لماذا خلق الله الشمس والقمر والنجوم في اليوم الرابع وليس في اليوم الأول؟ هناك تفسير واحد محتمل وهو أن الله كان يؤكّد، بهذه الطريقة، الأهمية العظمى للأرض بين كافة الأجرام الفلكية في الكون. فبالرغم من صغر حجمها نسبياً، حتى بين الكواكب التسعة، حقيقة أنه ما من شيء يُقال عن النجوم ذاتها، هو أمرٌ لا نظير له على الإطلاق في أهداف الله الأبدية.
على هذا الكوكب وضعَ اللهُ الإنسان، وخلقَهُ على صورته، ليمارسَ السيادة وليعبدَه. وإلى هذا الكوكب جاء الله في شخص ابنه منذ تسعة عشر قرناً ونيف ليصيرَ عضواً دائماً في الجنس البشري، وليموتَ من أجل خطايا البشر على صليبٍ قاسٍ فظ. وإلى هذا الكوكب نفسه سيعود هذا الإلهُ العظيمُ والمخلِّصُ من جديد ليؤسّسَ ملكوتَه. بسبب مكانتها الموضعية السامية في الترتيب الروحي للأشياء، تشكّلَت الأرضُ أولاً ثم صارت منظومة النجوم.
ثمةَ سبب آخر محتمل لهذا الترتيب من الأحداث هو أن الله، بهذه الطريقة، أوضح أن الأرض والحياة عليها لا تدين بوجودها إلى النور الأكبر الذي يحكم النهار، بل إلى نفسه. بمعنى آخر، كان الله قادراً تماماً أن يخلق الأرض وحتى الكائنات الحية عليها ويُعنى بها بدون مساعدة الشمس. لولا الكتابات المقدسة، بالطبع، لما كانت هذه الحقيقة ستغدو واضحة للبشر.
في العصور القديمة (وحتى في بعض أجزاء العالم اليوم) تعبدّت شعوب عظيمة فعليّاً للشمس كإله. ففي مصر كان إله الشمس يُدعى "رَعْ"، وفي بابل كان يُعرف باسم "شاماش". مهما يكن من أمر، هكذا عبادةٍ كانت تبدو معقولة تماماً نظراً إلى حقيقة أنّ الشمس تعطي الضوء، والدفء، والحياة نفسها بشكل واضح.
وحتى اليهود تعرضوا للإغراء الشديد بالدخول في هكذا عبادة، كما يمكن الاستدلال على ذلك من خلال مقاطع مثل تثنية 4: 19 و17: 3. وقد أقر أيوب قائلاً: "إِنْ كُنْتُ قَدْ نَظَرْتُ إِلَى النُّورِ حِينَ ضَاءَ أَوْ إِلَى الْقَمَرِ يَسِيرُ بِالْبَهَاءِ، وَغَوِيَ قَلْبِي سِرّاً وَلَثَمَ يَدِي فَمِي، فَهَذَا أَيْضاً إِثْمٌ يُعْرَضُ لِلْقُضَاةِ لأَنِّي أَكُونُ قَدْ جَحَدْتُ اللهَ مِنْ فَوْقُ" (أيوب 31: 26- 28).
لعلّه ليس خطأ أن نفترض أن النظرية النشوئية تقدم نظيراً حديثاً بارعاً لدين عبادة الشمس القديم، لأنه إن كان علينا أن ننسب أصلنا إلى الشمس أو إلى شمس أوليّة، وإن كنا نحيا ونتحرك ونوجد حصرياً من خلال بركتها غير المحدودة وتدابيرها العنائية، فإنها تكون عندئذٍ إلهنا.
إنّ رواية الخلق في التكوين تقوّض بشكل كامل كل هذه التجديفات بوضعها الشمس في مكانة ثانية بالنسبة للأرض. إنها مجرد مخلوق لله وحسب، ولكنها أيضاً خادمة للإنسان الذي هو تاج خليقة الله.
ولكن إن كانت الشمس والقمر والنجوم ليست أساسية جوهرياً لوجود الأرض، فلماذا خلقها الله؟ هناك ثلاثة أسباب رئيسية نجدها في تكوين 1: 14. وهي كأنوار، وأوقات (روزنامة وقت) وآيات.
كأوقات أو روزنامة: تقسم الفصول، والأيام، والسنين، وتمكّن البشر من التخطيط لعملهم بشكل دقيق إلى المستقبل البعيد، فتعكس هكذا فكر الله الهادف القصدي.
كآيات: تُعلّم البشر وتذكّرهم أبداً بالحقائق الرّوحية الفائقة الأهمية المتعلقة بالخالق. لقد تعلّمَ داود من السموات سموَّ الله إزاء تفاهته وضآلته هو شخصياً: "إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ الإنسان حَتَّى تَذْكُرَهُ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!" (مز 8:3، 4). وأكد بولس الرسول على أن الإنسان ليس له أي مبرّر على الإطلاق للعبادات الوثنية، إذ أن "أموره" التي صنعها تشهد بوضوح على "قُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ" (أي الله) (رومية 1: 20).
من الواضح أن الشمس والقمر والنجوم تحقق هذه الأهداف بشكل أكثر فعالية من مصدر نور عظيم وحيد. لا يجب أن يكون هناك حاجة لسبب آخر لوجودها سوى هذه الخدمة المثلثة الوجوه المقدمة للإنسان.
ولكن أَفَلنْ تكون هذه إضاعة غير ضرورية لطاقات الله في الخلق؟ يعطي أشعياء إجابة قوية فيقول: "أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلَهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ" (أشعياء 40: 28).
السموات هي عمل "إصبع" الله (مز 8:3)، وعندما تحقق هدف الله المقصود منها، فإنها تهرب من وجهه ولا يوجَد لها موضع (رؤ 20:11). والمدينة الأبدية "لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا"، والرب يسوع المسيح سيكون حملها (رؤيا 21: 23؛ 22: 5).
ولذا فإن المسيح وكلمته يجب أن يكونا الدليل النهائي لنا بينما نسعى إلى فهم مصدر ومعنى ومصير السموات والأرض.
الفصل التالي - خلق الأرض
|