1) الاسم. إن عبارة "شريعة موسى" تدل على مجمل الفرائض التي يُقرّ بها اسرائيل على أنها موحاة من الله بواسطة موسى. في العبرية : ت و ر هـ. في اليونانية : نوموس (في العربيّة : ناموس). في العهد الجديد، تضمّنت اللفظة عودة إلى نص مكتوب هو البنتاتوكس أو أسفار الشريعة الخمسة. وفي معنى أوسع، دلّت على التوراة العبريّة كلها. ويعرف العالم اليهودي الفريسيّ امتدادًا آخر، فيذكر أيضاً الشريعة غير المكتوبة، التي نُقلت بطريقة شفهيّة قبل أن تدوَّن في المشناة وفي التلمود.
هذه التسمية لم تفرض نفسها إلاّ شيئًا فشيئًا في اسرائيل، وإن كان الشعب خضع منذ بداية تاريخه إلى متطلّبات أوحيت له. في البدء، كانوا يسمّون هذه المتطلّبات في صيغة الجمع : قرارات (ح ق ي م)، أحكام (م ش ف ط ي م)، كلمات (د ب ر ي م)، وصايا (م ص و و ت). أما "تورة" فدلّت بشكل رئيسي على جواب يعطيه اللاويون على سؤال قانونيّ أو عباديّ، وكانوا يحصلون عليه بالقرعة. إن سفر التثنية يتوسّع في معنى هذه المجموعة من المتطلّبات الموحاة في "م ص و هـ " أو "ت و ر هـ ". ثم فرضت "ت و ر هـ " نفسها في هذا الخط دون أن تخسر مدلولها كتعليم. والبنتاتوكس (أو التوراة بشكل حصري) يبدو خبرًا أكثر منه شرعة، حتى ولو كانت النصوص القانونية والطقوسيّة هي المسيطرة.
2) مضمون الشريعة. إذا أدركنا بنية الخبر الذي يشكّل لحمة التوراة (أو : النبتاتوكس)، فالمواد التشريعيّة تبدو تجميعًا لمجموعات جزئيّة. بعضها يتحدّث عن موضوع واحد (لا 1-7؛ 13-14؛ خر 25-31). وبعضها الآخر يضمّ فرائض ترتبط بمجالات مختلفة، ولكنها تتوحّد على مستوى الاسلوب، وهذا ما يساعدنا على فهمها. بين هذه المجموعة نذكر الدكالوغ أو الوصايا العشر (خر 20:2-17)، شرعة العهد (خر 20 :19-23 :19)، شريعة القداسة (لا 19-26)، الشرعة الاشتراعيّة (تث 12-26). وما تبقّى يُسمّى : شرائع كهنوتيّة. هي تتمتّع بوحدة الاسلوب ووحدة اللاهوت، ولكن لابنية إجماليّة لها. وبجانب هذه المجموعات الموسّعة، هناك عدد كبير من الفرائض الموزّعة في البنتاتوكس، في ختام الخبر (تك 2 :1-4؛ 9 :1-10؛ عد 9:1-14)، أو في قلب تحريض عام (تث 10:19؛ 6 :16).
لا شكّ في أن كل هذا بُني شيئًا فشيئًا على مدّ التاريخ. ونستطيع أن نحدّد في التاريخ موقع كل مجموعة، ولكننا لا نرى مرارًا المبادئ التي أشرفت على جمع هذه الفرائض. هي تلامس مجالات عديدة. فهل هناك تراتبيّة بينها؟ أيها الأهمّ؟ تقدّم لنا هذه المجموعات عناصر جواب، لأنها تُبرز مرارًا هذه الوصيّة أو تلك، أو ترتّب الوصيّة فتبدو الوصيّة الأولى كالوصيّة الأهمّ. مثلاً، الوصيّة الأولى في الوصايا العشر (لا يكن لك آلهة سواي) تعتبر أهمّ الوصايا. ونحن نقرأها في تث 6:5 كما يلي : "أحبوا الربّ إلهكم بكل قلوبكم وكل نفوسكم وكل قدرتكم". ويُعطى مقام مميَّز للدكالوغ، مع العلم أن الوصيّة الثانية (مر 12:38-34، الوصيّة الثانية تساوي الاولى) نجدها في لا 19 :18 : "أحب قريبك مثلما تحت نفسك".
هناك طرق عديدة لترتيب هذه الفرائض. ميّز الرابينيون الفرائض الايجابية (إعمل، قدّس يوم الرب) والفرائض السلبيّة (المنع، لا تقتل). غير أن هناك متطلّبات تظهر في الشكلين. لهذا رأى الشرّاح المعاصرون اختلافًا بين (1) شريعة لا شخصية : يجب أن نعمل هذا. (2) وبين شريعة آمرة : إفعل هذا ولا تفعل ذاك. (3) وشريعة فتاوية : إذا كانت الحالة هكذا فاصنع هذا. الأولى يستعملها القضاة والحماة عن الشريعة. والثانية لها مكانتها في اعلان متطلّبات تتوجّه إلى شعب الله في إطار الليتورجيا. والثالثة تُشير إلى أجوبة يعطيها حُماة الشريعة على مشاكل ملموسة عُرضت عليهم : إنها ترتّب شرعة أو مجموعة اجتهادات.
هذه الأنماط الثلاثة من الشرائع قد عُرفت أيضاً في المجتمعات القديمة. غير أن الشكل الآمر يبدو أقلّ تواترًا ممّا هو في اسرائيل.
3) أصالة الشريعة. لم تُوحَ هذه الشريعة كما نقرأها الآن دفعة واحدة (وهكذا نقول عن عظة الجبل في مت 5-7. قالها يسوع في عدّة مناسبات وجمعها الانجيليّ في نصّ واحد متسلسل). فالنص البيبلي يقول إن الوحي جاء متدرجًا. واللاويون الموكّلون على حماية الشريعة والكرازة بها (تث 10:8؛ 33 :10)، ما اكتفوا بأن يحافظوا على نصّ أعطي مرّة واحدة فحجّروه. فموهبة الالهام لم تكن خاصة بموسى وحده.
ويُطرح سؤال ثان : هل تعلّم اسرائيل هذه المتطلبات خارج الوحي بحصر المعنى؟ الجواب هو نعم، حين نلاحظ فرائض مشابهة ومتماهية على مستوى الحقّ والتعليم الديني والخلقيّ، لدى شعوب أقدم من شعب اسرائيل. (1) كودكسات الشرائع السومرية (أور نامو، القرن 21؛ ليفيت عشتار، القرن 19) والاكادية (بيلالاما، القرن 20؛ حمورابي، القرن 18) والاشورية (القرن 17) والحثية (القرن 14). (2) نصوص أخلاقيّة مصرية وبابلونيّة ذات طابع ديني (إعلان براءة في كتاب الموتى، 125) أو ذات طابع تربويّ (بتاح حوتب، مريكارع). (3) شهود عن ممارسة قانونيّة (عقود نوزي، ماري) أو ليتورجيّة (كتاب الطقوس البابليّة، قصائد اوغاريتية) وجدت ما يثبتها في عالم الاركيولوجيا. (4) عوائد الساميين البدو في القرن 19 ق.م. وهي قديمة جدًا، تقاليد العائلات والقبائل (دوّنت مرارًا)، حضارات وثقافات هذا الشرق. كل هذا غرف منه بنو إسرائيل خلال أسفارهم أو بواسطة كتب انتقلت من بلد إلى آخر.
في هذه المجموعة الواسعة، وُجدت نقاط تقارب مع عدد كبير من فرائض الشريعة، حتى تلك التي تبدو أصيلة كل الاصالة. منذ عهد بعيد، لاحظ الشرّاح تشابهًا بين ديانة أخناتون والمونوتاويّة في اسرائيل. والسبت يرتبط من قريب أو بعيد بالأيام المحرمّة في بابل والمرتبطة بالقمر. فهل نستنتج أن شريعة موسى هي شميلة بين شمائل اخرى، لأساس خلقيّ ودينيّ شارك فيه العالم الساميّ؟ ولكن ماذا يصبح الوحي عند ذاك؟ والجواب يمكن أن يكون : لا علاقة ارتباط اطلاقًا بين الشريعة الموحاة وتعاليم سائر الشعوب. لقد تعلّم بنو اسرائيل من فم الله ما تعلّمه الآخرون من تقاليدهم!
ولكن الصحيح هو أن الوحي توقّف عند أمور جوهرية، انطلق منها حماة الشريعة فضمّوا إليها ممارسات عديدة عرفها محيطهم. ونحن نكتشف عبر النص البيبليّ، أن ضمّ هذه التشريعات تمّ بعد تلمّس طويل. فهناك ممارسات أخذها بنو اسرائيل في البدء، عن حسن نيّة، سوف تشجبها الشريعة كما سيشجبها بشكل خاص الأنبياء. مثلا، تصوير عرش الله بشكل عجل (خر 32؛ هو 8:5-6). ذبائح الأطفال (إر 7:31؛ تث 12:31). وهناك ممارسات نظّمتها الشريعة ولكن رذلها الانبياء : تابوت العهد (إر 3:16). الهيكل (إش 66:1-2). يبدو أن عمليّة "الهضم" سوف تتوقّف مع تث.
4) ممارسة الشريعة. كيف تتمّ حماية هذه الشريعة؟ هي تتضمن سلسلة من العقوبات. ولكن ليس من الواضح أن يكون الرأي العام مستعدًا لتطبيقها، فبقيت في حالات عديدة حرفًا ميتًا. وكانت نتيجتها التشديد على أهمية الفريضة (تث 13). ووجب على السلطات المدنيّة والدينيّة أن تطبّق هذه العقوبات. ولكن التوراة مليئة بأمثلة معاكسة حيث السلطة تعاقب الذين يمارسون الشريعة. وعلى المستوى العائلي، كان ضغط العادات المعاكسة هو الأقوى.
إذن، لم يكن للشريعة سوى كلام الوعّاظ الذين توسّعوا في خطط الاقناع. ومع التحريضات المتنوّعة لجأوا إلى الالتزامات الجماعيّة مع تهديد باللعنة (تث 29:9-20؛ 2مل 23 :1-3؛ نح 10)، إلى الاحتفالات الدوريّة (تث 31:9-13). وجعلوا من الامانة للشريعة شرط الدخول إلى المعبد (مز 15؛ 24 :26؛ 118). وفاعليّة هذه الوسائل الاقناعيّة لم تكن واضحة بالنسبة إلى الأنبياء. فقد حسبوا بالاحرى حساب صدمة الأحداث ليدعوا الشعب إلى الطاعة (هو 2؛ عا 4). وانتظروا اليوم الذي فيه يحفر الله شريعته في القلوب، فيستغني الناس عن كل تعليم (إر 31:33-34؛ رج حز 36:27؛ 37 :24).
والأساس اللاهوتيّ لهذا الإقناع توسّع في خطين اثنين. (1) بدت الشريعة كمتطلّبة "العهد" الذي يجعل إسرائيل في علاقة صداقة مع إلهه. وفي منظور التزام متبادل توسّع فيه تث، هناك جواب الشعب على ما يقدّمه إلهه كشرط بركة متواصلة. ورفض الطاعة للشريعة يجرّ العقوبات الهائلة. وهكذا صارت الشريعة مفتاحًا من مفاتيح التاريخ، بل عملت على بنائه. وإذا كان العهد قد بدا التزامًا لا مقابل له، فالطاعة للشريعة تعني أن الله اقتنى الحقّ بأن يفرض إرادته على شعب خلقه وحرّره (رج العبارة الأولى في الوصايا العشر). وتدلّ على أن الشعب يقبل عطيّة مجانيّة من صداقة الرب. في هذا المنظور المرتبط بالتاريخ، تستطيع الشريعة أن تغتني وتتوسّع على أثر خبرات جديدة. (2) وترجمت الشريعة عمل الله من أجل البشر. فإن تك 2 :1-4 يتحدّث عن ممارسة السبت اقتداء براحة الله. وعلى معبد اسرائيل أن يُبنى حسب مخطط مُوحى بشكل مباشر سيقال عنه فيما بعد أنه مخطّط المعبد السماويّ. وبشكل عام ستقول شريعة القداسة : "كونوا قديسين لاني أنا قدوس". مثل هذه الشريعة لا تتبدّل فلا تكون خاضعة للتاريخ، وإن لم يوحَ بها إلا بشكل تاريخيّ لهدف تربويّ (أي بشكل تدريجيّ). وقد توسّعت في هذه النظرة كتاباتُ الحكمة التي ماهت بين الشريعة الموحاة على مستوى الخلق وشريعة العالم (سي 24؛ با 4).
5) الشريعة في العهد الجديد. اختلفت مواقف كتّاب العهد الجديد تجاه الشريعة، ونحن نجعلها في ثلاثة. (1) ما ألغى يسوع الشريعة، بل كمَّلها (مت 5:17-19). راعاها في ممارستها ولكن أعطاها تفسيرًا جديدًا، يختلف عن تفسير الفريسيين، ويُبنى على تعميق المتطلّبات الاساسيّة (مت 5:20-21). (2) ألغيت الشريعة بالنسبة إلى المسيحيين. فالمسيحيّ الذي ينعشه الروح القدس، يجد بالغريزة ما هو صالح ويرضي الله (غل 5 :13-26)، وينال القوّة لكي يتمّمه. (3) ألغى يسوع الشريعة القديمة وأحلّ محلّها الشريعة الجديدة (لو 16 :16؛ يع 1 :25) التي تجسّد العهد الجديد المقام بذبيحة المسيح (مت 26:28). إذا كان جوهر هذه الشريعة هو "الوصيّة الجديدة" ("مثلما أنا أحببتكم أحبّوا بعضكم بعضاً")، يو 13 :34)، فهي تضمّ أيضاً عددًا من الفرائض الموسويّة مع الوصايا العشر و "الشريعة الملكيّة" (يع 2 :8) : "أحب قريبك مثلما تحب نفسك". ولم تعط المعايير التي تتيح لنا التعرّف إلى ما يجب أن نحفظه.
نجد في بولس العبارات القويّة في خط الرأي الثاني (أف 2 :15؛ غل 3 :13). ولكنه يُسند في الواقع الرأي الثالث (1كور 9 :21). وتعليماته العمليّة للجماعات تتضمّن عددًا من فرائض الشريعة الموسويّة (1كور 6 :7؛ روم 12 :13).
والمسألة الأساسية التي تدرسها رو، غل، هي : ما هو دور الشريعة في تاريخ الخلاص؟ يؤكّد العهدُ الجديد كله أن الشريعة لا تبرّر الانسان أمام الله. وإذ تُكثر من ظروف العصيان، فهي تُغرق الانسان في الخطيئة. وحده الايمان بالمسيح يمكنه أن يقدّم هذا التبرير (غل 2 :15-21؛ أع 15:9-11؛ عب 9). فبعد أن يتحرّر الانسان من الخطيئة وينتعش بالروح القدس، يستطيع أن يُتمّ "الأعمال الصالحة" التي ينتظرها الله منه، والتي يجد صورة عنها في الشريعة، شريعة المسيح، أو الشريعة القديمة التي جدّدها يسوع. وبمختصر الكلام، نحن لا نمارس الشريعة لكي نبرَّر، بل لأننا مبرّرون. وهكذا نجد مرة أخرى لاهوت العهد الجديد كما توسّع فيه إر 31:33-34 وحز 16؛ 36.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|