في ظِلالِ الكلمة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
إنَّ سِفرَ التَّكوين، لا بل الكتاب المُقدَّس بكامِلِهِ، يبدَأُ بِقِصَّةِ الخلق. ولكن رُغمَ كُلِّ المعنى المُذَخَّر في هذا الحَدَث، ولكنَّ سَردَهُ يُغَطِّي إصحاحاً ونِصف فقط. ما هُوَ سببُ ذلكَ؟ كما قُلنا في الفَصلِ الأخير، كُتِبَ هذا السِّفرُ ليسَ فقط ليُخبِرَنا كيفَ حَدَثَ هذا في ذلكَ الزَّمان، بل أيضاً لِنَفهَمَ الأمُور كما هي عليهِ الآن. فاللهُ غَيرُ مُلزَمٍ بأن يُفسِّرَ لنا كُلَّ شَيء. وهُوَ لا يحتاجُ أن يُدافِعَ عن نفسِهِ. وهُوَ لا يُعطينا هذا السَّرد للخَلق لكَونِهِ يعتَقدُ أنَّهُ يَدينُ لنا بِتَفسيرٍ لكَيفَ خَلقَ كُلَّ شَيء. رُغمَ ذلكَ، لا يُمكِنُنا أن نتجاوَزَ هذا السِّفر بِدُونِ مُناقَشَةِ ما هُوَ على الأرجح القَضية الأكثرُ إثارَةً للجَدل في الكتابِ المُقدَّس، وبِشكلٍ مُتَكرِّرٍ أكثر من غيرهِ. يُوجَدُ نَقيضانٍ حولَ موضُوع الخلق. أوَّلاً، يُوجَدُ المَوقِفُ الذي يَقُولُ أنَّ سَردَ حَدَثِ الخَلق في سفرِ التَّكوين لا يُركَنُ إليهِ عِلميَّاً، لِهذا لا يُمكِنُ أن يَكُونَ الكِتابُ المُقدَّسُ كلمةَ اللهِ المُوحَى بها. النَّقيضُ الآخر هُوَ الموقِفُ الذي يَقُولُ أنَّ السُّؤالَ المَطروح ليسَ، "هل الكتابُ المُقدَّسُ يُركَنُ إليهِ علمِيَّاً؟" ولكن، "هل العِلمُ يُركَنُ إليهِ كِتابِيَّاً؟" الذين يتبنُّونَ هذا المَوقِف يَقُولون، "ليسَ الكتابُ المُقدَّسُ تحتَ المُحاكَمة. بل العِلمُ هُوَ الذي تحتَ المُحاكَمة." القَضِيَّةُ الحقيقيَّةُ هي: هل الكتابُ المُقدَّسُ والعِلمُ مُتَّفِقانِ فيما يتعلَّقُ بتكوينِ العالم؟ نحتاجُ أن نضعَ بعضَ الأُمُور في إطارِها الصَّحيح. أوَّلاً، إنَّ طبيعَةَ العلم المحضَة لا تترُكُ مجالاً للإيمانِ باللهِ، بالمعنى الضَّيِّق للكَلِمة. هذا لا يعني أنَّهُ ليسَ بإمكانِ عالِمٍ أن يَكُونَ مُؤمِناً تَقِيَّاً. ولكنَّ العِلمَ بِحَدِّ ذاتِهِ هُوَ دراسَةٌ للمعلُوماتِ أو الظَّواهِرِ التي يُمكِنُ مُلاحَظتُها وقياسُها وإثباتُها مَوضُوعِيَّاً. إنَّهُ مَبنِيٌّ على الإختِباراتِ، الإستِنتاجاتِ، والتَّطبيقات. إنَّهُ خاضِعٌ للمُراقَبَة، وتُمكِنُ مراقَبَتُهُ. واللهُ بِطَبيعتهِ لا يُمكِنُ أن يكُونَ مَوضُوعاً لهكذا نوع منَ الدِّراسة. فمِنَ المُستَحيلِ الإقتِرابُ منَ اللهِ بمنهَجِيَّةٍ عِلميَّة. فالطريقَةُ الوحيدةُ للإقتِرابِ منَ اللهِ، هي من خلالِ الإيمان، كما نقرَأُ في عبرانِيِّين 11: 6، "ولكن بِدُونِ إيمانٍ لا يُمكِنُ إرضاؤُهُ، لأنَّهُ يَجِبُ أنَّ الذي يأتي إلى اللهِ يُؤمِنُ بأنَّهُ مَوجُودٌ وأنَّهُ يُجازي الذين يطلُبُونَهُ." نقرَأُ، "في البَدءِ خلقَ اللهُ السَّماواتِ والأرض" (تكوين 1: 1). ثُمَّ نقرَأُ: "وكانَتِ الأرضُ خرِبَةً وخالِيَة وعلى وجهِ الغَمرِ ظُلمَة ورُوحُ اللهِ يَرِفُّ على وجهِ المِياه"(تك 2:2) يَقُولُ الكِتابُ المُقدَّسُ أنَّ رُوحَ اللهِ بدأَ يتحرَّكُ على هذه الخليقة ويُطَوِّرُها ويُحَرِّكُها ويُغَيِّرُها. مثلاً، يَقُولُ الكتابُ في تكوين 1: 9، "لِتَجتَمِعِ المِياهُ تحتَ السَّماءِ إلى مكانٍ واحِد ولِتَظهَرِ اليابِسَة." لَم يَقُلِ اللهُ "لِتَكُنِ اليابِسَة." فليست هذه هي المرحلة التي خُلِقَت فيها اليابِسَة. بل يبدُو أنَّها كانت قد خُلِقَت مُسبَقاً، في عملِ الخلقِ البِدائِي، ولكنَّها كانت لا تزالُ مغمُورَةً تحتَ المياه. في هذا العدد، نَجِدُ اليابِسَةَ تظهَرُ من تحتِ المياه. منَ المُثيرِ للإهتِمامِ أنَّ مُجمَلَ العُلماءِ مُتَّفِقُونَ أنَّ هذه الأرض بكامِلِها كانت مغمُورَةً بالمياهِ في وقتٍ منَ الأوقات. تعني كلمة "بارا" العِبريَّة، أو خلقَ، عَمِلَ شَيءٍ منَ العَدم. تُستَخدَمُ هذه الكلمةُ هُنا ثلاثَ مرَّاتٍ في هذا السَّرد لِعمليَّةِ الخلق. فاللهُ خَلَقَ في البِدايَة، في العددِ الأوَّل. فعملُ الخلقِ الأوَّلُ هذا، "بارَا"، يُشيرُ إلى الكَون، الأرض، والحياة النَّباتِيَّة. الكَلِماتُ الأُخرى بينَ العددَين 2 و20 هي مُختَلِفَة. إنَّها كَلِماتٌ تُشيرُ إلى التَّغيير، أو إلى أخذِ شَيءٍ مَوجُودٍ أصلاً وتغيير شكلِهِ. فعملُ الخلقِ التَّالي يجري في المياه. نقرَأُ في العدد 21، "فخَلَقَ اللهُ التَّنانِينَ العِظامَ وكُلَّ ذواتِ الأَنفُسِ الحَيَّةِ الدَّبَّابَةِ التي فاضَت بها المِياهُ كأجناسِها، وكُلَّ طائِرٍ ذِي جناحٍ كَجِنسِهِ. ورأى اللهُ ذلكَ أنَّهُ حَسَنٌ." نَقُولُ مُجدَّداً أنَّهُ يُوجَدُ إتِّفاقٌ بينَ السَّردِ الكِتابِيِّ لعمليَّةِ الخلقِ، وبينَ العِلم. إذ يبدُو أنَّ العُلماءَ مُتَأكِّدُونَ من أنَّ الحياةَ الحيوانِيَّة بدأَت في المياه، وهذا ما يُؤكِّدُهُ سفرُ التَّكوين. عمل "بارا" التَّالي يجري في العدد 27، "فخَلَقَ اللهُ الإنسانَ على صُورَتِهِ. على صُورَةِ اللهِ خلَقَهُ. ذَكَرَاً وأُنثَى خلَقَهُم." إنَّ إعلانَ سفرِ التَّكوين عن حدَثِ الخلق يتكلَّمُ عن بِداياتِ كُلِّ شَيءٍ في الكون. فبعدَ أعمالِ الخلقِ الأصلِيَّةِ هذه، نَجِدُ رُوحَ اللهِ يُغَيِّرُ ويُطَوِّرُ هذا الخلق. وهذا يتَّفِقُ معَ ما يَقُولُهُ العُلماءُ عن تطوُّرِ أشكالِ الحياة، وفي هذا الإطار أجِدُ إنسجاماً معَ الفِكرِ النُّشُوئِي. ولكنَّ النُّشُوئِيِّينَ والتَّطَوُّرِيِّينَ لا يُمكِنُهُم أن يتَّفِقُوا بتاتاً حولَ قَضِيَّةِ الحلقاتِ المَفقُودَة. فالحلقاتُ المفقودة الثَّلاث تتمحوَرُ في ثلاثَةِ أسئِلَةٍ. كيفَ بَدَأَ كُلُّ هذا؟ وكَيفَ أصبَحَتِ الحياةُ النَّباتِيَّةُ حياةً حيوانيَّة؟ وكيفَ أصبَحَتِ الحياةُ الحَيوانِيَّةُ حياةً إنسانيَّة؟ العلمُ لا يملِكُ تفسيراتٍ لهذا الحلقاتِ المَفقُودَة. أمَّا سِفرُ التَّكوين، فلديهِ هذه التَّفسيراتُ. وجوابُ سفرِ التَّكوين على هذه الأسئِلة هُوَ بِبَساطَةٍ "بَرَا،": خَلَقَ اللهُ.
|