مكتبة الأخوة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
القسم 1: عقائدي، الإصحاحات 1-8برّ الله المُعلَن في الإنجيلمما لا ريب فيه أن رسالة رومية هي أكثر بسطٍ علمي للمخطط الإلهي لفداء البشر الذي سُرّ الله أن يعطينا إياه. بغض النظر عن مسألة الوحي كلياً يمكننا أن نرى فيها رسالة بحث تتناول قوة فكرية فائقة تخزي أكثر الفلسفات اللامعة التي فهمتها عقول البشر على الإطلاق. وجدير بالملاحظة أن الروح القدس لم يستخدم صياد سمك أُمّياً أو جليلياً بسيطاً ليكشف مخططه للفداء بكل جلاله وبهاء مجده. بل بالحري، اختار رجلاً ذا نظرة عالمية: مواطن روماني، وفوق ذلك يهودي من أصل عبراني؛ رجلٌ كانت ثقافته مزيجاً من المعرفة بالحضارتين اليونانية والرومانية، بما في ذلك التاريخ، والدين، والفلسفة، والشعر، والعلوم، والموسيقى إضافةً إلى اتصاله المعرفي الوثيق باليهودية، التي هي بآن معاً، وحي إلهي وجماعة ذات تقاليد ربّانية وإضافات أُلْحقَت بوديعة الناموس المقدسة، والأنبياء، والمزامير. هذا الرجل الذي وُلد في مركز الفخر الثقافي، طرسوس في قيليقيا، والذي تتلمذ على يد غملائيل في أورشليم، كان الإناء المختار ليُعلن لجميع الأمم بإطاعة الإيمان إنجيل مجد الله المبارك، كما عرضه على نحو رائع في هذه الرسالة الخالدة. من الواضح أنها قد كُتبت في مكان ما خلال الرحلة من مقدونيا إلى أورشليم، وعلى الأرجح في كورنثوس كما يؤكد التقليد. إذ كان على وشك أن يغادر أوروبة باتجاه فلسطين ليحمل للمسيحيين من أصل يهودي، إخوته أنسباءه حسب الجسد وفي الرب، العطايا السخية التي قدمتها الكنائس الأممية، كان قلبه يتشوق إلى رومية، "المدينة الخالدة"، معشوقة العالم القديم، حيث نشأت كنيسة مسيحية دونما خدمة رسولية مباشرة. وكان بولس معروفاً بالنسبة لعدد من أعضاء هذه الكنيسة وغريباً بالنسبة لآخرين فيها، ولكنه كان يشتاق إليهم جميعاً كأب حقيقي في المسيح، وكان يتوق بشدة لأن يشاركهم الكنـز الثمين الذي عُهد إليه به. فالروح كان قد أوحى له أن زيارة رومية هي وفق إرادة الله له، ولكن كان خفياً عليه زمان وظروف هذه الزيارة. ولذلك كتب هذا الشرح للمخطط الإلهي، وأرسله مع امرأة تقية، هي الشماسة فيبي في كنيسة كنخريا، التي كانت قد دُعيت إلى رومية في مهمة. وكان للرسالة فائدة مزدوجة إذ عرَّفَت المسيحيين الموجودين هناك بها (فيبي) ونقلت لهم بشرى برّ الله الرائع الذي أُعلن في الإنجيل بما يتوافق مع الشهادة التي عُهد إلى بولس بها. تأملوا في النعمة التي عهدت بهذه الرسالة التي لا مثيل لها إلى يدٍ ضعيفة واهنة لامرأة في مثل تلك العصور! إن كنيسة الله على مدى القرون تدين لفيبي بالعرفان وكذلك لله الذي رعاها وخصّها بمديح لا حد له لحفظها المخطوطة النفيسة التي سلّمتها بأمان إلى أيدي الشيوخ في رومية، ومن خلالهم إلينا. إن موضوع الرسالة هو برّ الله. وإنه يشكل إحدى الطروحات الثلاث الموحى بها والتي تقدم لنا معاً تفسيراً غنياً مذهلاً لنص موجز جداً ورد في العهد القديم. النص يرد في حبقوق، الإصحاح2، الآية 4، ويقول "أما البار فبإيمانه يحيا". هذا القول يُذكر ثلاث مرات في العهد الجديد ولكن مع تعديل طفيف وهو حذف هاء الغائب في كلمة (إيمانه). وهذه الرسائل الثلاث نقصد بها الرسالة إلى رومية، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة إلى العبرانيين والتي تستند كل منها إلى هذا النص. تركز الرسالة إلى رومية بشكل خاص على موضوع (البار). وتريد القول أن "البار يحيا بالإيمان" وفي هذا رد على السؤال المطروح في سفر أيوب : "كيف يتبرر الإنسان أمام الله؟" تفسر الرسالة إلى أهل غلاطية معنى كلمة (يحيا): "البار بالإيمان يحيا". فقد كان الغلاطيون يعتقدون خطأً أنه بينما نبدأ في الإيمان، فإننا نصبح كاملين بالأعمال. ولكن الرسول يوضح قائلاً أننا نعيش بنفس الإيمان الذي به تبرّرنا. "أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟" وتركز الرسالة إلى العبرانيين على موضوع (بالإيمان). "أما البار فبالإيمان يحيا". إنها تشهد على طبيعة وقوة الإيمان نفسه، الذي به وحده يسلك المؤمن الذي تبرّر. وبالمناسبة، هذا هو أحد الأسباب الذي جعلني أعتقد، بعد إمعاني الفحص في عدة حجج أو آراء تنفي نسْبَ رسالة العبرانيين لبولس، أن هذه الرسالة، وبدون أدنى شك لدي، هي صحيحة النسب لنفس كاتب رسالتي رومية وغلاطية. وهذا ما تؤكده شهادة الرسول بطرس، في رسالته الثانية، (الإصحاح 3: 15، 16)، إذ كان بطرس يوجه خطابه لليهود الذين اهتدوا إلى المسيحية ولهم أيضاً كتب بولس . إن الرسالة إلى رومية يمكن تقسيمها بسهولة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: فالإصحاحات1- 8 عقائدية، وتتناول موضوع بر الله كما أعلنه الإنجيل. والإصحاحات 9- 11 تدبيرية، وتوضح بر الله المنسجم مع طرقه التدبيرية. والإصحاحات 12- 61 عملية، وتتناول موضوع بر الله الذي يصنع البر العملي في المؤمن. كل جزء من هذه الأجزاء ينقسم بدوره، كما يبدو، إلى أقسام فرعية أصغر، وهذه إلى أجزاء، وأجزاء فرعية أخرى أيضاً. وإذ أضع المخطط التالي فإنما أبغي التوضيح فقط. وعلى التلميذ الذي يبتغي الدقة أن يفكر في دلالات أو معايير مناسبة أكثر لكل قسم، وقد يوزّع المقاطع المختلفة إلى تقسيمات بشكل آخر، ولكني أقترح التقسيم التفصيلي التالي الذي أراه بسيطاً وواضحاً: القسم الأول: عقائدي، (الإصحاحات: 1- 8): بر الله المعلن في الإنجيل. القسم الفرعي1: (الإصحاحات1: 1- 3: 20): الحاجة إلى الإنجيل · الجزء أ: (1: 1- 7): التحية · الجزء ب: (1: 8- 17): المقدمة. - الجزء الفرعي أ: (الآيات 8- 15): خدمة الرسول. - الجزء الفرعي ب: (الآيات16، 17): تحديد الغاية من الرسالة. · الجزء ج: (1: 18- 3: 20): خلو العائلة البشرية برمّتها من الصلاح والبر كما تظهر من خلال الأمثلة، أو، الحاجة إلى الإنجيل. - الجزء الفرعي أ: (1: 18- 32): حالة الوثنيين المنحطين الفاسقين- العالم الهمجي. - الجزء الفرعي ب: (2: 1- 16): حالة الأمميين المتحضرين، الأخلاقيين. - الجزء الفرعي ج: (2: 17- 29): حالة اليهود المتدينين. - الجزء الفرعي د: (3: 1- 20): الإدانة الكاملة للعالم بأجمله. القسم الفرعي 2: (3: 21- 5: 11): الإنجيل ومسألة خطايانا. · الجزء أ: (3: 21- 31): التبرير بالنعمة بالإيمان على أساس الفداء المُنجز. · الجزء ب: (الإصحاح 4): شهادة الناموس والأنبياء. -الجزء الفرعي أ: (الآيات1- 6): تبرّر إبراهيم . -الجزء الفرعي ب: (الآيات7، 8): شهادة داود . -الجزء الفرعي ج: (الآيات9- 25): لجميع البشر على نفس المبدأ. · الجزء ج: (5: 1- 5): السلام مع الله: أساسه ونتائجه. · الجزء د: (5: 6- 11): الخلاصة. القسم الفرعي 3: (5: 12- 8: 39): الإنجيل والخطيئة الساكنة فينا. · الجزء أ: (5: 12- 21): النسلان والرأسان. · الجزء ب: (الإصحاح 6): السيدان- الخطيئة والبر. · الجزء ج: (الإصحاح 7): الزوجان، الطبيعتان، والناموسان. · الجزء د: (الإصحاح8): انتصار النعمة. -الجزء الفرعي أ: (الآيات1- 4): لا دينونة؛ في المسيح. -الجزء الفرعي ب: (الآيات5- 27): روح المسيح في المؤمن. -الجزء الفرعي ج: (الآيات 28- 34): الله معنا. -الجزء الفرعي د: (الآيات35- 39): لا فاصل (عن محبة المسيح) القسم الثاني: تدبيري: (الإصحاحات 9- 11): بر الله المنسجم مع وسائله التدبيرية. القسم الفرعي 1: الإصحاح 9: علاقة الله في الماضي مع إسرائيل حسب اختيار النعمة. القسم الفرعي 2: الإصحاح10: علاقة الله الحالية مع إسرائيل بتأديب تدبيري. القسم الفرعي 3: الإصحاح 11: علاقة الله المستقبلية مع إسرائيل بتحقيق ما جاء في الكتابات النبوية. القسم الثالث: عملي: (الإصحاحات12- 16): البر الإلهي الذي ينتج براً عملياً في المؤمن. القسم الفرعي1: (الإصحاحات12: 1- 15: 7): إعلان إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. · الجزء أ: (الإصحاح12): سلوك المسيحي مع إخوته في الإيمان، ومع الناس في العالم. · الجزء ب: (الإصحاح13): المسيحي والسلطات الدنيوية. · الجزء ج: (الإصحاح14): الحرية المسيحية ومراعاة الآخرين. · الجزء د: (الإصحاح15: 1- 7): المسيح، مثال للمؤمن. القسم الفرعي 2: (الإصحاح15: 8- 33): خاتمة. القسم الفرعي 3: (الإصحاح16: 1- 24): تحيات. الملحق: (الإصحاح16: 25- 27): خاتمة الرسالة: كشف السر. أود أن أؤكد للتلميذ بإلحاح على أهمية أن يسجل في ذاكرته، قدر الإمكان، هذا المخطط، أو مخططاً تحليلياً مشابهاً للرسالة، وذلك قبل أن يحاول دراسة الرسالة نفسها. وإن الفشل في ترسيخ التقسيمات الرئيسية والفرعية في الذهن يفسح المجال لتفسيرات خاطئة وآراء مشوشة حقاً. فعلى سبيل المثال، كثيرون، من الذين لا يلاحظون مسألة التبرير التي تم طرحها في الإصحاحات 3- 5 يرتبكون عندما يأتون إلى الإصحاح 7. ولكن إذا فهمنا التعليم الوارد في الإصحاحات الأولى بشكل واضح، فعندئذ يمكننا أن نرى أن الإنسان الذي يُذكر في الإصحاح7 لن يطرح من جديد السؤال عن قبول الله للخاطئ بل سيهتم بسلوك القديس في القداسة. ومن ثم، ومرة أخرى نتساءَل كم من روح قد أصبحت شبه ذاهلة ضائعة لدى قراءة قضايا الأبدية في الإصحاح9، وبعيداً كلياً عما كان الرسول يقصده في رسالته، محاولين استحضار مواضيع السماء والجحيم إلى النص وكأنها القضايا الأساسية المطروحة هنا للنقاش، بينما يتحدث الله عن مسألة التدبير العظيمة عن اختيار النعمة الجليلة لإسرائيل، ورفضه الحالي بالاعتراف بهم كأمة مستقلة، بينما يفيض نعمته بشكل خاص على الأمميين. أذكر هذه الأمثلة الآن فقط لكي أؤكد لكل طالب على أهمية أن يكون لديه مخطط بكلمات صحيحة خلال دراسته هذا السفر أو أي سفر من الكتاب المقدس. وأضيف اقتراحاً أو اثنين. فحسناً أن تكون لديك "كلمات مفتاحية" أحياناً كي تتثبت الأمور في ذهنك. أشار أحدهم إلى رسالة رومية على أنها "رسالة دار القضاء". وهذا التعبير مفيد للغاية على ما أعتقد. ففي هذه الرسالة نجد الخاطئ قد أُحضر إلى قاعة المحكمة، دار القضاء، أي المكان الذي تصدر فيه الأحكام، وتبيّن بالدليل القاطع أنه مذنب تماماً ومدانٌ ومصيره إلى الدمار. ولكن بعمل المسيح تم وضع قاعدة أخلاقية للبر، وبناء على هذه القاعدة يمكن تبرير المذنب من أي تهمة. ولا يكتفي الله بذلك، بل إنه أيضاً يعترف صراحةً وعلانيةً أن الخاطئ الذي يؤمن هو ابنٌ له، جاعلاً إياه بذلك عضواً من نسل مفضّل، ومعيناً إياه وريثاً له. وهذا يشكل تحدياً في وجه جميع المعترضين: "فَمَاذَا نَقُولُ لِهَذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا؟" فليصمت كل صوتٍ لأن "الله هو الذي يبرّر"، وهذا ليس على حساب البر، بل في تطابق تام معه. وجهة النظر هذه يعللها بسهولة استخدام البنود القانونية والقضائية مراراً وتكراراً كما نجد في المناظرة. سُئِلَ خاطئٌ محتضرٌ مرة إذا ما كان يود لو أنه قد خَلَصَ. فأجاب قائلاً "كنت لأود ذلك بالتأكيد". وأضاف قائلاً بجد: "ولكني لا أريد الله أن يرتكب خطأ في تخليصه لي". ومن خلال الرسالة إلى رومية تعلم كيف أن "الله يكون باراً ويبرّر من هو من الإيمان بيسوع". وسوف تتذكر كيف عبّر سقراط عن نفسه قبل خمسمائة سنة من مجيء المسيح، فقال معرفاً أفلاطون بنفسه: "ربما يستطيع الله أن يغفر الخطايا، ولكني لا أعرف كيف". وهذا هو الدور الذي يضطلع به الروح القدس على نحو كامل كما نفهم من هذه الرسالة. إنه يرينا أن الله لا يخلص الخطأة على حساب بره. بمعنى آخر، إذا كان سيخلص أحداً على الإطلاق، فلن يكون ذلك من جراء إلقائه البر جانباً لكي تغلب الرحمة، بل إن الرحمة وجدت طريقة يمكن من خلالها للبر الإلهي أن يكون محققاً بالكامل وفي نفس الوقت يتبرّر الخطأة الآثمون أمام عرش عالي السماء. يشير الرسول يوحنا إلى نفس الحقيقة العجيبة هذه عندما يقول في (رسالته الأولى، الآية 9): "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ." كم سيبدو المنطق طبيعياً أكثر لعقولنا الضعيفة قبل أن نسترشد بفكر الله، لو قرأنا: "إنه رحيم ورؤوف ليرحم". رغم أن الإنجيل، بطريقة عجيبة مدهشة للغاية، هو إعلان رحمة الله، ويعلّي نعمته كما لا يستطيع أي شيء آخر أن يفعل، إلا أن السبب يعود إلى أنه يستند إلى أساس ثابت من البر الذي يعطي ذلك السلام الراسخ للنفس التي تؤمن به. فبما أن المسيح قد مات، فلا يمكن لله أن يكون صادقاً معه أو عادلاً مع الخاطئ الذي يؤمن إن كان لا يزال يدين من يؤمن بذاك الذي حمل خطايانا في جسده بالذات على خشبة الصليب. لذلك، فإن برّ الله الذي يُعظّم ويُبجّل في هذه الرسالة إلى رومية، حتى أن داود العهد القديم صرخ قائلاً: "بعدلِكَ نجِّني (أو خلصّني)". وهذا يشبه ما حدث مع لوثر وهو يتأمل في هذه الآية إذ بدأ النور يشرق على روحه المظلمة. لقد استطاع أن يفهم كيف أن الله كان بمقدوره أن يدينه في برّه، ولكنه رأى أن الله بدلاً من ذلك يخلّصه ببره، ففاض السلام ُ على نفسه. وإن عدداً لا يُحصى وجدوا نفس هذا الانعتاق من الحيرة عندما كشف هذا الإعلان المجيد عن بر الله المعلن في الإنجيل، فرأوا كيف أن "الله يمكن أن يخلّص وهو بارٌ لا يزال". إن أخفقنا في ملاحظة هذا الأمر ونحن ندرس الرسالة يكون قد غاب عن بالنا الهدف العظيم الذي لأجله أعطانا الله إياها. أريد أن أضيف فكرة أخرى أعتقد أنها هامة، وخاصةً بالنسبة لأولئك الذين يسعون لنقل الإنجيل للآخرين. وهذه الفكرة هي: في الرسالة إلى رومية لدينا الإنجيل يُبَشَّرُ به للقديسين، وليس الإنجيل يُوعظُ به للخطأة غير المخلَّصين. وأعتقد أنه لمن المهم جداً ملاحظة ذلك. فلكي تخلُص، إن ما هو ضروري فقط هو أن تؤمن بالمسيح. ولكن لكي نفهم خلاصنا، وهكذا نستحصل على الفرح والبركة التي يرغب الله في جعلها من نصيبنا، فإننا بحاجة لأن نرى عمل المسيح قد أُعلن لنا. وهذا الدور قام به الروح القدس في هذه الرسالة النفيسة. لقد كُتبت لأناس قد نالوا الخلاص للتوّ لكي تبين لهم الأساس الأكيد المضمون الذي يقوم عليه خلاصهم: وتحديداً، بر الله. عندما يعي المؤمن ذلك فإن الشكوك والمخاوف تتلاشى وتدخل النفس في سلام راسخ وطيد. (الإصحاحات1: 1- 17) وإذ نأتي إلى تمحص هذه الرسالة آية فآية، حسناً أن نتذكر من جديد الحقيقة الثمينة بأن "كل الكتاب موحى به من الله وهو نافعٌ". فقد تحدث الله من خلال كلمته، وهذه تحوي بعض أهم الرسائل التي أعطاها الله للجنس البشري على الإطلاق. يحسن بنا، إذاً، أن ندرس الرسالة بروح مليئة بالصلاة ومحاكمة الذات، واضعين جانباً كل تصوراتنا وأفكارنا المسبقة وتاركين الله يقوّم أفكارنا من خلال كلمته الملهمة. أو بالحري مستبدلين أفكارنا بأفكاره هو. إن الآيات السبع الأولى، كما لاحظنا تواً، تشكل التحية، وتتطلب التمحيص الدقيق. فها هنا بضعة حقائق نفيسة للغاية تُبلّغ إلينا بطريقة تبدو في غاية العفوية والبساطة. إن الكاتب، وهو بولس الرسول، يسمّي نفسه خادماً، وحرفياً عبداً ليسوع المسيح. لم يقصد بالطبع أن يقول أن خدمته كانت عبودية بل يقصد الطاعة الكلية الكاملة من كل قلبه الصادرة عن شخص أدرك أنه قد "اشتُريَ بثمن"، وهذا الثمن حتى هو دم المسيح الكريم. هناك حكايةٌ تُروى عن عبدٍ أفريقي كان سيّده على وشك أن يطعنه بحربة، وإذا بمسافر بريطاني شهم يمدّ ذراعه ليقيه الضربة، فأصيب بهذا السلاح الحاد. وإذ تدفق الدم منه طالَبَ بشخص ذاك العبد، قائلاً أنه اشتراه بألمه. فوافق السيد القديم على ذلك على مضض. وإذ سار هذا الأخير مبتعداً خرّ العبد على قدمي منقذه هاتفاً: "من اشتُري بالدم هو الآن عبدُ ابن الرحمة. وسوف يخدمه بإخلاص". وأصرّ على مرافقة منقذه الكريم، وكان يسرّه أن يقوم على خدمته بكل طريقة ممكنة. هذا ما فعله بولس، ويفعله كل من يُعتَق ويُفتَدى، إذ صار عبداً ليسوع المسيح. لقد حُرِّرنا كي نخدم، ولعلنا نهتف صارخين مع صاحب المزامير قائلين: "آهِ يَا رَبُّ. لأَنِّي عَبْدُكَ. أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ. حَلَلْتَ قُيُودِي." (المزمور 116: 16). لم يكن بولس خادماً بالمعنى العام وحسب، بل كان خادماً على نحو مميز استثنائي وشخصية رفيعة الشأن. لقد كان مدعواً رسولاً؛ ولكن ليس بمعنى "دُعي ليكون رسولاً". هذا أمرٌ قد لا يسترعي الاهتمام كثيراً في الظاهر، ولكن التعبير نفسه يرد في الآية 7 وقد يضللنا كلياً عندما نأتي إلى التمعن في الأمر. لا حاجة لأن نفكر ببولس كأحد التلاميذ الاثني عشر . البعض يطرح مسألة نظامية تعيين مقياس، ولكن يبدو لي أن نأخذ بعين الاعتبار كثيراً اختيارَه بالقرعة كونه آخر عمل رسمي في النظام القديم. لقد كان لابد، بالنسبة لشخص كان قد رافق الرب وتلاميذه من معمودية يوحنا، أن يشغل دون غيره المكانة التي خسرها يهوذا . وهكذا يكتمل عدد الرسل الاثني عشر للحَمل الذين سيسجلون (في الأيام المجيدة لتجدد الأرض التي نسميها عموماً الألفية) متربعين على العروش الاثني عشر ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر . إن خدمة بولس هي من نوع آخر. لقد كان الرسول البارز للأمميين وعُهِد إليه "تدبير السر" الخاص. وهذا يضع رسوليته على مستوى مختلف من تلك التي للرسل الاثني عشر . لقد عرفوا المسيح خلال حياته على الأرض، وخدمتهم كانت وبشكل محدد جداً مرتبطة بملكوت الله وعائلته. أما بولس فقد عرفه لأول مرة كيسوع الرب الممجد فنادى بشكل مميز بإنجيل المجد. لقد كان "مفروزاً لإنجيل الله". ولربما علينا أن نفكر حقاً بهذا الفرز من عدة وجهات نظر. لقد أُفرزَ لخدمته الخاصة المميزة من قَبْل ولادَته. وعلى غرار موسى، وإرميا، ويوحنا المعمدان كان قد أُفرزَ من بطن أمه (غلاطية1: 15). ولكن عليه أولاً أن يختبر ضعف وتفاهة الجسد. وبعدها أغدق عليه الله برحمته، وفُرزَ عن الجموع غير المسيحية ودُعيَ من قِبل النعمة الإلهية. ولكن كانت هناك أشياء أكثر من هذه. فبشكل من الأشكال كان قد تحرّر من كلِّ من شعب إسرائيل والأمميين ليكون خادماً وشاهداً على الأمور التي عاينها وسمعها. وأخيراً أُفرزَ مع برنابا لعمل محدد وهو التبشير بالإنجيل للأمميين، وذلك عندما كان في أنطاكية في بيسيديا، حيث قام الأخوة، إذعاناً للأمر الإلهي، بوضع الأيدي عليهما وإرسالهما ليعلنا بشارة الإنجيل إلى أقاصي الأرض. ولذلك فإن إنجيله يُدعى هنا "إنجيل الله". وفي الآية 9 يُدعى "إنجيل ابنه"، وفي الآية 16 يُدعى "إنجيل المسيح"، رغم أن هناك احتمال أن كلمة "المسيح" هذه هنا يجب إغفالها لأنها لا تظهر في عدد من أفضل المخطوطات. الآية 2 اعتراضية وتطابق بين الإنجيل والأنباء السارة الموعودة في فترة العهد القديم والتي تنبأ بها الأنبياء في الكتاب المقدس. "له يشهدُ جميعُ الأنبياء أنّ كل من يؤمنُ به ينال باسمه غفرانَ الخطايا". كان تيموثاوس قد تعلم، من الطفولية، الكتب المقدسة، ويقول الرسول أن هذه "قادرة أن تحكّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع". هذا الإنجيل ليس ناموساً جديداً. وهو ليس مجموعة من التعاليم الأخلاقية أو علم الأخلاق. وليس بقانون إيمان ينبغي قبوله. وليس هو بنظام ديني عليك أن تلتزم به. وليس هو مجموعة نصائح مفيدة يُستحسن أن تتبعها. إنه رسالة مسلّمة من الله تتعلق بشخص إلهي، وهو ابن الله، يسوع المسيح ربنا. هذا الكائن الممجّد هو إنسان حقيقي، وفي آن معاً هو الله نفسه. إنه الفرع الذي نما من أصل داود، ولذلك فهو إنسان حقيقي. ولكنه أيضاً ابن الله، ذو الولادة العذرية، الذي ليس له أب بشري، وهذا الشخص تظهر أعماله مصحوبة بسلطان. لهذه الحقيقة المقدسة شهدت روح القداسة عندما أقام الأموات إلى الحياة. إن التعبير "بالقيامة من الأموات" يعني حرفياً "بإقامته للأموات". وهذا يشمل أيضاً قيامته هو نفسه بالطبع: إضافة إلى إقامته لابنة يائيرس، وابن الأرملة، ولعازر. فهذا الذي استطاع أن يسلب من الموت فريسته كان إلهاً وإنساناً في أقنوم واحد مبارك جدير بالعبادة يستحق كل التسبيح والمديح، الآن وإلى الأبد. ومنه، هو القائم من بين الأموات، تلقى بولس نعمة (ليست فقط منّة لا يستحقها، بل أيضاً منّة مغايرة للاستحقاق أو الأهلية، لأنه كان يستحق النقيض تماماً)، كما واستلم مهمته الرسولية بدعوة إلهية، كي ينشر الإنجيل بين جميع الأمم، لإطاعة الإيمان لأجل اسم المسيح. لذلك فإن وظيفته الرسولية امتدت إلى أولئك الذين كانوا في رومية. فحتى الآن لم يَتَسَنَّ له زيارتهم شخصياً، ولكن قلبه كان يشتاق إليهم لأنهم هم أيضاً مدعوو يسوع المسيح، ولذلك فإنه يكتب "إلى جميع الموجودين في رومية، المدعوين قديسين". لاحظوا أنهم كانوا قديسين بنفس الطريقة التي كان هو فيها رسولاً، ونقصد بذلك، بالدعوة الإلهية. فنحن لا نصبح قديسين عن طريق السلوك بقداسة، بل لأننا معيّنون قديسين فإن علينا أن نظهر القداسة. على حسب عادته في رسائله، يتمنى بولس لهم النعمة والسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح. لأننا مخلّصون بالنعمة بالدرجة الأولى، فإننا بحاجة إلى النعمة لأجل المعونة في أوانها على الدوام. وإذ لنا سلام مع الله بدم صليبه، فإننا نحتاج إلى سلام الله لنحفظ قلوبنا في سلام وهدأة ونحن نسافر نحو الراحة الأبدية الباقية لشعب الله. الآيات8- 17 هي مقدمة الرسالة وتظهر بوضوح الأسباب التي دفعته للكتابة. من الواضح أن عملاً إلهياً قد بدأ في رومية قبل سنوات من كتابة هذه الرسالة، فقد كان إيمان الجماعة المسيحية هناك يُحكى عنه (مضرب مثل) في كل أرجاء المعمورة، أي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. وليس هناك أي دليل من أي نوع يدل على أن هذا العمل كان بشكل من الأشكال نتيجة لأي نشاط رسولي. فالكتابات المقدسة والتاريخ كلاهما يلتزمان الصمت حول من أسس الكنيسة في رومية. وبالتأكيد لم يكن بطرس هو الذي أسسها. وليس هناك أدنى سبب يجعلنا ننسب ذلك له. وإن التفاخر الذي تتبجح به الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بأنها تأسست على يد بطرس الصخرة وأن أسقف رومية هو خليفة القديس بطرس ما هو إلا لغو فحسب. لا يمكننا أن نعرف أبداً إذا كان أي رسول قد زار رومية قبل اقتياد بولس نفسه إلى هناك مكبلاً بالسلاسل. ويبدو أن ثمة سبب يتعلق بالعناية الإلهية منعه من الذهاب إلى هناك قبل ذلك. إنه يستشهد بالله (الله الذي قام بخدمته ليس خارجياً فقط بل في روحه، الإنسان الداخلي، في إنجيل ابنه) على أنه لم ينقطع عن الصلاة لأجل أولئك المؤمنين الرومانيين منذ أن سمع عنهم؛ ومع تضرعاته لأجلهم يبدو أنه طلب مرتين وبإلحاح من الله أن يعطيه الفرصة لزيارتهم إذا كانت تلك إرادة الله له في رحلة ملائمة مؤاتية. ونعرف جيداً أنه شتان ما بين ما كان يتوقعه بولس واستجابة الله لصلاته. وهذا يعطينا فكرة بسيطة عن حكمة الله ذات النفوذ في الاستجابة لكل صلواتنا. فما من إنسان كفؤ لأن يحدد ما هو مؤاتٍ أم لا. فطرق الله تختلف عن طرقنا. كان بولس يشتاق لرؤيتهم، على رجاء أن يستخدمه الله ليمنحهم هبة روحية تفيد في تثبيتهم في الحق. لم يفكر فقط في أن يكون بركةً لهم وحسب، بل كان يتوقع أن يكونوا هم أيضاً بركة له. كانوا ليتعزّون جميعاً معاً. لقد استعد مراراً كثيرة خلال السنوات الماضية للذهاب إلى رومية، ولكن مخططاته أخفقت. لقد كان يتوق لأن يكون له ثمرٌ هناك كما في مدن الأمميين الأخرى، إذ كان يجد نفسه محاوراً ومناظراً لكل البشر. إن الكنـز الذي عُهدَ إليه به لم يكن لمسرته الذاتية بل ليعلنه للآخرين، أكانوا يونانيين أم برابرة، مثقفين أم جهلة. وانطلاقاً من إدراكه هذا فقد كان على استعداد لأن يبشر بالإنجيل في رومية كما في أي مكان آخر. عندما يقول في الآية 16: "لستُ أستحي بإنجيل المسيح"، فإني أعتقد أنه يعني بذلك أكثر مما اعتاد الناس أن يفهمونه من هذه الكلمات. لم يكن يقصد القول أنه لم يكن يستحي بأن يُدعى مسيحياً وحسب، إنه كان دائماً مستعداً ليعلن بجرأة إيمانه بالمسيح، بل أن الإنجيل، ولكونه موحىً به، كان بالنسبة له يحوي مخططاً رائعاً لفداء البشر، ترتيباً موحى به من الله لحقيقة تتجاوز كل فلسفات الأرض، وهذه كان على استعداد لأن يدافع عنها في كل مناسبة. لم يكن الأمر، كما افترض البعض، بأنه مُنعَ من زيارة رومية لأنه لم يكن يشعر لأنه أهْلٌ لإعلان إنجيل المسيح في عاصمة العالم بطريقة يعجز فيها عن الرد عليه أو الدحض المنطقي لما يقوله، الفلاسفة المثقفون الذين كانت تكتظ بهم المدينة العظيمة. لم يساوره الخوف أبداً من أن يقدروا ببراهينهم وحججهم البارعة على هزيمته في طرحه للمخطط الوحيد الأكيد للخلاص. فهو أبعد من العقل البشري، ولكنه ليس منافياً للمنطق أو مخالفاً للعقل. إنه مخطط كامل لأنه من الله. لقد ثَبُت بالبرهان أن الإنجيل هو وسيلة الله الفعالة التي تحقق انعتاق الذين يؤمنون به، سواء كانوا من اليهود المتدينين أو اليونانيين المثقفين. لقد كان قوة الله وحكمة الله للخلاص. لقد كان يلبي كل حاجات الفكر، والضمير، وقلب الإنسان، لأن فيه برّ الله المعلن بحكمة الإيمان. أعتقد أن هذا هو المعنى الحقيقي للتعبير الصعب نوعاً ما الذي ترجم إلى "بإيمان لإيمان".إنه يعني "من الإيمان إلى الإيمان". أي على مبدأ الإيمان لأولئك الذين لديهم إيمان . بمعنى آخر، إنه ليس عقيدة الخلاص بالإيمان، بل إعلان الخلاص كلياً على أساس الإيمان. هذا ما أُعلن لحبقوق منذ قرون بعيدة قبل أن يقول الله للنبي القلق المضطرب: "أما البار فبالإيمان يحيا". هذا هو فحوى الرسالة بمجملها كما رأينا لتونا، وكذلك على نفس المنوال الرسالة إلى غلاطية والعبرانيين. إنها تعرض لنا جوهر المخطط الإلهي. وكان هذا مصدر الراحة لملايين الناس عبر العصور. لقد كان الأساس لما سمّي باللاهوت الأوغسطيني. لقد كان المفتاح الذي فتح باب الحرية لمارتن لوثر. وصار صرخة الحرب للإصلاح. وصار المِحك لكل نظام منذ ذلك الحين في الاعتراف بأنه من الله. فإن كان هذا كله خطأ الآن فمن المحتم أن يكون خطأ كذلك على الدوام. يستحيل علينا أن نفهم الإنجيل إذا أسأنا فهم المبدأ الأساسي أو أنكرناه. التبرير بالإيمان وحده هو امتحان الأرثوذكسية. ولكن ليس من فكر لم يلهمه الروح القدس قادر على أن يناله لأنه ينحّي آدم الأول جانباً لأنه في الجسد ولا نفع فيه، وذلك بغاية أن يتمجّد آدم الثاني، رجل مشورة الله، الرب يسوع المسيح وحده. فبالإيمان نعترف بفضله لأنه أنجز العمل الذي نلنا به الخلاص والذي به تمجّد الله وحده بالكليّة، وحُفظت قداسته، وظهر برّه، وليس ذلك في موت الخاطئ بل في خلاص جميع الذين يؤمنون. إنه إنجيل جدير بأن يكون من الله، وقد أظهر سيادته وسلطانه من خلال ما أنجزه في أولئك الذين تقبلوه بإيمان.
|