باتباع هذه المقاربة العامة إلى الأصحاحات الأولى من سفر التكوين, تبنى عدد من المسيحيين من أهل العلم (والأرجح عددٌ أكبر من اللاهوتيين أيضاً الذين ساروا على نفس خطواتهم)، تبنّى هؤلاء وجهة النظر التي تقول أن جسد آدم كان من حيوانٍ ما كان قد تطور بتدبير إلهي إلى كائن ذي قدمين عبر ملايين السنين من التغيرات التدريجية إلى أن وضع الله فيه روحاً أبديةً قبل عدة مئات آلاف من السنين. ومن هنا, في مجلة "النشوء والفكر المسيحي اليوم", استنتج وولتر هيرن وريتشارد هنري مقالة عن "أصل الحياة" قالوا في نهايتها: "إن كُتّاب هذا الفصل يعتبرون التعابير في الكتاب المقدس المتعلقة بخلق الحياة على أنها رمزية على نحوٍ كافٍ وافٍ للإشارة إلى وجود تقييدات ضئيلة أو عدم وجود أي تقييدات على آليات ممكنة"[146] وفي ندوة بعنوان "الأصول والفكر المسيحي اليوم", عقدت في جامعة ويتن في 17 شباط 1961، أوضح الدكتور هيرن موقفه قائلاً:
"بالتأكيد نعلم أن معاملاتٍ (أي عمليات متعاقبة) قد ساهمت في الإتيان بنا إلى الوجود. فلماذا نرتجف ونرتاع من فكرة أن معاملات قد حدثت كانت نتيجتها ظهور آدم في الوجود؟ مُسَلِّمِين بأننا ما عدنا نعرف تفاصيل هذه المعاملات, فلماذا لا نفترض أن الله قد استخدم معاملات؟[147]"
وشهد هنري و. سيفورد قائلاً:
إن النظرة النشوئية إلى مكانة الإنسان في الطبيعة تساعد على فهم التناقضات القائمة بين الجسد والروح. عندما أُعلِّم أولادي على الأخلاق أستطيع أن اشرح لهم أن الجسم الإنساني هو حيوانٌ أقرب ما يكون إلى الحيوانات الأخرى الأعلى[148]....."
ووافق جان ليفر الذي من الجامعة الحرة في أمستردام قائلاً:
"ولذلك فعندما نضع جنباً إلى جنب المعرفة التي نمتلكها عن الحيوانات الأعلى لحيوانات العصر الأقرب إلينا (العصر البلوستيسيني) والإعلان بأن الإنسان كان قد خُلِقَ ضمن تلك الظروف فعندها قد لا نرفض مسبقاً إمكانية أنّ تكوين الإنسان كان قد حدث بطريقةٍ كان فيها أصلاً حيواناً نظراً إلى ميزات هيكله العظمي, وذلك بحسب مقاييسنا ومعاييرنا..... إننا قد لا نرفض مسبقاً إمكانية أنه قد وُجِدَ هناك علاقة ما جينية بين الإنسان والحيوان[149]".
13: 10
تحت ضغط هكذا أقوال وما شابهها قد أطلقها مسيحيون من أهل العلم, فإن إدوارد جون كارنل الذي استلم لسنوات عديدة منصب رئيس معهد فولر اللاهوتي قد انكفأ إلى الموقف التالي:
"بما أن الأرثوذكسية قد تخلت عن نظرية اليوم حرفياً بدافع الاحترام للجيولوجية، فإنها بالتأكيد لن تخسر أي مبدأ إذا ما تخلت عن نظرية الخلق المباشر الفوري بدافع الاحترام لعلم المستحاثات. إن الاثنين يبدوان متوازنين تماماً.... إن كان الله قد سُرَّ بأن يُوْدِع صورته في مخلوقٍ قد أتى قبلاً من تراب فليكن كذلك[150]."
وإذاً, إن الإعلان الطبيعي, كما فسره "العالِم المعاصر", لا يمكن أن يدوم أكثر على نفس المستوى مع الإعلان الخاص في الكتاب المقدس, ولكنه في نهاية الأمر يغلبه و يحل محله أو يبطله.
17: 00
إن النشوئية الإيمانية لا يمكن أن تسمح على الدوام لفكرة أي إعجوبة جسدية في "خلق آدم". ومن هنا, وحتى بعد أن وُضعت صورة الله إلى الذكر والأنثى القردة, فإن أجسادهما، إذ أنها لم تتأثر بهذه الأعجوبة الروحية, ستستمر خاضعة للمرض والموت كما أجساد القرود الأخرى. ومن هنا فلا يمكن أن تكون الخطيئة هي سبب الموت الجسدي حتى عند الجنس البشري، وتكون الآية في رومية 5: 12 غير صحيحة والتي تقول: "بِإنسان وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ......."
بعض النشوئيين الإيمانيين قد ميزوا صراحةً المضامين اللاهوتية التي في إذعانهم إلى الأنثروبولوجيا النشوئية وكانوا على استعداد لأن يلائموا لاهوتهم بناءً عليه. فقد قال بيتر بيرغورت، على سبيل المثال:
"إننا ندرك بشكلٍ كامل أنه إن كان ما نسميه نشوئية إيمانية قد قُبِلَ كحقيقة, فإن تغيراً هائلاً كان ليحدث في تفكيرنا؛ بالمقارنة مع التغير في وجهة النظر الكوبرنيكية الذي سيكون مجرد أمرٍ تافه. فعلى سبيل المثال، إن كان الإنسان قد انحدر من حيوان في العصر البلستوسيني جسدياً, أفلا يمكننا أن ننسب كل النقص وكل ما نسميه شراً جسدياً إلى سقوط الإنسان؟ أفليست هذه مبالغة في التبسيط؟ إن الكثير من كتبنا يجب أن تُُعادَ كتابتها. ولكن إن كان ضرورياً من الأجل الحق، فلم لا؟[151]
لقد خطرت في ذهن تشارلز داروين أيضاً هذه الأفكار. "بالدرجة الأولى إيمانه بالعهد القديم تحطم. ثم ما عاد يؤمن بالمعجزات بالعهد الجديد. وأخيراً تُرك مُتعجباً مُتسائلاً فيما إذا كانت المسيحية إعلاناً إلهياً على الإطلاق؟[152]"
لكي يتجنب هكذا كارثة لاهوتية كاملة, فإن البابا بيوس الثاني عشر, وفي منشور بابوي صدر عام 1958, التجأ إلى شكلٍ معدّلٍ أكثر من النشوئية الإيمانية. مع تحذير العلماء في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية واللاهوتيين من ممارسة "الاعتدال الكبير والحرص في هذه المسألة", ووزن ومحاكمة مختلف الأفكار عقلانياً "بالجدية الضرورية، والاعتدال والاتزان", نظراً إلى التزام الكنيسة بوحدة الجنس البشري في آدم وتاريخية خطيئته الأصلية, فإنه مع ذلك (أي البابا) أعطاهم "حرية" للبحث ومناقشة "مبدأ النشوء", في تساؤله عن أصل الجسد البشري فيما إذا كان قد أتى من مادة حية سابقة الوجود[153].
إن التضارب في هذا الموقف واضح. لكي يغير الله القردَ الفاني إلى إنسان خالدٍ وخالٍ من الخطيئة، والذي كانت لديه قوة كافية ليعيش 930 سنة بمعزلٍ عن السقوط واللعنة, كانت هناك ضرورة لحدوث معجزة جسدية وأيضاً روحية. ولكن إنْ قَبِلَ المرء بهذه المعجزة الجسدية في خلق آدم لكي يُحافظ على بعض الأسس من المسيحية, فبأي شكلٍ من المنطق يمكن للمرء عندئذٍ أن ينكر المعجزة الجسدية التي تقول بخلق مباشر لجسد آدم, والتي يتم تعليمها بشكل واضح في العهد الجديد وأيضاً في الأصحاح الثاني من سفر التكوين[154]؟
رغم التحذيرات المشتملة في المنشور البابوي, إن لاهوتيين كاثوليكين رومانيين كُثراً قد سمحوا بشكل واضح بنظرية النشوء القائلة بأن أصل جسد الإنسان إنما هو من الحيوانات: "إن كان ولا بد من الاعتراف بأن جسد الإنسان قد نشأ من أشكالٍ أدنى فإن التعليم الديني في التكوين سيبقى نفسه[155]....".
|
الجنس البشري:
الإنسان هو تاج مخلوقات الله. لقد خُلِقَ على صورة وشبه خالقه وأُعطيَ سيادةً كاملةً على الأرض (تكوين 1: 26). "السَّمَاوَاتُ سَمَاوَاتٌ لِلرَّبِّ أَمَّا الأَرْضُ فَأَعْطَاهَا لِبَنِي آدَمَ" (مز 115:16). لقد خسر الإنسان الساقط تلك السيادة الأصلية ولكن لا تزال لديه صورة الله (تك 9: 6؛ يعقوب 3: 9). مُفتدينَ بالمسيح، ابنِ الله المتجسد، فإن المؤمنين قد انتقلوا مكانياً من عالَمٍ حيث "وَضَعْتَهُ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ" (عب 2:7) إلى عالم "فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى" (أفسس 1: 21؛ انظر أيضاً 2: 6). بل حتى إن الناس الممُمَجَّدِين سيدينون الملائكةَ (1 كورنثوس 6: 3).
على ضوء كل ذلك، كم تصبح تجديفاً كلياً تلك الفكرة الشائعة بأن الإنسان هو أكثر بقليل فقط من "قرد عارٍ"؟ إن الفروقات الجسدية بين البشر والقرود هائلة جداً، كما تُظهر الملاحظة الدقيقة بوضوح. ولكن إن كانت الفروقات الجسدية كبيرة، فكم تكون إذاً الفروقات الفكرية-الثقافية-الروحية؟! من بين كل الكائنات الحية على كوكب الأرض، وحدُه الإنسان يتمتع بالإدراك الذاتي كشخص؛ إنه متحرر من عبودية الغريزة فيمارس خيارات حقيقية وله أهداف وغايات ذات أهمية في الحياة؛ ولديه مشاعر معقدة كمثل الإحساس بالحزن والفرح؛ كما وأنه يقدّر ويتذوق الفن والموسيقى على نحو مبدع؛ ويمكنه أن يصنع أدوات حقيقية؛ ويمكنه أن يتعلم حقاً أكثر وليس أن يكون متدرباً وحسب؛ ويمكنه أن يستخدم رموزاً شفهية أو مكتوبة لينقل مفاهيم مجردة لأشخاص آخرين وهكذا يتمتع بشركة وصداقة حقيقية؛ وبمقدوره أن يحرز معرفة وأن يحصل على الحكمة دون الأجيال السابقة وبهذا يصنع له تاريخاً حقيقياً جديداً؛ كما ويمكنه أن يميز أخلاقياً بين الصواب والخطأ ويشعر بنوبات من تأنيب الضمير؛ ويمكنه أن يدرك وجود خالقه ومطالبه المُحقة من خلال العبادة، والتضحية، والخدمة الدينية. الإنسان وحده هو الذي قد يوجد إلى الأبد ككائن شخصي إما في السموات أو في الجحيم.
|
[146]- "النشوء والفكر المسيحي اليوم", نشر راسل ل. مكستر (غراند رابيدز: 1959 منشورات ايرماندز، 1959), ص69.
[147]- "مجلة الجمعية العلمية الأميريكية": (حزيران 1961), ص 42.
[148]- "شبه الإنسان في جنوب أفريقيا"، (دورية غوردون النقدية4): ( شتاء 1958), ص 187- 189.
[149]- "الخلق والنشوء" غراند رابيدز: منشورات غراند رابيدز انترناشيونال، 1958، ص 197- 221.
[150]- إدوارد جون كارنل، "قضيةٌ للاهوت الأرثوذكسي" (فيلادلفيا: منشورات ويست منستر, 1959) ص 95، انظر أيضاً هارولد أوكينجا, " نساءٌ صنعن تاريخ الكتاب المقدس" (غراند رابيدز: منشورات زوندر فان, 1962), ص 12.
[151]- "الإعلان والنشوء", من منشورات جون فاندر بلويج, "الراية", 8 أكتوبر 1965, ص 9.
[152]- ر. إي. دي. كلارك، داروين: "قبل وبعد", ص 83.
[153]- المقالات 36 و37. انظر كلوديا كارلن, "المنشورات الباباوية 1939- 1958", رالي: (منشورات ماغرالث, 1981), ص 181- 182. ومقلات أخرى ظهرت في الفصلية الأنثروبيولوجيا.للكنيسة الرومانية الكاثوليكية, (أوكتوبر 1956), قالت إحداها: "ليس من مبدأ معلن رسمي في الكنيسة الكاثوليكية يتناقض مع نظرية نشوء جسد الإنسان "(ص 123).
[154]- دابس أ. يونغ, جيولوجي مسيحي ملتزم بالشرعية الأساسية للجدول الزمني النشوئي لتاريخ الأرض وحتى بنشوء الكواكب والمملكة الحيوانية, مع ذلك يقول: "إن فكرة النشوئية الإيمانية عن الإنسان هي فكرة غير كتابية ويجب أن تُنْبَذ من قِبل أولئك الذين يقرون بأنهم يصّدقونها أو يعتقلونها في مسيحية كتابية حقيقية" (الخلق والطوفان, ص 144).
[155]- إي. ف. ستشلف، "التكوين" في "تفسير كاثوليكي على الكتاب المقدس" (نيويورك: منشورات ثوماس نيلسون وأبنائه, 1953)، ص 185. انظر أيضاً إيان ت. تايلر, "في فكر البشر", ص372- 377.
الفصل التالي - خلق الأرض
|