مكتبة الأخوة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
الأَصحَاح الثَّالثُ3: 1 – 21 1كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ أقبل عيد الفصح اليهودي, بلياليه المقمرة المضيئة, فكان كل ما في المدينة أورشليم متشحاً برداء فضي بهي, منسوج بأشعة قمر العيد, إلا قلوب رؤساء اليهود, الذين ملأ التعصب الأعمى نفوسهم, وضرب الليل حولها نطاقاً مظلماً من الجهل والعناد. وقد ازداد ظلام قلوبهم سواداً بعد أن وبخ المسيح أعمالهم المظلمة الظالمة, فظهرت شناعة خطيئتهم الخاطئة أمام شعاع وجهه الوضاح. فنسوا العيد وأفراحه, وجعلوا عيدهم الحقيقي أن يمسكوا المسيح بشيء. على أن الليلة الظلماء لا تخلو من بعض النجوم التي تلمع في سمائها. كذلك لم يخل هذا الجو المظلم المقتم من أناس آمنوا بالمسيح – وها نحن الآن أمام واحد منهم, اسمه نيقوديموس . ويستفاد من قوله "نعلم" ع 2, أنه ربما كان مرسلاً من الفريسيين ويتكلم باسمهم, لكنه كان على كل حال أفضل منهم – أو على الأقل صار أفضل منهم بعد هذه الليلة التاريخية التي صرف اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. شطراً منها مع المسيح. فلعله جاء مفنداً, فخرج مؤيداً. وهل يقوى الظلام على الوقوف طويلاً في حضرة النور؟ في هذا الفصل نرى: أولاً: وصف هذا الضيف 3: 1. ثانياً: الدرجات الثلاث التي ارتقى عليها الحديث بينه وبين المسيح 3: 2 - 13. ثالثاً: الإعلانات الممتازة التي أفضى بها المسيح إلى هذا الضيف 3: 14- 21. عدد 1. أولاً: وصف هذا الضيف 3: 2. هذا العدد الأول يصف نيقوديموس وصفاً رباعياً: (أ) طبيعته "إنسان". وهي ذات الكلمة التي اختتم بها الأصحاح السابق, وربما كان واحداً من الذين "آمنوا باسم المسيح إذ رأوا الآيات التي صنع" فصار فيما بعد إنساناً مؤمناً ومسلماً نفسه للمسيح. (ب) شيعته الدينية: "من الفريسيين" انظر شرح 1:24. (ج) اسمه: "نيقوديموس " – وهي اللهجة اليونانية للكلمة الآرامية: "نيقوديموس " ومعناها "النقي الدم" - أي الشريف الحسب, ويستنتج من التقدمة التي جاء بها بعد موت المسيح أنه كان غنياً (19: 39). وقد جاء في التلمود أن شخصاً بهذا الاسم كان رابع أربعة امتازوا بغناهم في العاصمة اليهودية, وأنه من أتباع المسيح. (د) درجته: "رئيس لليهود" . الكلمة المترجمة رئيس, هي في الأصل "أرخون" ومنها "الأراخنة" المستعملة في العربية لتصف زعماء الشعب من العلمانيين. وهي غير الكلمة المستعملة للرؤساء الأكليريكيين التي وردت في لوقا 23: 13. ولقد كان نيقوديموس من أعضاء السنهدريم (7: 50). 2هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً (ثانياً): الدرجات التي ارتقى عليها حديث نيقوديموس مع المسيح 3: 2- 13. (أ) نيقوديموس المتأدب 3: 2 و3. (ب) نيقوديموس المتعجب 3: 4 – 8. (ج) نيقوديموس المتعلم 3: 9 - 13. إن هذه الحادثة التي وردت في بشارة يوحنا وحدها, مطبوعة بذات الطابع العام الذي تميزت به البشارة - طابع التقدم والتدرج. وهذا يوافقه أيضاً التدرج الذي نراه في المواضع الثلاثة التي ذكر فيها نيقوديموس مستقيماً, وفي يو 7: 50- 53 نشاهد نيقوديموس مدافعاً عن المسيح - ولو أنه دفاع لم يخل من ضعف. وفي 19: 38 - 40 نجد نيقوديموس مجاهراً بإيمانه, ومقدماً علامة ولائه للمسيح. فلئن حرم تقديم الولاء للمسيح الحي, ففاتته ابتسامة التشجيع إلا أنه لم يحرم امتياز سكب تقدمة طيبة الرائحة على جسد المسيح. عدد 2 (أ) نيقوديموس المتأدب 3: 2 و3 . "هذا جاء إلى يسوع ليلاً .." لم يكن نيقوديموس مقحاماً جسوراً, بل كان متحفظاً, حريصاً, في كل حركة يأتيها – وفي الغالب كانت هذه الخلة علة مجيء نيقوديموس إلى يسوع "ليلاً". ويظهر أن لهذه الكلمة قيمة خاصة عند البشير حتى جعلها ملحقاً لاسم نيقوديموس أنى ذكره (7: 50, 19: 39). وقد وقع من نصيب نيقوديموس أن ارتبط اسمه باسم يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ يسوع "ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود" (19: 38) كأن الخوف والحياء جمعا بين قلبيهما في البداية, ثم ربطت الشجاعة ما بين نفسيهما في الختام. وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ لما استقر المقام بنيقوديموس حيى المسيح بالقول: "يا معلم" - هذه ترجمة الكلمة الآرامية "راب" وصارت تطلق على معلمي الشريعة اليهودية منذ أيام شمعي وهليل. وهي من مصدر معناه: "عظيم أو كبير". كما أنها على ثلاث درجات متفاوتة أبسطها كلها كلمة : "راب". وتليها كلمة : "رباي". وأعظمهن كلمة "رابون". تتلخص تحية نيقوديموس للمسيح في القول: "نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً" - هذه تحية تنم عن أدب يمازجه التحفظ. أما الأدب فظاهر من أن نيقوديموس لم يبخل على المسيح بلقب: "معلم" - مع علمه أنه لم ينل هذا اللقب رسمياً من "بيت المدراش". وأما التحفظ فواضح من قوله: "من الله". أي أن المسيح لم ينل إجازة التعليم من قبل رؤساء الكهنة بل من الله. كان نيقوديموس حريصاً على الرسميات. وفي حرصه هذا عظم المسيح ورفعه فوق كل مقام. ختم نيقوديموس تحيته للمسيح بأن ذكر الأساس الذي بنى عليه اعتقاده بأن المسيح معلم من الله - وهو إتيان المعجزات. "لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه". إذاً نيقوديموس واحداً من "الكثيرين" الذين آمنوا باسم المسيح "إذ رأوا الآيات التي صنع" (2: 23). فلا عجب إذ رأينا إيمانه ناقصاً في ناحيتين: أولهما أنه آمن بالمسيح كمعلم مع أن المسيح أعظم من معلم - أنه مخلّص. فليس عمله أن يدلنا على النور, بل هو النور, الواهب بصراً للعميان. وثانيهما هي أن الحد الأقصى لإيمانه هو أن "الله, مع المسيح". إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ». 3فَقَالَ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ عدد 3. رد المسيح على تحية نيقوديموس : كان رد المسيح على تحية نيقوديموس , مفرغاً في صور جدية قاطعة إذ واجهه بالقول: "الحق. الحق" ويلوح لنا أن المسيح لم يجب على تحية نيقوديموس بل أجاب على نية نيقوديموس . "لأنه كان يعرف الجميع. ولأنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان". وكما كان نيقوديموس متدرجاً في موقفه مع المسيح. كذلك كان المسيح متدرجاً في إعلاناته لنيقوديموس - في ع 3, أراه الضرورة الابتدائية للولادة الثانية. وفي ع 5, بين له الضرورة القصوى لها, وفي ع 12 و13, كشف له عن مصدر رسالته - فكان في هذه الأدوار متنقلاً مع محدثه من التعميم إلى التخصيص. هل أجاب المسيح بهذا الجواب على نيقوديموس , لأنه أراد أن يستعمل معه "أسلوب الحكيم" قاصداً أن يرفع محدثه فوق مستوى المجاملات الصورية ليواجهه بالحقائق الجوهرية, فأجابه لا على ما قال بل على ما كان ينبغي أن يقول؟ أم لأن تحية نيقوديموس للمسيح كانت تنطوي على رغبة في معرفة طبيعة الملكوت الجديد, فأراه الفادي أن الملكوت قد دخل فعلاً في عهد جديد فصار ملكوتاً جديداً بكل معنى الكلمة, لدرجة أن الطبائع القديمة لا تصلح له و لا يصلح هو لها لذلك "ينبغي أن يولدوا من فوق"؟ أم لأنه رأى أن إيمان نيقوديموس وقف عند حد الاعتقاد بأن المسيح "معلم" فأظهر له أنه أكثر من معلم - إنه مخلّص, يستطيع أن يهب الإنسان طبيعة جديدة؟ أم قصد أن يتأكد مما إذا كان المسيح هو مسياً المنتظر فأجابه المسيح بصورة خفية أنه هو هو؟ أم كانت كل هذه البواعث مجتمعة معاً؟. الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ». إن "الرؤية" المقصودة بقوله: "لا يقدر أن يرى ملكوت الله" هي التمييز الروحي الذي تقوم به البصيرة الروحية. فكما أن العين المادية لا ترى إلا الماديات المنظورة, كذلك لا يمكن أن ترى الروحيات الغير المنظورة إلا العين الروحية الموهوبة للإنسان "من فوق". هذه حقيقة طبيعية كما أنها روحية أيضاً. فكما أن الشعر لا يميزه إلا من ولدت فيه طبيعة شعرية, والموسيقى لا يفهمها إلا من ولدت فيه الأذن الموسيقية, كذلك لن يفهم, ولن يقدر أن يفهم مزايا الملكوت الروحي إلا من ولدت فيه هذه البصيرة الروحية الموهوبة له من فوق. وبما أن هذا الملكوت الروحي يتناول كل الإنسان, لذلك لا يمكن أن يرى هذا الملكوت إلا من ولد من فوق بكلياته وجزئياته, لدرجة يقال فيها عن كل ملكاته: "هوذا الكل قد صار جديداً" (2كو5: 17). إن تمويه الطبيعة القديمة بطلاء جديد , لا يفيد شيئاً, كما أن تغيير الشكل لا يجدي نفعاً. فقد تصاغ قطعة الرصاص مثلا ً- تارة على شكل ملاك وطوراً على شكل حيوان , لكنها تظل في طبيعتها رصاصاً كما هي. فالمهم هو تغيير الجوهر, تغيير النبع أولاً ثم المجرى, تغيير الشجرة أولاً ثم الثمرة - هو ترك الحياة القديمة, والانتقال إلى حياة جديدة, هو ولادة جديدة. وقد وصفت بالقول: "من فوق" تمييزاً لها عن الولادة الطبيعية, المادية, الأرضية. فكما أن الجسد تراب من الأرض, والروح نفخة من القدير من فوق, كذلك الولادة الروحية وصفت بالقول: "من فوق" نسبة إلى الله الآب مصدرها (يع 1: 18), وإلى الكلمة وسيلتها (1 بط 1: 23) 4قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» وإلى الروح القدس العامل فيها (ع 6), وإلى المسيح جوهرها (2كو 5: 17) فالتجديد لا التهذيب هو الأمر الأساسي, والتغير لا التطور هو الغاية المنشودة. وردت كلمة "ملكوت الله" مرتين في هذه البشارة – المرة الأولى في هذا العدد. والثانية في ع 5. وهي تحمل معنيين: أحدهما خارجي وهو نظام العصر المسيحي. والثاني باطني وهو المعلنات الإلهية التي أتى بها المسيح على الأرض وستكمل في السماء للمؤمنين. عدد 3. ثانياً: نيقوديموس يتعجب 3: 3- 8. (أ) تعجّب نيقوديموس 3: 3 و4. كان نيقوديموس مادياً وأنى للمادي أن يفهم الروحيات. لذلك لم يجد بداً من إظهار تعجبه من أقوال المسيح: "كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ . ألعلة؟." والظاهر أن نيقوديموس لم يفهم من الولادة إلا معناها المادي الجسدي – كذلك حال الإنسان الطبيعي, لا يفهم ما لروح الله. فهو دائماً متسلح بسلاحين: أحدهما: "كيف", والثاني "لماذا"ّّّّّّّ! لكنه لن يستفيد شيئاً حتى يطرح عنه هذين السلاحين ويستعيض عنهما بكلمة: "ماذا تريد يا رب أن أفعل"؟. عدد 4 سؤال نيقوديموس الساذج. كان نيقوديموس يفهم معنىً ضئيلاً جداً من معاني الولادة الجديدة, لأنه كان يعتقد أنه واجب على الأممي أن يولد من جديد إذا أراد أن يدخل إلى الدين اليهودي. ولم يخطر لباله أنه يجب على اليهودي أن "يولد من فوق ليدخل ملكوت الله". فكل ما كان يفهمه عن الولادة الجديدة التي يختبرها الأممي, أنها انتقال إلى بيئة جديدة. 5أَجَابَ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. أما الولادة الجديدة بمعناها الروحي فقد غابت عن "معلم إسرائيل". وأنى يتأتى لوليد الناموس أن يفهم لغة النعمة؟ لذلك أجاب جواباً صبيانياً مع أنه كان شيخاً: "ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد"؟ من الصعب على الشيخ الذي طبع بطبائع الناموس, وصار عبد الأجيال العتيقة, وأسير نظمها البالية, أن يولد من جديد . على أن الصعب شيء, والمستحيل شيء آخر. "وغير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله". عدد 5 (ب) جواب المسيح 3: 5 – 8. كان جواب المسيح جلياً بوضوحه مقتنعاً بسلطانه: "الحق الحق". وهو يتضمن (1) وصفاً للولادة الجديدة - "من الماء والروح" – الكلمة الأولى: "الماء" ترمز إلى العلامة الظاهرية, والثانية: "الروح" تشير إلى العامل الخفي. الأولى رمز, والثانية مرموز إليه([1]). الأولى سلبية تشير إلى غسل الماضي وترك الحياة العتيقة, والثانية إيجابية تشير إلى بناء الحياة الجديدة. و"الواو" هنا عطفية وصفية. وهي من قبيل قوله: "الروح القدس ونار". فالنار تفيد التطهير الخارجي, والروح القدس هو العامل في التطهير الداخلي. كذلك "الماء" يدل على الغسل الخارجي, والروح القدس يفيد الغسل الداخلي, كما قيل: "بغسل الماء بالكلمة" (أف 5: 26) أي بالكلمة المطهرة. (2) الضرورة القصوى للولادة الثانية: "لا يقدر أن يدخل ملكوت الله". 6اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. 7لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا عدد 6. (3) مبدءا طبيعياً عاماً: "المولود من الجسد, جسد هو, والمولود من الروح هو روح ". مفاد هذا المبدأ, أن الشيء يلد نظيره, وأن المياه لا يمكن أن ترتفع فوق منبعها. فالباب الطبيعي للدخول في مملكة ما هو الولادة في تلك المملكة. فالنبات يحسب نباتاً لأنه ولد بالطبيعة في مملكة النبات. كذلك الحيوان, ثم الإنسان. كذلك الأمر في النظم السياسية. فالوطني الصميم, هو الذي يولد في الوطن, لا من يشتري الرعوية (أعمال 22: 28 و29). عدد 7. "لا تتعجب إني قلت لك ... " أمام المبدأ الجوهري المذكور في العدد السابق, لا يبقى مجال لتعجب نيقوديموس من قول المسيح له: "ينبغي أن تولدوا من فوق". لأنه وإن كانت الولادة الثانية فوق العقل من حيث فاعليتها وسر جوهرها, إلا أنها معقولة جداً من حيث حقيقتها وضرورتها. وإن تكن خارقة للطبيعة من حيث إدراك كنهها, فلا ندري: "من أين" ولا "إلى أين", لكنها طبيعتها من حيث تيقننا من وجودها, وشعورنا بنتائجها. عدد 8. تمثيل من الطبيعة "الريح تهب ...." أوضح المسيح قوله لنيقوديموس: "لا تتعجب" بتمثيل طبيعي "الريح تهب .....". إن كلمتي "ريح ", "وروح" من اشتقاق واحد. فمن أوجه الشبه بينهما: لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».9فَسَأَلَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟» 10أَجَابَ يَسُوعُ: الحرية, والقوة والإنعاش, وسرية الأصل والغاية. إذاً لا حاجة لنيقوديموس أن يدخل بطن أمه ثانية ليولد الولادة الجديدة لأن الروح القدس يستطيع أن ينشئ في قلب الشيخ, بذرة حياة جديدة فيفنى الشيخ العتيق البالي, ويخلق منه إنسان جديد مطهر السرائر مقدس الفكر, يحب الخير ويكره الضرر. عدد 9. ثالثاً: نيقوديموس يتعلم 3: 9 – 13. (أ) سؤال نيقوديموس 3: 9. هذا الرئيس المتأدب, الذي بهره نور تعليم المسيح فتعجب, نراه الآن طالباً, متعلماً ومستفهماً: "كيف يمكن أن يكون هذا"؟ إننا كنا نمتدح نيقوديموس على هذا التقدم, لكن لنا عليه أنه للآن لم يلق عنه هذا السلاح القديم: "كيف"؟ وعله ألقاه نهائياً بعد أن جابهه المسيح بسلاح من نوعه حين قال له: "إن كنت قلت لكم .. فكيف"؟ ويظهر من قرينة الكلام أن "كيف" في عدد 4 هي غير "كيف" في عدد 9. "كيف" الأولى تعجبية. والثانية استفهامية تعليمية. "كيف" الأولى, اعتراضية, والثانية إعدادية تحضيرية. أما الآن وقد وقف "رئيس اليهود" موقف المتعلم, فلا مندوحة له من الاستفادة الحقيقية. عدد 10. (ب) جواب المسيح 3: 10-13. استهل المسيح جوابه لنيقوديموس في هذا الدور بـ (1) تعنيف لطيف على عدم علمه ع 10, في وقت يدّعى فيه العلم ع 2: "أنت معلم إسرائيل". هذه كلمة «أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا! 11اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا جارحة لكبرياء نيقوديموس الذي استهل كلامه مع المسيح بالقول: "نحن نعلم" ع 2. ولقد كان ضرورياً لنيقوديموس أن يسمع هذه الكلمة الجارحة بلطفها لأنه قد غاب عنه أنه يدري شيئاً عن الولادة الجديدة مع أن بعض أنبياء اليهود الأقدمين سبقوا فتكلموا عنها (أرميا 31: 33, حزقيال 36: 26 - 28, مزمور 143: 10و11) لكن أنى للناموسي الذي يتمسك بالحرف أن يفهم ما للروح؟. عدد 11 (2) توكيد يقيني عن حقيقة رسالته: "الحق. الحق" وردت هاتان الكلمتان مراراً في هذه البشارة (انظر المقدمة العامة). ويظهر أن المسيح نطق بهما كلما قصد أن يوحي إلينا بإعلان ممتاز مستمد من كنز قلبه, وهما تنمان عن السلطان المطلق الذي كان يحف بالمسيح كمعلم. بخلاف الكتبة والفريسيين الذين كانوا يقتصرون في تعاليمهم على ترديد أصوات المعلمين الذين سبقوهم (مت 7: 28 و29). "نتكلم .. نعلم .. نشهد .. رأينا" هذه أربع كلمات متماسكة في هذا العدد – الأولى والثانية تسيران معاً, والثالثة والرابعة تتمشيان معاً. الأولى تتطور إلى الثالثة, والثانية ترتقي إلى الرابعة. فالتكلم اليقيني يتطور شهادة , والعلم الراسخ يستحيل رؤيا. اختلف المفسرون في تعيين الأشخاص المقصودين بضمير الجمع في "نتكلم", "نعلم", "نشهد", "رأينا", فمن قائل إن المسيح يقصد نفسه وأنبياء العهد القديم, ومن قائل أنه يتكلم عن ذاته وعن الروح القدس, إلى قائل أنه يعني ذاته والآب, إلى قائل إنه يشير إلى نفسه ويوحنا المعمدان. وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. 12إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ونعتقد من جانبنا أنه يقصد نفسه وتلاميذه باعتبار كونهم مدرسة جديدة تقابلها المدرسة العتيقة البالية التي تتمثل في نيقوديموس وشيعته. ع11 و12 (3) تعنيف لطيف لنيقوديموس وشيعته "إن كنت قلت لكم الأرضيات" – سبق المسيح فعنّف نيقوديموس على عدم علمه (ع 10). والآن نراه يعنّفه على عدم إيمانه "لستم تقبلون" أي لستم تؤمنون. فالإيمان الصحيح هو مفتاح العلم الصحيح, والطاعة العملية هي مفتاح الإيمان. يستفاد من قول المسيح: "إن كنت قلت لكم الأرضيات ......" إن نيقوديموس كان عاقد النية على أن يظفر من المسيح بمعلنات من "السموات" فبين له المسيح المعلم الأعظم, إن الطالب لن يتعلم الباء إلا بعد أن يكون قد تعلم الألف. وأن النور الجديد لا يعطى إلا لمن يعمل بالنور الموجود. ويراد بـ "الأرضيات" تلك المعلنات الإلهية المتعلقة بالبشر في حياتهم على الأرض, وهي خلاصة رسالة المسيح للعالم. "والسموات" هي الأسرار الإلهية الخاصة بإرسالية المسيح من حيث نبعها وأصلها, وجوهر صلته بالآب, وما إلى هذه من الأسرار المخبوءة طي علمه تعالى. "فالأرضيات" هي موضوع رسالته: "توبوا وآمنوا بالإنجيل". "والسموات" هي أصل رسالته "من أين" "وإلى أين"؟ فليس لطالب الحق أن يتخذ موقف المستكشف الذي تساءل عن الينابيع, إنما عليه أن يشرب من الماء الصافي الزلال. لأن إعلانات الله تعطى للبشر على أقساط متدرجة متصاعدة, وطالب الحق يتقدم في معرفتها تدريجياً كمن يرتقي على درجات سلم. السَّمَاوِيَّاتِ؟ 13وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ. عدد 13. (4) لغز الأجيال "وليس أحد صعد ....", في هذا العدد أظهر المسيح لنيقوديموس شدة لزوم الإيمان لمن يريد أن يتعلم, ولعله قصد أن يريه شعاعاً من أنوار "السموات" إذ واجهه بإعلان ابتدائي عن (أ) تجسده: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء" (ب) لاهوته: "ابن الإنسان الذي هو في السماء" فهو على الأرض وفي السماء في وقت واحد. لأنه في السماء مع أنه نزل من السماء, وهو ابن الإنسان حال كونه ابن الله. إن فتح السماء وقت معمودية المسيح هو أقوى حجة لتبيان حقيقة هذا الكلام – فهو ساكن في السماء حال كونه يتمشى على الأرض. ومن صفات اللاهوت المنسوبة للمسيح في هذه الآية: (1) سبق الوجود لأن كلمة "نزل من السماء" تفيد أنه كان موجوداً قبل التجسد (2) الوجود في كل مكان في وقت واحد "السماء والأرض". (ثالثاً): المعلنات الممتازة التي أفضى بها المسيح إلى ضيف الظلام 3: 14 – 21. يضع كثير من المفسرين أهمية خاصة على حرف العطف "و" في بدء عدد 14, لأنهم يرون فيه انتقالاً ظاهراً في كلام المسيح من النظريات إلى العمليات – ومن الكلام عن المعلنات إلى الكلام عن شخصه – أو من التعميم إلى التخصيص. وفي الغالب, حرف الواو يكون حلقة اتصال بين سر سابق – سر التجسد, وسر لاحق – سر الفداء. لقد تحدث المسيح إلى نيقوديموس في هذا الفصل عن حقيقتين مهمتين: 14«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ أولاً: الفداء المعلن – 3: 14 – 16 ثانياً: المسؤولية المترتبة على إعلان الفداء 3: 17 – 21. أولاً: الفداء المعلن 3: 14 – 16 أعلن المسيح هذا الفداء لنيقوديموس في (ا) حقيقته "والله رفع ..." عدد 14 (ب) غايته "لكي لا يهلك ..." عدد 15 (ج) نبعه "لأنه هكذا أحب" عدد 16. عدد 14. (ا) حقيقة الفداء المعلن "والله رفع موسى ...." أراد المسيح أن يدخل حقيقة الفداء إلى قلب نيقوديموس فمثل له بحادثة معروفة في العهد القديم – حادثة رفع موسى الحية في البرية (عدد 21: 29), فانتقل بمحدثه من المعلوم – ونيقوديموس من رجال موسى – إلى غير المعلوم. وهنا منتهى الحكمة في التعليم. ومن أوجه الشبه بين تلك الحادثة القديمة وبين المسيح المصلوب: (1) أن الحية النحاسية كانت على شبه الحية التي سببت الموت للعالم. (2) إن الحية التي رفعت كانت خالية من السم – لأنها كانت من نحاس. كذلك المسيح الذي صلب كان معصوماً من كل خطية لأنه من السماء. (3) رفعت الحية على مرأى من الناس, كذلك صلب المسيح على الجلجلة – أكمة مرتفعة – لكي يراه كل عليل فيشفى. ولقد وردت كلمة "رفع" في بشارة يوحنا 3 مرات. وفي كل منها, تشير إلى الصليب والمجد الذي يليه. وفي هذا الثلاث المرات, نطق بها المسيح عن نفسه (يو 3: 14 و8: 28 و12: 32). (4) النظر بالعين المادية كان 15لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. 16لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ واسطة الشفاء من لسعة الحية, والنظر الروحي – الإيمان – هو واسطة الشفاء الروحي. عدد 15. (ب) غاية الفداء: إن كلمة : "ينبغي" التي وردت في قوله: "ينبغي أن يرفع ابن الإنسان", تفيد الضرورة الحتمية لتنفيذ تدبير إلهي سابق, قبله المسيح على نفسه إجابة لداع أدبي ذاتي في قلب المسيح. لشرح كلمة "ابن الإنسان" انظر تفسير 1: 51. "الحياة الأبدية" هي حياة غير محدودة في عمق سعادتها, وفي طول مداها. فهي أبدية في نوعها وفي كميتها. أما كلمة : "من" فهي واسعة ضيقة. واسعة لأنها تضم كل العالم في قلبها وضيقة لأنها لا تدخل إلا فرداً فرداً. عدد 16. (ج) نبع الفداء: "لأنه هكذا أحب ...." هذا نبع الفداء, بل قلبه. هذا سر الأسرار الإلهية, أن الله القدوس أحب العالم النجس المحكوم عليه بالهلاك, وكان جداً في محبته حتى بذل, وكان سخياً في بذله حتى جاد بابنه الوحيد. بهذه الكلمات قد وصل المسيح بنيقوديموس إلى ذروة الدرجات في سلم المعلنات الإلهية. في عدد 14 عرفه عن نفسه أنه ابن الإنسان والآن أراه ذاته أنه "ابن الله الوحيد". إذا نظرنا إلى هذا العدد نظرتنا إلى نهر جار, رأينا فيه (1) نبع النهر: "هكذا أحب الله" (2) مجرى النهر: "حتى بذل". (3) مصب النهر: "لكي لا يهلك ...." في هذا الصدد تتجلى لنا مقاييس المحبة الإلهية: (1) العرض: "العالم" .... "كل من يؤمن به". (2) الطول: حتى بذل ابنه. (3) العمق - من أعلى إلى أسفل: حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ "لكي لا يهلك كل من يؤمن به". (4) العلو – من أسفل إلى أعلى: "بل تكون له الحياة الأبدية". (انظر أفسس 3: 18). لماذا يحسب أمراً قابلاً للجدل, أن الله قدم ابنه الوحيد للناس؟ ألم يقدم إبراهيم فيما مضى, ابنه الوحيد لله (تك 22)؟ وهل من المعقول أن يسبق الإنسان إلهه في مضمار التضحية والبذل؟ كلا. ثم كلا. إن وجد في البشر شيء من الحب المقدس, فما هو إلا شعاعة من نور حب الله. هذا وصف جامع لمحبة الله البشرية الساقطة. ففيه نجد: (1) محبة الله في طبيعتها: "هكذا". (2) محبة الله في مداها وسعتها: "العالم". (3) محبة الله في برهانها وحجتها: "حتى بذل". (4) محبة الله في سخائها: ".. كل من يؤمن به". (5) محبة الله في تأثيرها وفاعليتها: "بل تكون له الحياة الأبدية". الكلمة: "بذل" تستعمل عادة لتفريغ الضغط. فكأن العوامل المحبة إلهية تجمعت في قلب الله فاضطرمت أحشاؤه, فوجد منفذاًً في البذل. إذاًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً لم يكن في الإمكان أن لا يبذل الله "ابنه الوحيد", ولمّا بذل استراح. والكلمة عينها تفيد العطاء السخي الذي لا ينتظر جزاء ولا مكافأة. إذا ليس الفداء اغتصابا لمحبة الله, لكنه تعبير طبيعي لها. "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة". أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه". (2 كو 5: 18 و19). ثانيا: المسؤولية المترتبة على الفداء المعلن. (3: 17-21). استنتج بعضهم من صمت نيقوديموس فيما بعد, أن حديث المسيح معه انتهى عند تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. 17لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى عدد 16, مع أن كلام المسيح يمتد حتى نهاية عدد 21. وإذا كان قد امتنع نيقوديموس عن الكلام فما ذلك إلا لأنه اقتنع. وما عساه أن يقول أمام هذه المعلنات الجليلة؟ وما على الأرض إلا الصمت حين تتكلم السماء! رأينا في الأعداد السابقة أشعة أنوار الفداء الإلهي, والغاية التي قصدها الله منه. على أن إعلان أنوار الفداء يترتب عليه أمر من اثنين: إما الدينونة لكل من يرفضه 3: 17-20 أو الاقتبال إلى الله لكل من يقبله 3: 21. وربما نطق المسيح بهذه الكلمات ليبدد بها سحب الظنون والأوهام التي كانت متلبدة في مخيلة الفريسيين من جهة انتظارهم مسيحاً يأتي خصيصاً ليدين أمم العالم. عدد 17 الغاية الأساسية من رسالة المسيح إلى العالم – الخلاص. من المؤسف أن هذا الفادي الذي أرسله الله نوراً وهدى للعالمين, قد صيره بعض الناس دينونة على أنفسهم, بسبب عدم قبولهم إياه. فأشعة الشمس شافية, لكن ضربة الشمس قاتلة. وأريج الزهور منعش لكن الحشرات السامة تمتص منه عصارة تحولها إلى سم ناقع. والقصد الأساسي من المياه أن تروي لكن الكثيرين يغرقون فيها. والنار خادمة لمن يحسن استعمالها, لكن من يسيء استعمالها يحترق بها. "لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" – الكلمة "يخلص" تفيد القبول الشخصي بالتخصيص. فمع أن الدينونة ليست الغاية الأساسية من رسالة المسيح وتجسده, إلا إنها نتيجة ملازمة لهما - فهي دينونة يفرضها الله على الناس فرضاً, بل هي دينونة يتطوع لها الناس اختياراً بسبب عدم قبولهم للمسيح. الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. 18اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ. 19وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. عدد 18 مقياس الدينونة – الإيمان أو عدمه. فكأنما المسيح, بدخوله إلى العالم قد أوقع الناس تحت مسؤولية جديدة - فإما أن يكونوا مؤمنين أو غير مؤمنين - هذا هو الميزان الأدبي والروحي الذي به يزن الله كل الإنسان في كفة الدينونة. بل هذا هو التعريف الجديد للخطية – "أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي" 16: 9. فالخطية إذاً هي عدم الإيمان بالمسيح. ليس الكلام هنا عن دينونة عتيدة أن تحل في اليوم الأخير, لكنه يصف دينونة قد وقعت فعلا, وحلت على رافضي المسيح... "قد دين". أما المؤمن فلا دينونة عيه منذ الآن (رو 5: 1 و8: 1). عدد 19 معنى الدينونة: "النور قد جاء إلى العالم. وأحب الناس الظلمة أكثر من النور". أما علة حبهم للظلمة, لأن "أعمالهم كانت شريرة". فالناس بحكمهم على المسيح يحكمون على أنفسهم "أحب الناس الظلمة أكثر من النور" – يا للفجور, ويا للخيانة! أيكون هذا صدى صوت محبة الله؟ هكذا أحب الله العالم حتى بذل ...." "هكذا أحب الناس الظلمة أكثر من النور"!! 20لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلَّا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. 21وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ». عدد 20 علة الدينونة: "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ....". فالعين الرمداء لا تقوى على مواجهة النور, والمجرم الأثيم لا يستطيع الوقوف أمام وجه العدالة, وحشرات الظلام تعجز عن أن تعيش في ضوء الشمس. عدد 21 الإقتبال إلى المسيح: "أما من يفعل الحق ...". لم يختتم المسيح حديثه مع نيقوديموس بصورة قاتمة مظلمة, بل بشكل مشجع مفرح. وليس من المستبعد, أن المسيح وهو ينطق بهذه الكلمات الأخيرة, كان يلقي على نيقوديموس نظرات مشجعة. كأنه قصد بهذه الكلمات أن يصف نيقوديموس الذي هبطت بذرة الإيمان إلى قلبه منذ هذه المقابلة, فنمت وترعرعت (7: 50), ونضجت فأثمرت ثمراً طيباً, كله طيب (19: 39). وجدير بنا أن نلاحظ أن الكلمة: "يفعل" في ع 21, هي غير الكلمة: "يعمل" في ع 20. الأولى تفيد حالة عامة والثانية تعني اختباراً خاصاً. وما "فعل الحق" سوى رفع حياة الإنسان الأدبية والروحية إلى مستوى النور المعلن له. فلا فضل للإنسان في فعل الحق لأن العامل الأساسي في ذلك هو الله, وما الإنسان سوى أداة منفذة" "لتظهر أعماله أنها بالله معمولة". ولا عذر لمن يدان لأنه هو الحاكم نفسه بنفسه. 3: 22 – 36 22وَبَعْدَ هَذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ قضى المسيح أيام الفصح في أورشليم , فلم يقابل فيها من اليهود إلا بالصد والجفاء. فكان جو تلك المدينة مظلماً لولا كوكب واحد كان يسطع في سمائه – نعني به نيقوديموس . وبعد هذه الزيارة الموجزة, ترك المسيح عاصمة اليهود, فجاء وتلاميذه إلى ريف اليهودية "ومكث معهم هناك وكان يعمد" ليعد الطريق لنفسه, وليدرب تلاميذه على الخدمة. ينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولاً: صورة تاريخية (3: 22 - 26). ثانياً: خطاب يوحنا المعمدان عن نفسه "صديق العريس" – وموضوعه "أنا" (3: 27 - 30). ثالثاً: خطاب يوحنا المعمدان عن شخص المسيح – "العريس" – وموضوعه "هو" (3: 31 - 36). عدد 22: أولاً: صورة تاريخية 3:22-26: "وبعد هذا" - هذه كلمة تربط ما يأتي بما مضى. "جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض اليهودية". أي إلى خلاء اليهودية في الريف. "ومكث معهم وكان يعمد" – هذا دليل على أنه أقام بعض الوقت هناك. ويستنتج من مقابلة قوله: "وكان يعمد" بما جاء في 4 :2, إن المسيح كان يجري المعمودية بواسطة تلاميذه. أي أن المسؤولية الأدبية كانت ملقاة على المسيح لكن الممارسة المادية كان يقوم بها التلاميذ. فالمسيح هو الآمر والراسم, والتلاميذ هم المنفذون. وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ وَكَانَ يُعَمِّدُ. 23وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُونَ - 24لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي السِّجْنِ. 25وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تلاَمِيذِ كما في حادثة إشباع الآلاف, كان المسيح العامل الرئيسي في المعجزة, مع أن التوزيع تم على أيدي التلاميذ (6: 11). ع23و24 كلمة تاريخية: "وكان يوحنا " – المعمدان - "أيضاً يعمد في عين نون " - ومعناها: نبع الحمامة - "بقرب ساليم" وهما غالباً جزء من البقاع القديمة التي وقعت من نصيب سبط يهوذا (يشوع 15: 31 و32). وكانتا معروفتين قديماً بـ "شلحيم وعين جنيم" فآلت بالاستعمال اللفظي إلى "ساليم وعين نون ". أما السبب في اتخاذ يوحنا تلك البقاع مقراً لعمله فهو: "لأنه كان هناك مياه كثيرة" - وواضح أن معمودية المعمدان كانت تمارس بالتغطيس. إلى الآن كان يوحنا متمتعاً بحريته, "لأنه لم يكن يوحنا قد ألقي بعد في السجن" . هذه الإشارة لها قيمتها الخاصة إذا نظرنا إليها في ضوء الكلمات الواردة في (مت 4: 12 و13 و17, مرقس 1: 14) فهي تعين لنا بالضبط وقت ابتداء خدمة المسيح الجهرية. هذه حجة دامغة على اتفاق البشيرين. عدد 25. ثانياً: خطاب يوحنا المعمدان عن نفسه – صديق العريس – وموضوعه "أنا" 3: 25 - 30 (أ) الظروف الذي استوحى يوحنا بهذا الخطاب يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ التَّطْهِيرِ. 26فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هُوَذَا الَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ 3: 25 و26. إن وجود المسيح ويوحنا المعمدان - أحدهما على مقربة من الآخر, وكلاهما يمارس عملاً واحداً - المعمودية, قد أثار شيئاً من الجدل والحوار بين تلاميذ يوحنا الحريصين على الدفاع عن كرامة سيدهم وخدمته, وبين بعض اليهود "من جهة التطهير". والمراد "بالتطهير", تلك الغسلات التي كان ينبغي على اليهود أن يمارسوها استعداداًً لدخولهم إلى ملكوت المسيح , والمعمودية هي أحد عناصر هذا التطهير. ولا يبعد أن هذا البعض من اليهود أظهروا أمام تلاميذ يوحنا تفضيلهم معمودية المسيح على معمودية سيدهم فكان من الطبيعي أن يلجأ المعمدان إلى معلمهم ليهدئ روعهم, ويخبرهم بحقيقة الأمر. عدد 26 (ب) استجوابهم للمعمدان. "فجاءوا إلى يوحنا وقالوا له. يا معلم" هذه كلمات جارحة تقطر مرارة وسماً- ما أشبهها بالحية, لسعتها في ذنبها - "هو ذا الذي أنت شهدت له هو يعمد والجميع يأتون إليه" - والنبرات واقعة على الكلمتين: "أنت", "وهو". كأنهم قصدوا أن يقولوا له: "هذا جزاء شهادتك للمسيح يا يوحنا . لقد شهدت له, فقضيت على نفسك. لقد بنيته فهدمت نفسك. لذلك قد زاحمك في خدمتك الفذة الممتازة, وزاد عليك باجتذاب الجميع إليه, ومن بينهم بعض تلاميذك, وأخصهم يوحنا ". هذه فرصة هيأها عدو الخير ليوقع فيها يوحنا في حبائله, وليثير في نفسه عوامل التمرد والانتقاض على المسيح, بحجة الدفاع عن النفس لكن يوحنا العظيم اقتنص هذه الفرصة لإرادته وأفسد على عدو الخير مكيدته, الَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ هُوَ يُعَمِّدُ وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ» 27فَقَالَ يُوحَنَّا: «لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ وفاه بكلمات جليلة, اعتبرتها الأجيال المثل الأعلى للعظمة الحقيقية. لأن يوحنا في دفاعه عن نفسه نسي نفسه. وأمام الشمس يختفي كل سراج مهما كان "موقداً منيراً". بهذه الكلمات, وضع عدو الخير أمام يوحنا حجر عثرة لكي يصطدم به, لكن يوحنا انتفع بهذا الحجر فأقام منه تمثالاً خالداً للعظمة الحقيقية. في كلام تلاميذ يوحنا مع معلمهم, برزت كلمتان, وهما: "أنت", "وهو" فأمسك يوحنا المعمدان بهاتين الكلمتين, وجعل أولاهما: "أنت" - وهي على لسان يوحنا : "أنا" -موضوع الجزء الأول من حديثه (3: 27 -30). والثانية: "هو"- موضوع الجزء الثاني من حديثه 3: 31 - 36. الجزء الأول من حديث يوحنا 3: 27 - 30 وموضوعه: "أنا" تنطوي هذه الكلمات على (أ) مبدأ عام 27 (ب) تذكير ع 28 (ج) استعارة ع 29 (د) تطبيق ع 29 (ه) إقرار ع 30. عدد 27. (أ) مبدأ عام: "لا يقدر إنسان أن يأخذ.." مع أن هذا مبدأ عام, إلا أنه ينطبق على يوحنا بنوع خاص. فهو بهذا المبدأ يقول لتلاميذه: "إن الله مقسم الأنصبة. أما من جهتي فأنا قانع بنصيبي الذي أعطانيه الله, ولن يمكنني أن أسمو فوق رتبتي لأكون معادلاً للمسيح الذي له رتبة ممتازة لا يدانيه فيها سواه. فهو المرسل وأنا الرسول. هو العريس يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ السَّمَاءِ. 28أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ. 29مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وأنا صديق العريس. فالعروس له. والفرح لي. "ويجوز أن ينٍطبق هذا المبدأ على المسيح كفادٍٍٍٍٍٍٍٍٍ في ناسوته, لأن مقامه الممتاز لم يغتصبه لذاته اغتصاباً بل أعطيه من الآب. عدد 28. (ب) تذكير: "أنتم أنفسكم تشهدون". في هذا العدد أحالهم يوحنا على أنفسهم ليكتشفوا لذواتهم حلاً لهذه المشكلة التي وقعوا فيها, واستشهدهم على شهادته السابقة: "تشهدون لي أني قلت", وذكرهم بمضمون هذه الشهادة: "أني لست أنا المسيح بل أني مرسل أمامه". انظر شرح 1:20 و23 صفحة 51 و54). عدد 29. (ج) استعارة: "من له العروس فهو العريس". هذه استعارة استقاها المعمدان من كتابات العهد القديم (هوشع 2: 19؛ أشعيا 62:5؛ مزمور 45: 9 و14), للتعبير عن الصلة التي تربط المسيح بكنيسته, وبها قرر نسبته إلى المسيح - فالمسيح عريس والمعمدان صديق العريس, الذي يعرف عند اليهود بـ "الشوشبين". ومنها "الإشبين" الذي كان من عمله أن يهيئ العروس للعريس "ويقف" منتظراً إياه, وقفة الاستعداد والانتظار – "فيفرح فرحاً من أجل صوت "العريس" عند قدومه, ويسلمه العروس". (د) تطبيق: "إذاً فرحي هذا قد كمل". عوضاً عن أن يغضب يوحنا ويكتئب لمعرفته بأن الجميع يأتون إلى المسيح, نراه يفرح فرحاً كاملاً, وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هَذَا قَدْ كَمَلَ. 30يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ لأنه وجد في اقتبال الناس إلى المسيح, علامة على أن العروس قد هيئت لعريسها,. إن عمله كصديق العريس قد كمل بتسليم العروس لعريسها. إذاً فقد تكللت جهوده بالنجاح, وكمل فرحه, بتسليمه تلاميذه إلى المسيح. عدد 30. (هـ) إقرار: "ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنقص". هنا بلغ يوحنا ذروة التضحية الشريفة. هذا هو الفناء بعينه, بل هذه هي المحبة في أسمى مراتبها - أن يفنى المحب في شخص من أحب. يستفاد من كلمة "ينبغي" أن يوحنا كان ينظر إلى نقصانه هو وازدياد ذاك, نظرته إلى نتيجة حتمية لناموس طبيعي ثابت. وهو أيضاً يعبر عن رغبة طبيعية تجيش في قلبه, طوعاً وحباً. ولقد تمت هذه الحقيقة بأكثر مما ظن يوحنا . لأنه بعد قليل سجن, وقطعت رأسه في السجن, وأضحى نسياً منسياً في وقت كان فيه اسم المسيح, يزداد ّذيوعاً ورفعة. لا تنطبق هذه الكلمة على يوحنا وحده, لكنها تتناول أيضاً نظام العهد القديم الذي كان ممثلاً في يوحنا , ففي ذلك بدأ ظل اليهودية الطقسية يتقلص تدريجياً ويطوى, ليعطي مجالاً لنور المسيحية الذي بدأ ينشر في الأرجاء. هذا إقرار مجيد يجب أن يكون شعار كل خادم, بل كل مؤمن. فينبغي أن تفنى الذات تدريجياً, ويمتلئ القلب بالمسيح, إلى أن، يصير المسيح الكل في الكل. في بدء حياة الإنسان يكون شعاره: "أنا, لا المسيح", وعند إيمانه يصير شعاره: "أنا, والمسيح". وإذ يتقدم في النعمة يصبح شعاره: وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. 31اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ "المسيح, وأنا". وإذ يتكمل في النعمة يتمجد شعاره فيصير: "المسيح. لا أنا". في هذا العدد جزءان - ما أشبههما بالعينين الباصرتين. بإحداهما: "ينبغي أن ذاك يزيد", ينظر إلى ما يأتي من الكلام (3: 31 - 36), وبالثانية: "وإني أنا أنقص", ينظر إلى ما مر من الكلام (3: 27 - 30). الجزء الثاني من خطاب المعمدان – وموضوعه: "هو" 30: 31 - 36. في هذا الجزء يذكر يوحنا سمو العريس في: (أ) علو أصله (ع 31). (ب) كمال تعاليمه (ع32 - 34). (ج) رفعة بنوته (ع 35). ثم يختتم الحديث بمبدأ عام في ع 36 كما استهله بمبدأ عام في ع 27. عدد 31. (أ) العريس في علو أصله: "الذي يأتي من فوق.." أراد يوحنا بـ"الجميع" كل الأنبياء بما فيهم شخصه. والعبارة: "من الأرض" ومشتقاتها, وردت ثلاث مرات في هذا العدد. في المرة الأولى, تشير إلى أصل الإنسان: "من الأرض". وفي الثانية تعني طبيعة الإنسان: "أرضي" - أي ترابي. وفي المرة الثالثة تصف مصدر التعليم "من الأرض يتكلم". وأما السماويات فقد أعطى للمسيح وحده أن يتكلم بها ع 13. بعد أن تكلم المعمدان عن "الجميع" - الأرضيين, عاد إلى الشخص السماوي هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ 32وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا. 33وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ 34لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ. العجيب الذي هو موضوع كلامه: "الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع" - في الأصل وفي الرتبة. عدد 32 - 34 (ب) العريس في كمال تعليمه 3: 32 - 35. إن تعاليم المسيح كاملة, لأنها مستمدة من كنز قلبه. "ما رآه ما سمعه". ولا شيء أدل على أن اليهود من الأرض, أكثر من كونهم لم يقبلوا هذه الشهادة السماوية: "وشهادته ليس أحد يقبلها" - هذا صدى صوت المسيح في ع 11. ولئن سلم يوحنا بأن أفراداً قبلوا المسيح لكنه يقصد اليهود كمجموع سيما أعضاء مجمع السنهدريم. وأما كل "من قبل شهادته فقد ختم بأن الله صادق", لأن الإيمان هو تصديق كلام الله. ولعل الكلام هنا ينطوي على إشارة ضمنية إلى ختم الشهادة التي نطق بها الآب عن المسيح عند المعمودية. فما أجلّ المقام الذي رفع إليه المؤمن إذ يعطى حق ختم شهادة الله واعتمادها! ومن المحتمل أن يكون معنى هذه الكلمات, أن الذي يقبل المسيح يجد فيه ختماً لكل النبوات والمواعيد. إن تعاليم المسيح ذات قيمة جليلة ممتازة لأن المتكلم بها ممتلئ بروح الله. "ليس بكيل يعطى الله الروح". إن أولئك الجميع تكلموا بكلام الله ولهم 35اَلآبُ يُحِبُّ الاِبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. 36اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ نصيب من روح الله, لكن المسيح وحده قد "سر أن يحل فيه كل الملء". فإن أخذ غيره نصيباً من الروح بكيل, إلا أن نصيب المسيح من الروح, نصيب غير محدود. لأن الروح القدس هو روح المسيح نفسه. عدد 35 (ج) العريس في رفعة بنوته: "الآب يحب الابن. وقد دفع كل شيء في يده". هذا الكلام يعلل الحقيقة السابقة. فالروح أعطى للمسيح بدون كيل, لأنه ابن الله, وبحق بنوته قد دفع ليده كل شيء. والعلة الأساسي لكل هذا هي محبة الآب للابن وهي في الوقت نفسه علة طبيعية, فلا يمكن للآب إلا أن يحب الابن. ولا يمكن لمن يحب الابن إلا أن يدفع ليده كل شيء. إذا كان الآب في محبته للعالم بذل ابنه, فليس بعجيب أنه إذا أحب الابن, دفع كل شيء في يده. هذا صدى صوت الإعلان الذي سمعه المعمدان وقت معمودية المسيح: "هذا هو ابني الحبيب". رأينا في العدد السابق أن الروح أعطي للمسيح, وفي هذا العدد نرى أن كل شيء أعطي للمسيح. بالروح يملك المسيح في قلوب المؤمنين, لكنه ليس ملك المؤمنين حسب. بل هو ملك على الجميع. "وأخضع كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء". عدد 36. مبدأ عام: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" ع 36. ما أشبه هذا العدد باليوم الكامل – نصفه نهار : "الذي يؤمن ...." ونصفه الآخر وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ». ليل : "والذي لا يؤمن ....". الجزء الأول منه يذكرنا بخدمة المسيح - حياة في حياة , والجزء الثاني هو صدى آخر صوت في العهد القديم. إنه يذكرنا بما جاء في ملاخي "لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن" (4: 6). هذا دليل آخر على أن هذه كلمات المعمدان, آخر أنباء العهد القديم. بل هذه آخر كلمة نسمعها من المعمدان في هذه البشارة. إن القول : "غضب الله" لا يفيد غيظ الله تعالى, وحنقه, بل يعني حجب وجه الله عن الخطاة, وتغاضيه عنهم, فتخلو حياتهم من بركته تعالى. وجدير بنا أن نذكر في خاتمة هذا الأصحاح أن وعد الإيمان بالمسيح, وعد حاضر وبركاته حاضرة: "له حياة " - في الحال أولاً ثم في الاستقبال. لكن وعيد عدم الإيمان محفوظ إلى قتام ذلك اليوم الذي يحل بالفجار: "يمكث عيه غضب الله" فالغضب موجود لكنه محفوظ لينصب في حينه. هل يقوى الإنسان على أن يعيش باستمرار تحت ظل سحابة, فيحرم نفسه من نور الشمس ويقضي أيامه في البؤس والكآبة. فكيف إذاً حال من يعيش تحت غضب الله!؟ إن السماء وحدها تعلم مقدار بؤس مثل هذه النفس. ففي أي جانب أنت يا نفسي؟؟!! الموقف: "الذي يؤمن بالابن" "الذي لا يؤمن بالابن" الجزاء: "له حـياة" "لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله"
|