نجد لفظة البقيّة في العهد القديم. ولكن هناك فعل "ش أ ر" (سائر في العربية) الذي يعني بقي بعض الطعام (1صم 9:24) أو اللقاط (أش 17:6) أو الفضّة (تك 47 :18). أما الاسم فقد استُعمل لدى الأنبياء. أما جذر "ي ت ر" فيدلّ على الوفرة (خر 36:7؛ تث 28:11؛ إش 56:12). وهناك لفظة "ف ل ط" (فلت في العربية) التي تدلّ على من أفلت (الناجين) بعد الهزيمة (قض 21 :17؛ 2مل 19 :30-31؛ إش 10:20-21). ولفظة "ث ر ي د" (عد 21:35؛ تث 2:34؛ إش 1:9) في المعنى نفسه. ولفظة "م ل ط"، افلت، هرب، خرج (إر 48:6؛ 51 :6، 45، ملص في العربية).
إن موضوع البقيّة موضوع قديم جدًا. ففي ظروف الحياة الصعبة، يتوجّه الانسان إلى الإله الذي يؤمّن وجود بقيّة بفضل قدرته ورحمته. إن نوحًا هو بقيّة (تك 7 :23؛ سي 44 :17). ومع سياسة إفناء المغلوبين وتهجير الناس لدى الملوك الأشوريين، صار موضوع البقيّة موضوع الساعة. افتخر الملوك بأنهم لم يتركوا بقيّة، أو أنهم تركوا بقيّة لأنهم أرادوا معاملة السكان بالرحمة. في هذا المجال تحدّث الأنبياء عن الله الذي جمع بقيّة المشتتين.
ونبدأ بالحقبة القبل منفاوية. ارتبط مدلول البقيّة ببني الإيمان في اسرائيل : الاختيار، العهد، الدينونة، الخلاص. هنا لا نُسقط نظرات متأخّرة (مثلاً نظرة بولس) على نصوص قديمة. كما نتوقّف عند تمييز أساسي بين "بقيّة أفلتت" من الموت، و "بقيّة مختارة". أما أقدم ما في الموضوع فنجده في دورة إيليا (1مل 19 :18) : فرغم العقاب القاسي الذي يصيب الشعب الخاطئ، يترك الرب بقيّة صغيرة (7000 رجل) ستبقى أمنية له. وتنبّـأ عاموس في الشمال، فأعلن الدمار القريب في صوَر فاقعة : سيصبح الشعب الخاطئ بقيّة لا يُحسب لها حساب (3 :12؛ 4 :11؛ 5 :3؛ 6 :9؛ 8 :2؛ 9 :1). هل نحن هنا أمام إعلان الدمار بكل معنى الكلمة؟ "لعل الرب... يتحنن على ما تبقَّى من بيت يوسف" (عا 5:15). وهكذا يجعلنا النبي نستشفّ إمكانية توبة. ونجد في نهاية الكتاب (9 :8-15) صورة الغربال (يغربل الشعب الخاطئ) وإعادة البناء في النهاية.
في القسم الأول من إشعيا، عاد موضوع البقيّة مرارًا، ولكن تفسير النصوص يبدو صعبًا لأننا لا نعرف من كتب الأقوال (إش أو تلاميذه) ومتى كُتبت. أما الخلفيّة فحملات أشورية : لن تبقى بقيّة للفلسطيين (14 :30)، لموآب (15 :9)، لأرام (17 :3)، لقيدار (21 :17). وهكذا يكون بالنسبة إلى اسرائيل ويهوذا. تجاه الاجتياح الأراميّ الافرائيميّ، قدّم إشعيا الإيمان على أنه الامكانيّة الوحيدة للبقاء (7 :9؛ رج 30:15). وابن أشعيا يحمل اسمًا رمزيًا : ش ار. ي ش ب. بقيّة تعود أو تتوب (7 :3). لم يخفِ إشعيا انحطاط العظماء (ليسوا أفضل من سدوم)، بل جعل إيمانه (ثقته) في الوعد المعطى لداود. فمن الشجرة التي قُطعت ينبت فرخ مقدّس (6 :13؛ 11 :1). وانتظر إش من الملك المسيح، إقامة البرّ والعدل، ومعرفة الرب في كل الأرض (11 :1-9). فبعد محن الاجتياح القاسية، سيستند المخلّصون حقًا إلى الربّ (10 :20؛ رج 4:3). وجاء صفنيا في خط أشعيا فأعلن الدينونة وخلاص بقية "وديعة ومتواضعة" تبحث عن ملجأ في اسم الرب (صف 3 :12-13).
ونصل إلى الحقبة المنفاويّة. استعمل إرميا دومًا لفظة "بقية" في سياق الدينونة (6 :9؛ 8 :7؛ 11 :23؛ 34 :7). فالتين الصالح (عكس رأي اليهوذاويين الذين ظلّوا في فلسطين) هو المنفيّون (إر 24). بعد دمار أورشليم، أعلن إرميا عودة بقيّة اسرائيل (31 :7) وتجمّع المشتتين (31 :10؛ رج إش 40 :11). لهذا نحتاج إلى تدخّل حاسم من قبل يهوه الذي يغفر ويسجّل شريعته في القلوب (إر 31:31-34). فالبقيّة التي هي نخبة العهد الجديد، هي ثمرة حبّ الله الأزليّ من أجل شعبه (إر 31:3).
في أرض المنفى، كانت أقوال حزقيال حكمًا على الشعب بسبب خطاياه : حتى بقيّة الشعب سوف تُشتَّت في كل ريح (5 :10). وحسب رؤية حز 9، ينجو فقط الأمناء العابدون للربّ. غير أن مجيء المسبيّين جعل النبيّ يعود عن حكمه الأول (14 :21-23). فالناجون من فلسطين لا يستطيعون أن يطالبوا بميراث ابراهيم (33 :24-25). وأخذ حزقيال يهيّئ شعب المستقبل وسط المنفيّين. ولكي تقوم هذه البقيّة برسالتها، يجب على الربّ أن يجعلها تعبر صحراء الشعوب وينقيها وينفخ فيها روحه (36 :26؛ رج 11:19-20). في هذا الاطار يتحدّد موقع نشيد عبد يهوه الذي نال التبرير للكثيرين بذبيحته التكفيريّة (إش 53). نشير إلى أن القسم الثاني من إشعيا لا يستعمل لفظة "بقيّة" سوى مرة واحدة (46 :3).
وفي الحقبة البعد منفاوية. اعتبرت مجموعة العائدين الصغيرة نفسها البقية (حج 1:12-14؛ عز 1:4؛ 9 :8، 14؛ زك 8 :6، 11)، البقيّة النخبة التي ستعيد بناء البلاد حسب برنامج هيّأه حزقيال ومدرسته في خط معاكس لخطّ " شعب الأرض". نستطيع أن نجعل في هذه الحقبة أقوال ميخا حول البقيّة : بقية اسرائيل المجموعة (مي 2:12-13) والعائدة إلى أورشليم بقيادة يهوه ملكها (4 :6-8)، هي بركة (صورة الندى) للأمم الخاضعة، وفي الوقت عينه أداة دينونة الله ضد اللامؤمنين (5 :6-7). ستلعب البقية دورًا رساليًا وسط الأمم (إش 66:19).
إن خبرة الخيانات المتكرّرة (نح 9؛ ملا) تهيّئ دينونات جديدة، وتنقية البقية تنقية دقيقة (زك 11 :9؛ 13 :8-9). في زمن الحقبة الهلنستية، لا نجد تلميحًا يشير إلى التعليم حول البقيّة. ومع ذلك فإن "الحسيديم" يمثّلون البقيّة الأمينة في معارضتها للتخلّي عن إله اسرائيل.
وارتبطت بالحسيديم مجموعةُ قمران التي اعتبرت تاريخ اسرائيل سلسلة طويلة من الخيانات. ومع ذلك، وفي كل حقبة، احتفظ الله له ببقيّة (وثص 1 :4؛ 2 :11). فالجماعة التي رجعت إلى شريعة موسى والأمانة إلى تعاليم معلّم البرّ، تعتبر نفسها بقية اسرائيل (نظح 13:8؛ 14 :8-9؛ مد 6:8). وبفضل تنقية روح الحقّ، تشكّل جماعةَ مختاري اسرائيل (وثص 4 :3). نحن هنا أمام تعليم قريب من تعليم بولس. وتُذكر البقيّة أيضاً في 1 (أخن 83:8؛ أخن 90:3؛ 4 عز 9:7 (لقد حُفظت البقيّة بفضل أعمالها وإيمانها)؛ 13 :48.
وننتهي في العهد الجديد. إن الفكرة القائلة بأن قلّة قليلة ستنجو، نجدها في زمن المسيح (لو 13 :23). ويوحنا المعمدان نفسه يشجب الاعتداد القائل بأن جميع أبناء ابراهيم سوف يخلصون (مت 3 :9-10 وز). وفي الخطبة الاسكاتولوجيّة أعلن يسوع أن أيام الضيق ستقصَّر من أجل خلاص الأبرار (مر 13 :20 وز). وأمام سرّ لاإيمان اسرائيل، ميَّز بولس بين اسرائيل بحسب اللحم والدم (بحسب البدن، بحسب الجسد ) وبين اسرائيل الله. استعاد نصوصاً نبويّة ترتبط بالبقيّة : إش 10:22-23 (رو 9:27-28)؛ إش 1:9 (رو 9 :29). وهكذا تحدّث عن العدد القليل من المؤمنين الآتين من العالم اليهوديّ. ولكنه حين استعاد 1مل 19 :10، 14، 18، حافظ على الرجاء. إن بقيّة اسرائيل تمثّل الشعب كله، وهذا ما أتاح للرسول أن يؤكّد أن كل اسرائيل سيخلص (رو 11 :26) : نظر إلى التاريخ كله في ظلّ النعمة والغفران والرحمة (رو 11:29-32).
واستعاد رؤ 7:1-8؛ رؤية حز 9 : إن المؤمنين الموسومين ينتمون إلى أسباط اسرائيل الاثني عشر. إنهم يشبهون الجموع التي جاء ت من الأمم، فمثّلوا المؤمنين الذين بيّضوا ثيابهم بدم الحمل فغلبوا عبر الشدّة العظيمة (رؤ 7:14).
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|