1) اللاتينيتة العتيقة
(أ) الترجمة الأولى.
الترجمة الافريقية. كتب بولس إلى أهل رومة في اللغة اليونانيّة. غير أن هذه اللغة لم تكن عائقًا لانتشار الايمان في المرافئ الغربيّة. هذه اللغة كانت لغة العبيد ولغة الأسياد. ولكن منذ القرن الثاني، تكوّنت لدى المسيحيّين لغة لاتينيّة تنوّعت بتنوّع المناطق الجغرافيّة. وتكوّنت تقاليد شفهيّة محلّية تركت لنا بعض المقاطع الكتابيّة المأخوذة من أسفارها، فأثّرت على انتشار أول ترجمة مكتوبة.
ويبدو أنه وُجدت بيبليا كاملة ومتماسكة قبل سنة 250 في قرطاجة. وهذا ما نتأكّد منه في الاستشهادات العديدة التي نجدها عند قبريانس، اسقف قرطاجة (+ 258). وهناك مخطوطات للاناجيل تعود إلى القرن الرابع (مخطوطات بوبيانسيس)، ومخطوطات للحكمة وابن سيراخ (كما نجدهما في الشعبيّة). انطبعت هذه الترجمة بالطابع الشعبيّ في نموذجها اليونانيّ (النص "الغربي" الذي عُرف أيضاً في سورية ومصر، وتميّز بحواشٍ وشروح أُخذت من مواضع موازية)، كما انطبعت باختيار الالفاظ وطريقة الترجمة الحرفيّة، فتميّزت عن ترجمات حرّة عزيزة على قلب الاوساط المثقّفة.
وهكذا بدت هذه الترجمة غامضة و"غريبة عن محيطها". وما كانت معبّرة إلا بالنسبة إلى الذين يقومون بجهد كبير ليقتربوا من هذا "الكلام المقدس". منذ سنة 180، نرى الشهداء في جنوبي فرنسا يدلّون على تعلّقهم برسائل بولس. وبعد ذلك، صار من يسلّم "الكتب المقدسة" مثل ذاك الذي يتهرّب من الاستشهاد.
إن الصفة "افريقية" (ترجمة أفريقية) تدلّ على قرطاجة حيث وُجدت هذه الترجمة. فلا تدلّ على موضع صنعت فيه، ولا على لهجة خاصة. أما هذه الترجمة فقد وصل إلينا منها أجزاء، ولكنها أجزاء ضروريّة تدلّ على لغة يونانية قديمة جدًا، وتعرّفنا بالحضارة المسيحيّة في انطلاقتها الأولى. فنسخة واحدة من ذلك العصر تساوي بقيمتها عشرات بل مئات المخطوطات من العصور اللاحقة.
(ب) المراجعات "الاوروبية".
منذ القرن الثالث، عكس نوفاسيانس في رومة لغة بيبلية تختلف عن لغة قرطاجة. أخذ الآباء في اوروبا يبتعدون شيئًا فشيئًا عن البيبليا "الافريقيّة"، ويصطفّون وراء النسخات اليونانيّة المنقّحة التي تقرأها الكنائس الشرقيّة الكبرى، ويترجمون بشكل حرفيّ محاولين أن يجعلوا النصّ صحيحًا من الوجهة القواعديّة ومفهومًا على مستوى المعنى. ولكن رغم كل مجهودات التحسّن هذه، ظلّت هذه الترجمات خشنة في نظر المثقّفين الذين درسوا شيشرون وفرجيليوس وغيرهما.
نجد من هذه "المراجعات" نسخات عديدة تورد الاناجيل والرسائل وسفر المزامير. ونجد أجزاء تورد الأسفار التاريخيّة. ولكن الاجزاء قليلة بالنسبة إلى الاسفار الحكميّة والنبويّة. نُشرت هذه المخطوطات، كما طُبعت نسخة نقديّة وعلميّة للأناجيل والمزامير. ويزاد على ذلك الاستشهادات في كتب الآباء والنصوص الليتورجيّة. ومنذ سنة 1949، جمعت اللاتينية العتيقة (بورون في المانيا) النصوص الكثيرة، ورتّبتها بشكل تام، فميّزت مختلف خطوط التطوّر : فنُشر تك، حك، القسم الثاني من المجموعة البولسيّة، الرسائل الكاثوليكيّة.
إن القسم الثاني من القرن الرابع ساعد على التبادل مع الشرق، ولا سيّمـا في إيطاليا الشمالية. وتكوّن أفضل المترجمين في فلسطين أو في مصر، قرب المكتبات الكبرى. وتطوّرت النصوص بسرعة، من عشر سنوات إلى عشر سنوات. فهيلاريون وامبروسيوس يستطيعان أن يعودا مباشرة إلى اليونانيّة. ولكن آخرين أخذوا يعيدون النظر في النصوص السابقة في أصغر تفاصيلها وبشكل منهجيّ، فلم يتركوا شاردة ولا واردة. أما الضرر من هذه المبادرات المتعدّدة، فهو تنوّع قريب من الفوضى والبلبلة. ثم إن التصحيحات لم تكن كلها في محلّها. وكان من الصعب تقديرُها حقّ قدرها، وهكذا خسر الكتاب المقدس من سلطته كقاعدة إيمان وحياة. مثلاً، اهتم أوغسطينس بأن يجد أفضل الترجمات : على مستوى الاسلوب، بل على مستوى الوضوح والامانة للنصّ.
2) اللاتينية الشعبيّة
(أ) عمل ايرونيموس.
إنه سيّد المترجمين. وُلد قبل سنة 350 في منطقة أكيلاية (في ايطاليا) على الشاطئ الادرياتيكي. درس الادب في رومة وبرع فيه. ولكن شُغف بالمثال الرهباني الشرقي، فاعتزل بين سنة 375 وسنة 380 في انطاكية وخلقيس (تركيا)، وكمّل دروسه في اليونانيّة وفي علم التفسير، وانكبّ على اللغة العبرانيّة. وفي السنوات الخمس التالية، أقام في رومة بجانب البابا داماسيوس، وتخصّص في هذا المجال، ووجّه فريقًا من السيدات الشريفات توجيهًا روحيًا.
حينئذ بدأ يعيد النظر في الأناجيل اللاتينية وفي المزامير (ضاع هذا الكتاب). ولما توفّي داماسيوس وحلّ محله سيريقيوس، صار لايرونيموس عدد من الأعداء. فاعتزل في بيت لحم، وأسّس جماعة من السيدات مع القديسة بولا. صار قريبًا من جغرافية الأرض المقدسة (ليترجم الاونومستيكون أي أسماء الامكنة لاوسابيوس من اليونانيّة إلى اللاتينيّة)، وتعرّف إلى الادب التفسيري اليوناني ولا سيّمـا في مكتبة قيصريّة (على البحر)، كما تعرّف إلى هكسبلة اوريجانس. واتّصل بالمعلّمين اليهود، فبدأ أولاً يترجم أفضل النصوص اليونانية، نصّ اوريجانس. ثم عاد إلى النص العبريّ، أو بالأحرى إلى الترجمات اليهودية لدى اكيلا وسيماك وثيودوسيون مع نظرة إلى العبريّة.
توثيق واسع، جعل منه أول ماسوري نعرف عمله الذي ضاع يا للاسف. لا شكّ في أنه ظلّ أمينًا للتقاليد اللاتينيّة التي تجذّرت في الكنيسة ولا سيّمـا تلك التي تتطرّق إلى المسيحانيّة وارتباطها بشخص يسوع المسيح. غير أن أمانته للحرف لم تكن قليلة. فبفضل مراجعه تعدّت أمانتُه هذه أمانةَ المترجمين في أيامنا.
جاءت ترجمته للنصوص أكيدة بعد أن ابتعد عن براعة لغته في الرسائل وفي حياة القديسين. وقد أراد أن يأخذ بتقاليد الرابينيين، فصدم بيبليّي أيامه مثل روفينس وأوغسطينس اللذين استندا دومًا إلى السبعينية كما اعتادت الكنيسة أن تفعل منذ الزمن الرسولي. بل إن ايرونيموس قصّر اهتمامه على النص العبري (أي الأسفار القانونيّة الاولى)، ولم يترجم بعض الاسفار القانونيّة الثانية (طو، يه، أس، دا) إلاَّ مكرهًا. كما فُرض عليه فرضاً أن ينقل حك، سي، 1 و 2مك. وبعد الاناجيل، لم ينهِ العهد الجديد كله. فترك تلميذه (روفينس السوريّ) يكمّل مراجعة أسفار العهد الجديد عائدًا إلى اليونانيّة.
والتفاسير التي زادها ايرونيموس على ترجمته، حملت التفسير اليهودي، كما حملت الكثير من معلومات أخذها عن الآباء اليونان ولا سيّمـا اوريجانس. اعتبر أنه ينقل إلى العالم اللاتيني هذا الغنى الكثير دون أن يقول رأيه فيه. ومع ذلك، فحين نقرا هذه التفاسير نتعرّف إلى ايرونيموس معرفة ما كنّا لنصل إليها لو كان لنا منه فقط ترجماته للاسفار المقدسة.
(ب) مصير الشعبيّة اللاتينية
قال ايرونيموس في مقدّمة الاناجيل إنه نال عليها موافقة البابا داماسيوس، بل هو البابا دعاه إلى ذلك. ولكن حين نصل إلى الترجمات عن العبرانيّة، لن يكون لايرونيموس أي مساندة رسميّة. فقد توخّت ترجمته، لا أن تأخذ مكانتها في الليتورجيا ولا في التعليم الكنسيّ، بل أن توجّه الحوار مع اليهود. مثل هذه الترجمات لم يقبل بها إلا البلاجيون (شيعة تقلّل من دور النعمة وتعظّم المجهود البشري. حُرمت في مجمع أفسس) مع أن ايرونيموس عاداهم عداءً خاصاً. أما الآباء وكنيسة رومة الرسميّة فظلّوا يستعملون اللاتينيّة العتيقة. ولم تُستعمل نصوصُ ايرونيموس إلا بعد مراجعتها.
ولكنَّ عملَ ايرونيموس فرض نفسه في النهاية. أخذ به إيزيدور ثم باد المكرّم (من انكلترا). لا شكّ في أن كتاب مزاميره لم يفرض نفسه في الليتورجيا، بل في عالم الابحاث. ولكن ما عتّمت كنيسة غالية (أي فرنسا) أن أخذت بكتاب المزامير في صلواتها... ولما طبع غوتنبرغ الكتاب المقدس في مايانس من أعمال ألمانيا، طبع نصّ ايرونيموس كما نظّمته جامعة باريس. ثم كانت محاولات عديدة منذ المجمع التريدنتينيّ الذي انعقد في القرن السادس عشر، فانطلقت من المخطوطات لتقدّم نسخة شعبية جديدة...
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|