هذه الترجمات هي التي تعود إلى ما قبل القرن العاشر ب.م. نجدها في اللغات الساميّة (العبرية، السامريّة، الارامية، السريانيّة، العربية، الحبشية)، وفي اللغات الهندو اوروبيّة (اليونانية، اللاتينية، الارمنية، القوطيّة، السغديّة، البهلويّة، السلافية القديمة)، وفي القبطيّة والنوبيّة والجيورجيّة. وتحمل هذه الترجمات منافع ثلاث.
الأولى : منفعة للنقد النصوصيّ. فهي تساعد على إعادة تكوين النصّ الاصليّ أو الاقتراب منه. فهناك عدد من الترجمات القديمة عاصرت أو سبقت أقدم مخطوطات التوراة في اللغة الاصليّة (تعود العبريّة إلى القرن العاشر، واليونانيّة إلى القرن الثالث أو الرابع). وهي لذلك قد تتيح لنا أن نكوّن فكرة مختلفة ومحسّنة للنصّ الذي كان أساسًا لهذه الترجمات. في هذا المجال، تستطيع الترجمات القديمة أن تساند ما وصلنا إليه حين قابلنا عدّة مخطوطات في اللغة الاصليّة (مثلاً، العهد الجديد وترجمات السريانيّة العتيقة واللاتينيّة العتيقة التي تدلّ على النصّ الغربي الذي نعرفه في الكودكس البازي). وتستطيع أن تقدّم عناصر جديدة : فالترجمة السبعينية تقدّم نصاً لإرميا يختلف بطوله ومضمونه عن النصّ العبري الذي تقدمه المخطوطات، وهو أقدم من النص العبري. أما قيمة الترجمة القديمة بالنسبة إلى النقد النصوصيّ، فهي تختلف بحسب عدّة معايير.
المعيار الأول هو التاريخ. حين تكون الترجمة قديمة تستطيع أن تعكس حالة أولى (لم تحرَّف) للنصّ في اللغة الاصلية. فبالنسبة إلى العهد القديم، ترجمة السبعينيّة والترجمة السامريّة اللتان لا تبتعدان كثيرًا عن التدوين النهائي للبنتاتوكس، تعكسان نصاً أقدم من أقدم المخطوطات العبريّة الكاملة. وبالنسبة إلى العهد الجديد، فالسريانيّة العتيقة والقبطيّة واللاتينيّة العتيقة، قد تمّت منذ القرن الثالث، أي مئة سنة فقط بعد تدوين آخر ما وصل إلينا من أسفار العهد الجديد، ومئة سنة قبل المخطوطات الاسفينية التي نُسخت على الرقّ في اليونانية. أما الترجمات المتأخّرة، فاهميّتها محدودة بالنسبة إلى النصّ الاصلي.
والمعيار الثاني هو اللغة. حين تكون لغة الترجمة قريبة ببنيتها من اللغة الاصليّة، فهي تستطيع أن تحتفظ بسمات تساعد على إعادة بناء النصّ في اللغة التي كُتب فيها. مثلاً، على مستوى العهد القديم، تكون اللغات الساميّة أكثر نفعًا من اللغات الهندو أوروبيّة.
والمعيار الثالث هو أسلوب الترجمة. حين تكون الترجمة حرفيّة فهي تتيح لنا أن نعيد تكوين النصّ الاصليّ. لهذا، كانت قيمة ترجمة أكيلا للعهد القديم إلى اليونانية، مفيدة جدًا. أما التراجيم (جمع ترجوم) أي الترجمات الاراميّة التي وُلدت في الجماعات اليهوديّة والاراميّة، فهي أقلّ فائدة لأنها ترجمة حرّة، وقد زادت عددًا من العناصر الخارجيّة التي لا تتيح لنا أن نكتشف اكتشافًا يقينيًا النصّ الذي استعمله المترجم.
الثانية : هي الانتقال من شاهد إلى شاهد. فالترجمة تكون نافعة للنقد النصوصيّ بالنسبة إلى الاصل، بقدر ما تكون وسائل الانتقال (أو الشهود للنصّ) عديدة. والنقل يتمّ على اوراق البردي. أو على الرق. أو في استشهادات نجدها في كتب أخرى. أو في ترجمات تفرّعت من هذه الترجمة. مثلاً، نجد 8000 مخطوط للترجمة اللاتينيّة الشعبية، أما النسخة النوبيّة فلم يصل لنا منها إلا بضعة مقاطع. بقدر ما تكون المخطوطة قريبة من زمن الترجمة. مثلاً، إن الترجمة السريانيّة ليعقوب الرهاوي وُجدت في مخطوط لا يبعد إلاّ عشر سنوات تقريبًا عن الوقت الذي فيه تمّت الترجمة. أما أقدم المخطوطات الحبشية للترجمة التي تمّت في القرن الخامس، فتعود إلى القرن الثالث عشر. بقدر ما يكون الناسخ قد اعتنى في نسخها فجاءت سليمة من أي فساد. مثلاً النسخة السامريّة التي تكتب بحسب قواعد دقيقة جدًا وتستعمل في محيط مغلَق على كل تأثير خارجي، تختلف كل الاختلاف عن الترجمة إلى السلافية القديمة التي خضعت لتقلّبات عديدة ومهمّة بحيث لا نستطيع أن نعيد تكوين المضمون الاصلي. بقدر ما تكون المخطوطة كاملة وغير منقوصة. مثلاً، حفظت السبعينيّة كلها، أما النسخة البهلوية فلم تحتفظ لنا إلا بمقاطع صغيرة من سفر المزامير.
وأخيرًا، هناك التسلسل والتتابع. فالترجمة التي تمّت مباشرة عن النصّ الاصليّ، مثل السبعينية، تعطي فكرة أوضح من ترجمة تفرّعت عن ترجمه أخرى، كما هو الحال في الترجمة الجيورجيّة الاولانيّة التي أخذت من الترجمة الارمنيّة القديمة التي أخذت بدورها عن الترجمة السريانية المتأثرة باليونانيّة التي هي ترجمة عن العبرية في ما يخصّ العهد القديم.
الثالثة : هناك منفعة للتاريخ الكنسي وتاريخ الحضارة. فظاهرة الترجمة في العصور القديمة تشهد لها نسخات البيبليا. فمن هذا القبيل، بدت السبعينيّة مهمّة جدًا وهي أقدم الترجمات. فهل هي كسائر الترجمات القديمة (نشيد في لغتين لاشور بانيبال، شرائع مصريّة دوّنت في الديموتية والاراميّة حوالي سنة 500 ق.م. ترجمة رسميّة بادرت إلى القيام بها السلطة السياسيّة (الملك بطليـموس)، أم هي ترجمة خاصة قام بها يهود الاسكندريّة لكي يتجاوبوا وحاجات جماعتهم؟ فإن كانت هذه الفرضيّة صحيحة، تكون السبعينية أقدم شاهد لترجمة خاصة في العصور القديمة.
إن الترجمات القديمة مع تشعّبات علاقاتها المتبادلة، ومع النصوص الاصليّة، تتيح لنا بأن نرسم التيّارات الحضاريّة والدينيّة الكبرى. مثلاً، أن يكون العهد القديم قد تُرجم في أغلب الاحيان عن السبعينيّة لا عن العبريّة، يدلّ على مدى انتشار الحضارة اليونانيّة ومكانتها، حتى لدى مسيحيّي فلسطين بلغتهم الأراميّة. وتطوّر الترجمات اللاتينيّة من اللاتينية العتيقة (لغة شعبيّة مليئة بمفردات مأخوذة من اليونانيّة) إلى اللغة الكلاسيكية في اللاتينيّة الشعبيّة، هو انعكاس في المجتمع الروماني لانتشار المسيحيّة التي وصلت أولاً إلى الطبقات الشعبيّة (تتكلّم اللغة اليونانية أو اللاتينيّة واليونانيّة) ثم إلى الأوساط الميسورة والمثقّفة. ونقول الشيء عينه عن الترجمة السريانيّة التي ارتبطت في البدء بالعبرية والتراجيم الارامية. ثم تأثّرت باليونانيّة كما تأثرت الارمنية وغيرها مع سيطرة بيزنطية الفكرية على الشرق.
إن ظاهرة الترجمة التي هي نقطة التقاء بين لغتين وحضارتين، تعطي المجال لتأثير متبادل على خطّين. من جهة، يميل المترجمون بالنصّ البيبلي عن وعي أو لا، فيكيّفونه مع حضارتهم (هذا ما يسمّى الانثقاف أو المثاقفة). هذا ما فعلته السبعينيّة حين ترجمت سفر الامثال، فجاءت به شعرًا على حساب الأمانة للنصّ العبري. وفعل كذلك الاسقف أولفيلا، كما يقول الاقدمون، حين ترجم الكتاب المقدّس إلى اللغة القوطيّة : تجنّب نقل 1 و 2صم، 1 و2مل لئلاّ يحرّك الروح الحربيّة لدى مؤمنيه.
غير أن مثل هذه التحوّلات الهامة في النصّ الاصلي، هي نادرة بسبب الاحترام الذي يحيط بالنصّ المقدّس. وفي معظم الحالات، كان المترجمون خاضعين للحرف ولو على حساب الوضوح واللغة الصحيحة (اكيلا، الترجمات الحرقلية والسريانية السداسيّة أو الهكسبلية).
ومن جهة ثانية، إن النص البيبلي الذي "انثقف" عن طريق الترجمة، قد أثَّر تأثيرًا كبيرًا على مختلف الحضارات. مثلاً تأثير الشعبيّة على العالم الغربي في العصر الوسيط. أو تشرّب المسيحيات الشرقيّة من الكتاب المقدس.
ترجمة جيورجية تقع جيورجيا شمالي ارمينيا، وقد اهتدت إلى المسيحيّة بعد ارمينيا بزمن قليل. وينسب التقليد الارمني إلى مسروب مختوتز الذي اخترع الابجديّة الارمنية، اختراع الابجدية الجيورجيّة أيضاً. وما هو أكيد هو أن الاناجيل والرسائل البولسية وبعض أسفار العهد القديم كانت قد ترجمت إلى الجيورجيّة في القرن الخامس. أما سائر الاسفار فتُرجمت فيـما بعد. غير أننا نلاحظ أن 1 و2مك نُقلا في القرن الثامن عشر عن النسخة السلافية.
قال بعض الاخصائيين إن الترجمة الجيورجيّة قد عادت إلى النص اليوناني. هذا القول لا يصحّ إلا بالنسبة إلى سفر الرؤيا الذي نُقل في القرن الحادي عشر. وقال آخرون إن المترجمين عادوا إلى السريانيّة، ولا سيّمـا في ما يتعلّق بالعهد القديم حيث نجد طرق تعبير سريانيّة. ولكن ما بدأ يفرض نفسه هو أن النسخة الجيورجيّة انطلقت أول ما انطلقت من النسخة الارمنيّة، كما انطلقت النسخة الارمنيّة من النسخة السريانيّة. أمّا في ما يخصّ الأناجيل وأعمال الرسل، فالنسخة المستعملة هي الارمنيّة العتيقة التي تعود إلى السريانيّة العتيقة. وهذه الترجمة الجيورجيّة الأولى قد أعيد النظر فيها بعد القرن السابع على ضوء النصّ اليوناني. وهذا الوقوف في "الصف اليوناني" نفهمه حين نعرف أن الكنيسة الجيورجيّة ظلّت أمينة عبر العصور للعالم البيزنطيّ. فهناك عدّة أديرة قد أقيمت في بلدان تتكلّم اليونانيّة، مثل لفرا مار سابا قرب أورشليم (تأسّس في نهاية القرن الخامس) ودير القديسة كاترينة في سيناء، ودير إيفيرون على جبل اتوس (تأسّس في القرن العاشر ). ونفهم العودة إلى النصّ اليوناني حماسًا لهذا الادب في كل الشرق السرياني والقبطي والحبشي والارمني. فلماذا لا يتأثّر العالم الجيورجي بالبريق اليوناني؟
إذا عدنا إلى العهد القديم، نفهم أن الترجمة الجيورجيّة تأثّرت بسبعينية الهكسبلة في ما يتعلّق ببعض الاسفار. أما العهد الجديد فقد راجعه أو ترجمه ترجمة جديدة افتيميوس الهجيوري ( 1028) وجاورجيوس الهجيوري ( 1065). ونشير إلى أن النصّ العلمي للترجمة الجيورجيّة قد بدأ سنة 1920 وها هو يتقدّم شيئًا فشيئًا.
نجد الترجمة الجيورجيّة في مقاطع من كتاب القراءات تعود إلى القرن 5-6. أما أول المخطوطات الكاملة فتعود إلى نهاية القرن التاسع. هي مخطوطات عديدة جدًا. والنسخة الجيورجية المراجَعة هي البيبليا الرسمية لكنيسة جيورجيا اليوم.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|