مكتبة الأخوة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
الإصحاحات 13 – 16 إن وضع المسيحي في هذا العالم, وبسبب نظام الأمور القائم, صعب لا محالة وغير سوي. إنه مواطن في عالم آخر, ويمر كغريب وسائح في أرض غريبة. ومن المفترض أن يكون ولاء قلبه للملك العادل, الذي رفضَه أهل الأرض واعتبروه مستحقاً الصليب كالمجرمين, فيجد المسيحي نفسَه مدعواً للسير بطريقة فاضلة محترسة واعية في عالم صار فيه الشيطان, المغتصب, أميراً ومعبوداً. ومع ذلك فلا ينبغي للمسيحي أن يكون فوضوياً ثائراً على السلطة الحاكمة, ولا أن يفتخر بالنظام القائم للأمور. إن دوره يجب أن يكون دائماً على النحو التالي: "علينا أن نطيع الله لا الإنسان". ومع ذلك فعليه ألا يكون في جناح المعارضة للحكومة البشرية, حتى ولو كان رؤساء هذه الحكومة من أردأ البشر. إذ نأتي إلى دراسة هذا الإصحاح الثالث عشر , يجدر بنا أن نتذكر أنه عندما كتب بولس رسالته هذه التي يطلب فيها الطاعة للسلطات أياً تكن, كان يتربع على عرش الإمبراطورية أحدُ أكثر الوحوش فساداً ورداءة على شكل بشري قد اعتلى عرشاً على الإطلاق– إنه بهيمة شهواني حسي, لم يتورع عن شق جثة أمه لكي يرى الرحم الذي أنجبه – شخص شرير, سمج وقح, أناني وخسيس لم تعرف له البشرية مثيلاً, وأعماله الوحشية ومظالمه لا يمكن وصفها. ومع ذلك فإن الله وبعنايته سمح لهذا التعس الذي يسيطر عليه الشيطان أن يعتمر تاج أعظم إمبراطورية عرفها البشر على وجه البسيطة. ويشير بولس نفسه في مكان آخر إلى هذا الإمبراطور بالوحش عندما يكتب للكارز الشاب تيموثاوس: "لقد خلصني الله من فم الأسد". رغم أن سلطات الإمبراطور كانت مقيدة إلى حد ما بالقوانين وبمجلس الشيوخ, إلا أنه لعب دوراً كبيراً في إنزال الدمار والهلاك بالكثير من المسيحيين الأوائل. كم كان إيمانهم كبيراً آنذاك حتى يطيعوا التعليم المعطى لهم بروح الله في الآيات السبع الأولى من هذا الإصحاح. وإن كان المسيحيون يطالَبون بالطاعة في ظل هكذا حكومة, فبالتأكيد ليس هناك مجال لهم للمشاركة في التحريض على الفتنة أو العصيان تحت سلطة أي حكومة. "كِسَرُ الأرض تجاهد مع كِسَرِ الأرض", وقد تقوم حكومة على حكومة أخرى, ولكن أياً كانت الحكومة التي تمتلك السلطة وفي أي زمان فإن على المسيحيين الخضوع لها. ولهم أن يُصلّوا إذا ما كانت مراسيم أو قوانين هذه الحكومة جائرة أو ظالمة, ولكن ليس لهم أنه يفوروا ضدها, ربما يكون هذا القول ثقيلاً على مسامع البعض, أعلم ذلك, ولكن إن كان أحد يشكّ بهذا الكلام فليقرأ الآن هذه الآيات الموضوعة أمامنا: "لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ" (الآية 1). ليس المقصود هنا إرسال عقيدة الحق الإلهي للملوك, بل يقصد, ببساطة أن يقول: إن الله, الذي يعين شخصاً ما ويقيل آخر بحكمته اللامتناهية, يقيم تلك الأشكال المعينة من الحكومة أو حكام معينين ليكونوا في موقع السلطة في زمن معين . وكما يخبرنا سفر دانيال , فإنه ينصب على الشعوب أقسى الرجال في أوقات يريد فيها أن يعاقب شرهم. ولكن على أية حال, ليس من سلطة تقوم بدون سماح العناية الإلهية وتدخل الله الشخصي. وترينا الآية الثانية أن مقاومة هذه السلطة يعني مقاومة الترتيب الإلهي. ولكن من غير المناسب بالتأكيد القول أن من يقاومون ذلك يتلقون اللعنة, إن كانت "اللعنة" تعني العقاب الأبدي. إن الكلمة هنا, كما في كورنثوس 11, تعني الدينونة ولكن ليس بمعنى الدينونة الأبدية الأخيرة بالضرورة. الحكام ليسوا مصدر قلق بالنسبة لمن يقومون بالأعمال الصالحة, بل للذين يقومون بالأعمال الشريرة. فحتى نيرون كان يحترم أولئك الذين يقدمون الطاعة للقانون. وإن سبب اضطهاده للمسيحيين كان هو الوشاية الباطلة بهم على أنهم معارضون للمؤسسات القائمة. فمن يخشى أولئك الذين هم في السلطة عليه أن يسلك في طاعة الشرائع – أن يفعل الخير, وهكذا يتبين بره وصلاحه. فأولاً وأخيراً, الحاكم هو وكيل الله أمام كل امرىء للخير. ولكن من يفعل الشر وينتهك مؤسسات المملكة والحكم, فذاك من عليه أن يخَفْ, لأن الله نفسه أودع السيفَ في يد الحاكم والله نفسُه عينَه وكيلاً في الحكومة الدنيوية لكي ينفّذ العدالة تجاه أولئك الذين يسلكون طريق الجريمة. ولذلك فإن على المسيحي أن يخضع للحكومة, ليس لكي يتجنب الإهانة فحسب, بل أيضاً لكي يحافظ في ذاته على ضمير صالح أمام الله. على المسيحيين أن يدفعوا الجزية, حتى ولو كانت المطالب غير منصفة, وعليهم أن يدفعوا جميع ضرائبهم بصدق, وبهذا يُظهر المسيحي أنه يرغب في كل الأشياء أن يكون خاضعاً للحكومة. لا بد أن نلاحظ أن كل التعليم الذي نجده هنا يضع المسيحي في موضع الطاعة للسلطة وليس السلطة؛ ولكن إن وُلِدَ، بعناية الله, من أجل منزلة رفيعة, أو وُضِعَ في موقع السلطة, فعليه أيضاً أن يكون ملتزماً بكلمة الله كما يشرحها بولس هنا. إن ثقل هذا الإصحاح يتركز على علاقة المسيحي للمجتمع بشكل عام, وفيما يخص مجيء الرب والتدبير الحالي الوشيك على الإنجاز حتى التمام. على المسيحي أن يكون له، ليس موقف المدين بل المعطي؛ ألا يدين لأحد بشيء؛ بل أن يدع الحب يفيض مجاناً على الجميع. إن كل مبدأ أخلاقي في اللوح الثاني للناموس, الذي يحدد علاقة الإنسان بقريبه, يمكن إيجازه في هذه الكلمات: "أحبب قريبك كنفسك". فمن يحب, لا يمكن أن يرتكب إثماً من نوع الزنى, أو القتل, أو السرقة, أو الكذب, أو اشتهاء ما للغير. من المستحيل للمحبة أن تتتبدى في أي مظهر من هذه المظاهر. "اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ". بهذه الطريقة, فإن المتطلبات الواجبة تجاه الناموس تتحقق فينا, نحن الذين نسلك, ليس بحسب الجسد, بل بحسب الروح, كما رأينا لتونا خلال دراستنا الإصحاح 8: 1- 4. كل يوم ينقضي يقرّب تدبير النعمة إلى نهايته ويعجّل عودة الرب. فليس للمسيحيين, إذاً, أن يرقدوا في النوم, بل أن يكونوا في يقظة كاملة لمسؤولياتهم وامتيازاتهم, مدركين أن الخلاص الذي نترقبه – افتداء الجسد – هو وشيك الآن أكثر منه عندما آمنّا. لقد أوشكت الليلة التي يسود فيها حكم الشيطان على الأرض على النهاية. وقد بدأ أول بزوغ الفجر يظهر. فليس لهؤلاء الذين خلصوا بالنعمة أن يفعلوا أي شيء يمتّ بصلة إلى أعمال الظلمة, بل عليهم أن يلبسوا, كجنود, درعَ النور, لعمل الصلاح الذي هو من الله, فيعيشوا بلا فساد كما في وضح النهار, وليس في أي نوع من الفسوق والفجور, وليس في الخصام والحسد, بل لابسين الرب يسوع المسيح وقد اعترفوا بأنهم متحدين معهم, إذ أزال الموت بموته عملياً, وهكذا نبتعد به عن الانغماس في شهوات الجسد. إن هاتين الآيتين الختاميتين من هذا الإصحاح الثالث عشر تعبّران عن لسان حال أغسطينوس الذي من هيبو بعد السنوات التي قضاها في المحنة فقد كان يخشى أن يعترف بالمسيح علانية, حتى عندما كان مقتنعاً عقلياً بأن عليه أن يكون مسيحياً لئلا يجد نفسه عاجزاً عن ضبط طبيعته الجسدانية الشهوانية, وهكذا يشكك الآخرين بمصداقية القضية التي كان يناضل لأجلها. ولكن عندما قرأ هذه الكلمات: "لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ لاَ بِالْمَضَاجِعِ وَالْعَهَرِ لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ", فتح الروح القدس عينيه ليرى أن قوة الانتصار ليست في ذاته, بل في حقيقة أنه كان مطابقاً ذاته مع المخلص المصلوب والقائم. حين كان يحدق بالإيمان إلى وجه المبارك وأراه الروح القدس شيئاً من حقيقة الاتحاد بالمسيح, دخل في يقين الخلاص وأدرك النصر على الخطيئة. وعندما مرّ في طريقه صدفة وجهاً لوجه بإحدى صديقاته الجميلات ولكن السيئات من أيامه السابقة, استدار ولاذ بالفرار. فتبعته تناديه: "أغسطين, يا أغسطين, لماذا تهرب؟ إنها أنا". فأجابها وهو يسرع الخطى في طريقه: "أهرب, لأني لست أنا". وهكذا لم يستسلم للجسد.
|