تحدّث إيمان المسيحيّين عن تجسّد ابن الله بلغة "النزول"، فقال "من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر، نزل من السماء" (قانون نيقية. سنة 325؛ رج إش 64:2؛ يو 3 :13؛ 6 :51). "حين نزلت فيما مضى وعملت أعمالًا رهيبة لم نكن ننتظرها، مادت من وجهك الجبال". وهكذا دلّ الكتاب، عن طريق الاستعارة، على "صعود" يسوع إلى السماء، على دخول يسوع في مجد أبيه. بعد قيامته في اليوم الثالث (قانون نيقية، رج مز 68:19؛ يو 3 :13؛ 6 :62؛ 20 :17؛ أف 4:9-10) نحن في الوقت عينه أمام حدث له موقعه في التاريخ البشريّ وقد اختبره الرسل، وأمام سرّ يتعدّى النظام البشريّ بحيث لا نستطيع أن نتحدّث عنه إلاّ بالرموز. ظهر يسوع لتلاميذه الذين كانوا يبكونه ميتًا، ظهر حيًّا منذ اليوم الثالث، فدلّ هكذا على واقع قيامته. فظهوراته لا تصوَّر في الأناجيل وكأنّها نتيجة عودة النفس إلى الجسد، عودة إلى الحياة، بل كحضور في شكل آخر (لو 24 :37-40؛ يو 20 :19، 26). إنّ غياب مثل هذا النمط من الخبرة، يهيّئ الرسل والقريبين من يسوع للعنصرة حيث يصبح روح يسوع في داخل بشر يحلّ عليهم فيعطيهم أن توافق حياتُهم حياةَ يسوع.
كيف عبّر العهد الجديد عن خبرة الصعود؟ عرف العالم القديم تعظيم أبطال أسطوريّين "اختُطفوا" إلى السماء بعد موتهم : هرقل، رومولوس... كما عرف "رحلة سماويّة" عاشها بعض الأشخاص المميّزون الذين عاشوا انخطاف النفس. واستعمل الأدب الجلياني في العالم اليهوديّ موضوع "الرحلة السماويّة" (وص اب 7:19-8 :3) أو "صعود النفس" (وص اب 14 :6-7). ولكن الموضوع الأكثر انتشارًا ظلّ موضوع "الاختطاف" إلى السماء، قد عرفه أشخاص عظماء في التوراة. هذا ما حصل لأخنوخ (تك 5 :24 : أخذه الله؛ سي 44 :16؛ 49 :14؛ عب 11:5) الذي هو صورة عن البار الذي مات قبل أوانه (حك 4:10-11). وهذا ما حصل لإيليّا النبيّ (2مل 2 :9-10؛ سي 48:9-11). ونزيد أخبارًا تقع بين العهدين حول صعود عزرا (4عز 12:10-50)، وباروك (رؤيا باروك السريانيّة 76)، وموسى (يهو 9؛ يوسيفوس، العاديات 4 :325؛ صعود موسى). ونجد لفظتين تفصحان عمّا حصل ليسوع القائم من الموت، في ظهوراته للرسل : "اختطف". "حُمل". وهكذا حصل له ما حصل لأخنوخ وإيليا، مع إشارة إلى الجبل والغمام، ووداع يسوع لتلاميذه الذين سجدوا له (لو 24 :51؛ أع 1:2، 11، 22). ويتناقش الشرّاح ليعرفوا هل ان "الاختطاف" يعني موت يسوع أو قيامته. يبدو أن اللفظة تدلّ على الاثنين كما في لو 9 :51 (رج 1تم 3:16؛ يو 3 :14 الذي يتحدّث عن ارتفاع في الصليب والموت، وارتفاع في القيامة والصعود).
واللفظة الثانية هي "الصعود". نجدها في العهد القديم على أثر ظهور إلهيّ (تك 17 :22؛ 35 :13؛ ق(ض 6:21؛ ض 13:20؛ طو 12 :20، 22). أو حين يترك مجدُ يهوه هيكلَ أورشليم (حز 11:23). استعمل اللفظة كل من يوحنا (يو 3 :13؛ 6 :62؛ 20 :17) وبولس (أف 4 :9-10 في خطّ مز 68:19؛ رج رؤ 11 :12). ونستطيع أن نتذكّر أيضاً موسى وهو صاعد إلى سيناء لكي يتقبّل الشريعة من أجل البشر (خر 24:12؛ 34 :14) كنموذج للمسيح الذي صعد إلى السماء ليرسل من هناك الروح القدس (أع 2:33).
وماذا نقول عن الحدث؟ روى الأناجيل وأعمال الرسل الواقعَ باختلافات ملحوظة. لم يذكره مت 28:16-20. أما مر 16:19 فاكتفى بالإشارة إليه. وفي نظر يو 20 :17، يبدو حدث الصعود وكأنه حصل في أحد الفصح والقيامة. طلب القائم من الموت إلى مريم المجدليّة أن تقول للتلاميذ "إنه صاعد إلى أبيه وأبيهم، إلى إلهه وإلههم". فبحسب هذا الإنجيل، يتمّ الصعود يوم القيامة، فيحمل البشر في خطّ المسيح الحيّ. أما لوقا فتحدّث في نهاية إنجيله عن حدث الصعود بشكل انفصال (24 :51). وبدا الصعود وقد تمّ في يوم القيامة على جبل الزيتون. في أع 1:9-11، أعطى لوقا "وصفًا" للصعود : ارتفع يسوع نحو السماء، وجاءت غمامة فحجبته عن عيون التلاميذ. لقد تمّ الحدث على جبل الزيتون أيضاً كما في حز 11:23. تمّ بعد الفصح بأربعين يومًا (أع 1:3؛ رج 13:31). هذا الرقم الرمزيّ (رج لو 4 :1-2) يدلّ على زمن مميّز في وحي الله للبشر (خر 24:18؛ 34 :28). اختفى يسوع "في الغمام" فقابل اختفاؤه "مجيئه في الغمام" (لو 21 :27)، نفهمه امتدادًا في تاريخ الكنيسة والعالم (مت 28:20؛ مر 16:20) حتى يتمّ في مجيء المسيح الثاني (مت 24:3؛ 1كور 15 :23). فنحن لا ننتظر عودة يسوع بشكل منفصل ودون أن نتحرّك، بل نعود إلى أورشليم لنعمل فيها بقدرة الروح القدس.
استلهم لوقا بلا شكّ صورًا من العالم اليهوديّ والعالم الهلينيّ. ولكنه تميّز عن نماذجه بإيجازه، فتجنّب صورًا خياليّة اعتاد عليها هذا الفنّ الأدبيّ. بالإضافة إلى ذلك، لم يقدّم لنا يسوعَ كبطل يرتفع إلى عالم الآلهة، بل هو يعود إلى "بيته"، إلى السماء، لأنه ابن الله الحقيقيّ. ويُطرح سؤال : هل نتحدّث عن الصعود كحدث تاريخيّ في المعنى الحصريّ للكلمة، أم كخبرة يرويها لوقا وكأنّها واقع من التاريخ؟ لا شكّ في أنّ الإنجيليّ وصف المشهد بتعابير أخذها من العهد القديم (خصوصًا (مز 2:7؛ مز 8:6؛ 68 :19؛ 101 :1). كما عاد إلى التقليد اليهوديّ، ولكنّه قدّمه بشكل كرازة مسيحيّة حول تمجيد المسيح ((أع 2:33؛ أع 5:31؛ 7 :55؛ لو 24 :52، 1تم 3 :16). وإذ فعل ما فعل، أراد أن يحدّثنا عن خبرة تاريخيّة اختبرها التلاميذ وهي خبرة مسافة تفصلهم عن القائم من الموت بعد أن مجّده الآب تمجيدًا نهائيًّا. فتمجيد يسوع هذا يتفلّت من الزمن (أي لم يعُد له جسد ملموس مثل جسدنا)، فتعيه الكنيسة بشكل تدريجيّ. ولهذا كان لوقا على حقّ حين قدّم الصعود في الوقت عينه كحدث بالنسبة إلى المسيح (تمجيده لدى الآب)، وكحدث بالنسبة إلى التلاميذ (خبرة شكل جديد لحضور المسيح في وسطهم).
ماذا يقول اللاهوت في الصعود؟ إن السرّ الذي تترجمه عبارة "صعود يسوع إلى السماء" الاستعاريّة في قانون إيمان الكنيسة، يرسمه الإنجيل الرابع في حوار يسوع مع نيقوديمس (يو 3 :13) وفي خطبته حول خبز الحياة (6 :62). فيسوع القائم من الموت، المنتصر على الموت، يحمل معه البشر في حياة حميمة مع الآب، ويكشف بذلك عن أصله السماويّ وعن الغاية النهائيّة للجنس البشريّ. وعد البشريّة بمصير حياة أبديّة، فهيّأ رسالة الروح القدس (يو 16 :7) كمبدإ باطنيّ لتقديس البشر. في هذا المجال كتب لاون الكبير بابا رومة (440-461) : "إذن، صعود المسيح هو ارتفاعنا نحن، وحيث وصل مجد الرأس (يسوع هو رأس الكنيسة) هناك دُعي رجاء الجسد" (العظة الأولى حول الصعود). وتوسّعت الرسائل البولسيّة مرارًا في هذا الموضوع : فيسوع القائم من الموت بدأ منذ الآن يحوّل المسيحيّين (رو 6:10-14). هو يتشفّع من أجلهم (8 :34) ويُنمي فيهم "الخليقة الجديدة" (غل 6 :15). فالخلاص الذي ناله يسوع المائت والقائم من الموت، ليس واقعًا خارجًا عن الإنسان. إنّه تحوّل جذريّ للبشريّة بحيث يُدخلها إلى الدائرة الالهيّة. وصوّرت الرسالة إلى العبرانيّين تمجيد يسوع كدخوله النهائيّ إلى معبد الله (6 :19-20؛ 7 :25-26؛ 9 :23-28؛ 10 :19-22). وحين دخل المسيح في حميميّة الآب، دشّن ارتفاع الإنسان، باكورة تأليهه للكون. وتحدّث بولس عن طلب "ما هو فوق" (إلى الامور التي في السماء) (كو 3:1-3)، عن تحرّر محيي تُحدثه النعمة فينا (أف 4 :8-13)، عن تبدّل روحيّ يكوّن الإنسان الجديد (أف 4 :22-24)، عن انتظار تجلّي كياننا كلّه (فل 3 :20-21). وهكذا يظهر صعود يسوع كالفصل الأول في البناء الاسكاتولوجيّ (مت 17:11؛ أع 3:21) الذي بدأ بموت يسوع وقيامته.
ومتى احتُفل بعيد الصعود ؟ إن الاحتفال بعيد الصعود قد توسّع في حقبة متأخّرة : فأول إشارة معروفة إلى احتفال يقع أربعين يومًا بعد الفصح، يعود إلى سنة 370 (القوانين الرسوليّة 8 :33). فمنذ الزمن الرسولي وحتى القرن الرابع، كان المسيحيّون يحتفلون بالصعود بعد ظهر يوم العنصرة، على جبل الزيتون. في القرن الخامس تحدّث يوحنا الذهبيّ الفم (344-407) في القسطنطينيّة، في الشرق، وأوغسطينس أسقف هيبونة (أفريقيا الشماليّة) في الغرب، عن عيد الصعود الذي عمّ المسكونة. وشدّد سينودس اغاتا (أو : أغد) في جنوبي فرنسا، سنة 506، على الاحتفال بهذا العيد. في بعض الكنائس تُطفأ في ذلك اليوم شمعة الفصح التي ترمز إلى حضور المسيح القائم من الموت، لتذكّر المسيحيّ أن هذا الحضور يجب أن يكون حضورًا باطنيًّا بعطيّة الروح القدس.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|