الحاش كلمة سريانيّة تعني آلام المسيح. فخبرُ آلام المسيح الذي يرى أصحاب مدرسة التاريخ التكويني، أنّه قديم جدًّا، يشكّل في الأناجيل الأربعة قسمًا على حدة، ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض. ففي معظم الأحداث الواردة فيه، لا نجد الألفاظ التي تربط الأخبار المستقلّة في حياة يسوع ورسالته. غير أنّ كلّ إنجيليّ أدرج في خبره مواد خاصّة به.
1) تكوين الخبر. يبدو خبر الحاش والآلام، من الوجهة الأدبيّة، وثيقة أساسيّة كمّلها كلّ انجيليّ بطريقته. نقدّم مر الذي هو أول نصّ وصل إلينا. ثمّ نعالج مت، لو، يو.
أولاً : مرقس. نستطيع أن نعزل في مر بسهولة هذا الخبر الأساسيّ. فهو يتضمّن، على ما يبدو، الأحداث التالية : مؤامرة الكهنة (14 :1-2). خيانة يهوذا (14 :10-11). عشاء الربّ (العشاء السرّي) (14 :22-25). اعتقال يسوع (14 :43-44). المحاكمة أمام رؤساء الكهنة وأمام بيلاطس (14 :53-25 :15). الصلب (15 :21-22). الدفن (15 :42-46). كلّ هذه المعطيات قد استُعملت في أقدم الكرازات الرسوليّة (أع 3:13-15؛ 13 :27-29)، وفي الاعترافات الإيمانيّة القديمة (رو(م 4:25؛ م 8:34؛ 1كور 15:3-4)، وفي الصلوات الليتورجيّة الأولى (أع 4:24-28). غير أننا نلاحظ أننا لا نجد أيّة صيغة ساميّة في هذه النصوص المرقسيّة (ما عدا 14 :22-25). ولكن الصيغ الساميّة كثيرة في أحداث أدرجت في الخبر الآتي : المسح بالطيب في بيت عنيا (مر 14:3-9). جتسيماني (14 :32-42). مشهد الهزء (15 :16-20) فاستخلص بعضهم أنّ الخبر الأساسيّ في مر، يعود إلى كرازة الجماعة المسيحيّة في رومة. فكمّلها مرقس بذكريات أخذها من بطرس. وقال آخرون : خبر الحاش هو النموذج الأول لأعمال الشهداء.
حين نقرأ خبر مرقس، نحسّ أنّنا أمام أقدم ما كتب عن حاش يسوع وموته عند الإنجليّين الأربعة. يتفرّد مر 14:27-31، 50 ومت 26:31-35، 56 بالإشارة إلى هرب الرسل (ق لو 22 :31-32؛ 23 :49؛ يو 18 :8). ومشهد النزاع هو في مر 14:33-36، مشهد ضيق عظيم، خفّف مت 26:35-45 من قساوته. أمّا لو 22 :43 فأدخل ملاكًا جاء ليعزّي يسوع (رج أيضًا لو 22 :45). ساعة القبض على يسوع، شدّد سائر الإنجيليّين بشكل خاص على حريّة يسوع (مت 26:52-54؛ لو 22 :51؛ يو 18:4-9). الكلمة الوحيدة التي تلفّظ بها يسوع على الصليب (ما عدا "الصرخة العظيمة" التي أطلقها يسوع قبل أن يسلم الروح) في إنجيل مرقس هي كلمة تخلّي الآب عن يسوع (15 :34). وهو لا يجعل في فم الحاضرين سوى كلمات الاحتقار والهزء (15 :29-32). أمّا الإنجيليّون الثلاثة فاحتفظوا ببعض أقوال ردّدها المعلّم، منها قول في الغفران واعتبارات تليق بالحاضرين (لو 23 :34-46؛ يو 19:26-28، 30).
ثانيًا : متّى، لوقا، يوحنا. استعملت المسيحيّة الأولى منذ البداية خبر الحاش في شعائر العبادة، في الفقاهة، وفي الدفاع عن الإيمان (ابولوجيا). ويبدو أنّ هذا الخبر قد وُجد مكتوبًا قبل أن يدخله مرقس في إنجيله. استفاد مرقس نفسه من تقليد خاص ليتوسّع في ما وصل إليه من خبر. وفعل سائرُ الانجيليّين مثله. ورغم ارتباطهم المشترك بالكرازة الأولى، أعطوا خبر الآلام طابعًا خاصًّا. وفعل متّى هنا كما في سائر إنجيله (1 :23؛ 2 :6، 15، 18؛ 8 :17)، فشدّد على تتمّة الكتب (26 :15، 54؛ 27 :9، 10، 34-35، 43). في هذين النصّين الأخيرين، كان مت أكثر قربًا من مر، من نصّ المزمور. وزاد بعض الحواشي المتعلّقة بيهوذا (26 :15، 25، 50أ؛ 27 :3-10)، وشدّد على مسؤوليّة الرؤساء اليهود وخطيئتهم (17 :19، 24-25).
اهتمامات مت هي اهتمامات الإنجيل الأولاني. وجاء خبر لو خاصًا : فخارج المقاطع التي فيها يرتبط بمرقس، فهو يتبع مرجعًا مستقلاًّ. كما دوّن نصّه بلهجة خاصة به : حرّك عواطف القارئ. بدا يسوع في خبره كمخلّص المرضى والخطأة، كالشهيد القديس الذي يقبل كلّ شيء ويتحمّله بالصبر (لو 22 :15، 45، 51، 61؛ 23 :27-31، 34، 46، 48).
وبيّن خبر يوحنا كيف ظلّت كنيسة أفسس أمينة للكرازة التقليديّة. كما كشف العبقريّة اللاهوتيّة والدراماتيكيّة لدى كاتبه. لم نعد أمام الرعب الذي يلي المأساة. وهكذا أعطى يو لموت يسوع القاسي والمخيّب للآمال في الظاهر، مدلوله الحقيقيّ. فهذا الموت هو عبور من هذا العالم المتقلقل الشيطانيّ، إلى الآب موضوع رجاء المسيحيّين. سار يسوع حرًّا كملك من الملوك، وعرف كل شيء مسبقًا (يو13 :1، 3؛ 18 :4؛ 19 :28)، واهتمّ بأخصّائه حتى النهاية (18 :8-9؛ 19 :26-27)، فمضى إلى لقاء حاشه في مشاهد الآلام (18 :5، 8؛ 19 :7، 17 : هو يحمل بنفسه صليبه). ففي حاشه (12 :23-24؛ 13 :31-32؛ 17 :1، 4) وفي موته (الذي هو ارتفاعه بحسب يو) يَظهر مجدُه. هو منتصر على الصليب (يو 12 :32؛ 19 :30). ربط يوحنا القيمة الخلاصيّة لرسالة يسوع بموته على الصليب (3 :13-14؛ 12 :32-33). مقابل هذا، ربط بموت يسوع وقيامته (انطلاقه) وحيَ أصله وطبيعته. كما رأى فيهما الموضوع الأساسيّ لرسالة التعزية التي يوجّهها إلى التلاميذ.
2) لاهوت الحاش. ^ أولاً : قبل تدوين الأناجيل. إنّ خبر مرقس ليس فقط تقريرًا مقتضباً عن أحداث الحاش الرئيسيّة. فهو أيضًا تاريخ خلاص. يبيّن مدلول وأهميّة الأحداث كما فهمتها أقدم كرازة مسيحيّة. ما اعتادت هذه الكرازة أن تشدّد على القيمة السوتيريولوجيّة ( تحمل الخلاص) لآلام يسوع (راجع مع ذلك تأكيدًا ضمنيًّا لهذه الفكرة في (أع 3:15؛ أع 4:12؛ 8 :32 على ضوء إش 53). بل رأت في هذه الآلام ( الحاش) محنة خرج منها يسوع منتصرًا. وهذه المحنة كانت في حدّ ذاتها حجر عثار (كانوا ينتظرون مجيء مسيح قدير). وفي نظر اليهود اللامؤمنين، كان الحاش البرهان بأنّ ا لم يكن مع يسوع. أجابت الكرازة المسيحيّة على هذا السؤال فبيّنت كيف عامل اليهود يسوع وكيف أقامه ا من القبر (أع 2:24، 32؛ 3 :15؛ 4 :10؛ 5 :30)، ودفعت عن يسوع كل ما اتّهم به من ضعف (الاعتراض اليهوديّ الأكبر، رج غل 3 :13 وتث 21 :23؛ 1كور 1:22-25). وبيّن الخبر الإنجيليّ بشكل خاص أنّ يسوع الذي كان بريئًا (أع 4:27-30؛ رج إش 49:3-4؛ 53 :4-9) احتمل الآلام والموت كبارٍ ((أع 3:14؛ أع 7:52؛ 8 :32-33) بحرّية تامّة. وإنّ ا، بحسب شهادة الكتب (مز 22:16؛ 101 :1 ي؛ والإيرادات الضمنيّة في تث 21:23 في أع 3:13، 26؛ 4 :27-30؛ إش 53 فيرد بشكل واضح في أع 8 :32-33)، قد حدّد مسبقًا مسيرة المسيح ((أع 1:16-30؛ أع 3:17-21؛ 4 :11، 25-28؛ 8 : 35؛ 13 :29). شدّد أع مرّة واحدة على جهل اليهود (أع 3:17-18)، ولكنّه لم يُخفِ خطيئتهم (4 :10-11، 27؛ 5 :30؛ 7 :51-52). وأبرزت الكرازة الأولى بشكل عابر تفاصيل أحداث الحاش، وما شدّدت على الوجهة البشريّة والمؤلمة (رج 1 (بط 1:18-21؛ بط 2:21-25؛ 3 :18-22؛ عب 5:7-8؛ 12 :2).
ثانيًا : في الأناجيل. نجد الميزات عينها في خبر الحاش كما في الأناجيل. لا يتحدّث الإزائيّون بشكل صريح عن مخطّط ا الخلاصيّ الذي حقّقه حاش يسوع. ولكنّنا نجد عندهم عناصر هذا التقليد. فهم يبيّنون أن يسوع كان يعرف مسبقًا المصير الذي ينتظره (مر 14:8، 18-21، 27-31 وز؛ 14 :55؛ لو 22 :15؛ يو 18 :4)، وأنّه تألّم كإنسان بريء وبارّ (مت 27:19، 24؛ (مر 8:31؛ مر 14:42؛ يو 14 :31؛ 19 :17). انتزعوا هذه الأحداث من حدودها التاريخيّة على مستوى الزمان والمكان، فدلّوا على بُعدها الكونيّ (مت 26:52-53؛ مر 15:33) اللامحدود (مت 21 :37 وز؛ 26 : 39 وز؛ يو 3 :16). هم يعرفون أن في حاش الربّ كانت حربٌ بين ا وإبليس (مت 16:3) وز؛ لو 22 :3، 31، 52؛ يو 14 :30)، وأنّ كلّ ما أعلن منذ القديم من خلال إنباءات الأنبياء وصورهم (مز 22؛ 69؛ 87؛ إش 53:12؛ زك 13) قد تمّ في ساعة الحاش ( الآلام) (مت 26:15؛ 27 :9-10؛ مر 14:18-21، 24، 27، 49؛ 15 :23-24، 29، 34؛ لو 22 :37؛ يو 19 :28، 31-37). إذن، لا يموت يسوع فقط مثل ضحيّة بسبب عنف خصومه وما فيه من فظاظة. ففيه يتمّ مخططُ ا الخلاصيّ ومشيئة ا. ثمّ إنّ ا يُثبت مدلول الأشهر الأخيرة من حياة الربّ، فيجعل من المصلوب مسيحًا قائمًا من الموت وممجّدًا (رج إنباءات الآلام في مت 16:21 وز؛ 17 :22-23 وز؛ 20 :17-19 وز؛ يو 13 :31-32؛ 17 :1، 5). لا يتوخّى خبر الحاش أن يحرّك فينا العاطفة ويبني القرّاء بقدر ما يحاول إقناعهم والإجابة مسبقًا على اعتراضات الخصوم. غير أنّ شخص يسوع المتألّم يظهر منذ البدء كمثال نقتدي به (مر 14:38؛ لو 23 :26؛ أع 7:59-60). ولا تطرح أخبار الحاش بشكل صريح مسألة القيمة السوتيريولوجيّة الشاملة لموت يسوع. ولكنّنا نجد فيها عناصر جواب سيأتي فيما بعد : بشكل ضمنيّ في مر 10:45 وز حيث نجد تعبيرًا عن الألم الذي يرضي الآب. وبشكل واضح في مر 14:24 وز الذي نقرأه على ضوء أش 53:12. ونجد أيضًا في خبر الإنجيل الرابع، المواضيع اليوحناويّة الكبرى : يسوع نور العالم، ومخلّص العالم. يسوع الذي يقدّم نفسه عن أخصّائه (يو 17 :19).
3) تاريخيّة الحاش : جاءت اهتمامات إرشاديّة ودفاعيّة وعقائديّة، فأثّرت على تدوين خبر الحاش الذي ليس هو فقط تقريرًا "صحافيًّا" بل تعليم خلاص. وهذه الوجهة الكرازيّة تشدّد على الأخبار المختلفة. ثمّ إنّ الفقاهة المسيحيّة (أع في قسمه الثاني، الرسائل، رؤ) لم تعبّر عن المدلول السوتيريولوجي لحاش يسوع وموته في تعابير عقائديّة نهائيّة. هذا الخبر القانونيّ عن الحاش والآلام، ليس فقط عمل كاتب معيّن. إنّه تعبير إيمان الكنيسة الأولى. هذا الواقع يكفل في الوقت عينه أمانة للتقليد القديم الذي يعود إليه هذا الخبر الذي واجه الرأي العام منذ البداية. جاء الخبر بإيجاز واحتفظ من كل تفسير، فما جعل من يسوع مؤوّل اهتماماته العقائديّة الخاصة. ابتعد عن الأخبار المنحولة، فما تكلّم يسوع إلاّ نادرًا.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|