هذا الخطاب الوداعي (14: 16). وإنما أراد أن يحذر التلاميذ من أن ينظروا إلى شفاعته كأنها وسيلة لاستعطاف الآب نحوهم, لأن الآب يحبهم من تلقاء نفسه. ومن فرط محبته لهم, دبر لهم الفداء بما فيه شفاعة المسيح. ماهية محبة الآب لهم: "لأنكم قد أحببتموني وآمنتم إني من عند الله وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ. 28خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ وَقَدْ خرجت". هذه محبة الآب الخاصة نحو المؤمنين الذين دخلوا عائلته المقدسة يحق انتسابهم إلى ابنه الوحيد – إذ أحبوه, وآمنوا به. فبمحبتهم له, صاروا أهلاً لأن يكونوا موضوع محبة الآب (14: 21 و23). وبإيمانهم به, أعطوا سلطاناً أن يصيروا أولاد الله (1: 12). إن الله يعتبر أصدقاء ابنه, أصدقائه, ويميل إلى إجابة سؤالهم. وعلة ذلك – المسيح. لأنه فيه اختارنا, وفيه أحبنا, وفيه دعانا, وفيه بررنا, وفيه يقدسنا, وفيه يمجدنا. "لأنكم قد أحببتموني وآمنتم إني من عند الله خرجت". يقول جودي: ما دام التلاميذ ثابتين في المركز الجليل الذي أهلتهم له محبة المسيح , فليسوا في حاجة إلى شفاعة المسيح. ولكن إن سقطوا عن هذا المقام, وأخطئوا, عندئذ تلزمهم الشفاعة: "إن أخطأنا فلنا شفيع" (1 يو 2: 1). "أحببتموني وآمنتم" – من السهل على المرء أن يثق في من يحب. لأن الثقة تاج المحبة, وعدم الثقة وليد عدم المحبة. عدد 28. خلاصة مجيدة: "من عند الآب ... إلى الآب": هذه خلاصة مركزة لتاريخ رسالة المسيح, في أربع كلمات: نبع رسالته: "خرجت من عند الآب". مهبط رسالته: "أتيت إلى العالم". إنجاز رسالته: "وأيضاً أترك العالم". منتهى رسالته: "وأذهب إلى الآب". ويجوز أن نحلل هذه الآية الخالدة تحليلاً آخر: أزلية الكلمة: "خرجت من عند الآب". تجسد الكلمة: "وأتيت إلى العالم". أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ وَأَيْضاً أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ».29قَالَ لَهُ تلاَمِيذُهُ: «هُوَذَا الآنَ تَتَكَلَّمُ علاَنِيَةً إتمام رسالة الكلمة: "أترك العالم". أبدية الكلمة: "وأذهب إلى الآب". ومن الممكن أن ننظر إلى هذه الآية كأنها ترجمة مختصرة لحياة المسيح: من المجد: "خرجت من عند الآب", إلى المزود: "وأتيت إلى العالم". إلى جبل الزيتون: "وأيضاً ترك العالم", إلى المجد: "وأذهب إلى الآب". عدد 29 – 32. إقرار مفرح وتحذير مؤلم: "قال له تلاميذه ... أجابهم يسوع". عدد 29 و30. (أ) إقرار مفرح: "قال له تلاميذه ....". سمع التلاميذ من المسيح, تصريحه الجليل عن خلاصة ترجمة حياته: "من عند الآب ... إلى الآب" فوجدوا أنفسهم مغمورين بنور باهر, ما كانوا يتوقعونه, وشعروا كأن تصريح المسيح في عدد 28, قد سابق وعده المتضمن في عدد 25, فسبقه وغطاه. فأمام هذا التصريح النير, فاضت قلوبهم بإقرار, جاهروا فيه بـ: - أ – إدراكهم معنى كلامه بوضوح (عدد 29). – ب – تحققهم من علمه الكلي (عدد 30 أ). – ج – إيمانهم به (عدد 30 ب). عدد 29. – أ – مجاهرة التلاميذ بإدراكهم كلام المسيح بوضوح: "قال له تلاميذه, هو ذا الآن تتكلم علانية". كلمة : "هو ذا". كثيرة الورود في بشارة يوحنا . فقد وردت فيها وحدها أكثر مما في سائر أسفار العهد الجديد معاً (انظر 3: 26 و5: 14 و11: 36 و12: 19 و9: 4 و5 و14). وكلمة: "علانية" تدل على أنهم شعروا كأنهم في وَلَسْتَ تَقُولُ مَثَلاً وَاحِداً! 30اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهَذَا نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ نور نهار العلم الكامل, الذي وعدهم به المخلص في عدد 25, فصاروا لا يحتاجون معه إلى مزيد من النور. على أن "العلانية" كما قصدها المسيح, خاصة بإعلاناته عن الآب (عدد 25), و"العلنية" كما قصدها التلاميذ, تصف كلام المسيح عن رسالته هو (عدد28). وهي في كلا الحالتين تعني الوضوح من غير ألغاز, والجلاء من غير خفاء. عدد 30. – ب – إقرار التلاميذ بتحققهم من علم المسيح الكلي: "الآن" – قبل أن تأتي تلك الساعة المذكورة في عدد 25 – "نعلم" – علم اليقين والتحقق – "أنك عالم بكل شيء ولست تحتاج أن يسألك أحد". إن علم المسيح بنيات قلوبهم, وخواطر أفكارهم, قبل أن يصرحوا له بها, قد أنطق ألسنتهم بهذا الاعتراف الجميل, الذي يشبه اعتراف نثنائيل حين أنبأه المسيح بأنه رآه تحت التينة قبل أن يدعوه فيلبس (1: 48 و49). وأما قولهم: "ولست تحتاج أن يسألك أحد", فراجع إلى إجابة المسيح على أسئلتهم قبل أن يسألوه إياها (عدد 19). عادة لا يستطيع المعلم أن يفهم التلاميذ درساً, إلا متى فهم هو أفكارهم, ولا يستطيع أن يفهم أفكارهم إلا بالأسئلة التي يلقونها عليه. أما المسيح, معلمنا الأعظم, فقد أقر له التلاميذ بأنه "عالم بكل شيء وليس محتاجاً أن يسأله أحد". فقد أقروا إذاً بأنه عليم بذات الصدور. - ج – إقرار التلاميذ بإيمانهم بالمسيح ورسالته: "لهذا نؤمن أنك من الله خرجت". بإقرارهم هذا, رددوا صدى صوت المسيح في عدد 28: اللَّهِ خَرَجْتَ». 31أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «الآن تُؤْمِنُونَ؟ 32هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ وَقَدْ أَتَتِ الآنَ تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ "خرجت من عند الآب". إن هذا الإقرار – نظير إقرار نثنائيل – يتناول أمرين: أولهما: سمو أصل المسيح. وثانيهما: مصدر رسالته. عدد 31 و32. (2) تحذير مؤلم: "الآن تؤمنون؟! هو ذا تأتي ساعة ..." في هذه الكلمات يمتزج الاستفهام بالتعجب؟!. وهي ترينا – أ – أن المسيح أقر التلاميذ على إيمانهم هذا, ورحب به. (17: 8). – ب – إنه نبههم إلى عدم نضوج هذا الإيمان. وحذرهم من عدم ثباتهم أمام العاصفة: "هو ذا تأتي ساعة" – ساعة القبض عليه, وتسليمه إلى أيدي أعدائه, ومحاكمته, وصلبه – "وقد أتت الآن". بما أن أول حلقة من هذه السلسلة المحزنة قد وقعت, بخروج يهوذا من صفوفهم, واتفاقه مع الأعداء, فقد انفرطت معها سائر حلقات السلسلة, واعتبرت كلها في حكم الانحلال والوقوع. لذلك قال المسيح: "وقد أتت الآن". فضلاً عن ذلك فإن كلمة : "الآن" لا تعني مجرد وقت في سجل الزمن, لكنها تعين نقطة فاصلة في تدبير الفداء (5: 12 و13: 7 و33 ورؤيا 12: 10). ومن المحزن, أن يكون التلاميذ في هذه "الساعة" الفاصلة, غير خليقين بهذا الإيمان الذي جاهروا به, ب يرجعون القهقري, وينزلون عن هذا المستوي الراقي الذي رفعهم إليه حديث المسيح الوداعي. "تتفرقون فيها". كما تتفرق الرعية بعد أن يضرب الراعي (انظر 10: 12 وزكريا 11: 16 و13: 7). "كل واحد إلى خاصته". كلمة : خاصته "قد وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي. 33قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ تعني – بيته (19: 27), أو مهنته (متى 26: 56). - ج – المسيح ينبئهم بوحدته المأنوسة: "وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي". ما أشبه هذا النبأ باليوم الطبيعي! شطره الأول حالك كالليل: "وتتركوني وحدي". وشطره الثاني مضيء كالنهار: وأنا لست وحدي لأن الآب معي". الوحدة نوعان: وحدة محلية مكانية – كوحدة السجين في سجنه الانفرادي. ووحدة معنوية نفسية, هي تلك التي يقاسيها المصلح حين يكون محاطاً بجمهور من قومه وذويه, الذين لا يشاطروه أفكاره, وآماله, وآلامه. هذا النوع الثاني من الوحدة هو الذي قاساه المسيح فقد كان وحيداً في آماله, وآلامه, وأفكاره, وشخصيته, وصفاته, وتضحيته. حتى أثناء وجود التلاميذ معه, كان وحيداً. فكيف به بعد تفرقهم عنه؟ غير أن وحدته التي قاساها بالنسبة للغير, كانت في الوقت نفسه وحدة مأنوسة: "وأنا لست وحدي, لأن الآب معي". هذه هي الوحدة التي لا تعرف الوحشة. إن الانصراف ن الناس هيأ له فرصة مناسبة للاختلاء بالآب: "لأن الآب معي" – ليست هذه مجرد معية – وإن تكن ملكية – وإنما هي وحدانية الروح, والألفة, والمحبة, والمساواة. عدد 33. مسك الختام: "لكم في سلام ". "في العالم .... لكم ضيق ". وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ». "ولكن ثقوا أنا ...". ما أجمل هذا الختام الذي فيه رسم المسيح للتلاميذ صورتين متناقضتين وختمهما بنتيجة خالدة. في الصورة الأولى رسم لهم البيئة الروحية الداخلية المحيطة بهم: "في" وفي الصورة الثانية وصف لهم البيئة المادية الخارجية المحدقة بهم: "في العالم", ثم قارن بين هدوء البيئة الأولى: "في سلام ", وهياج البيئة الثانية: "في العالم ... ضيق ". ومن فرط حب الفادي, أنه لم يتركهم في حيرة من مصير كل من هاتين البيئتين, بل أنبأهم بالصراع العنيف الذي حمى وطيسه بينهما. فانتهى بانتصار المسيح على العالم. وردت استعارة "الغلبة", في كتابات يوحنا مراراً عدة, ومرتين فقط في كتابات بولس (رو 8: 37 و12: 21). ولم ترد قط في كتابات غيرهما. إن نصرة التلميذ, مستمدة من نصرة السيد, وأن حلقة الاتصال بينهما هي الثقة. فلن ينتفع التلميذ بنصرة سيده إلا على قدر ما يثق بسيده: "ولكن ثقوا". وأن مجد نصرة الفادي هو أنها تمت فعلاً. فإذا ما حاربت العالم, فلنذكر أننا نحارب عدواً مهزوماً, وإننا نجاهد جهاداً مضمونة نتيجته.
|