1) أصل الصورة ومدلولها. إن لفظة "صورة" تدلّ على تمثّل للواقع في رسم أو في قالب. في العبرية : ص ل م (في العربية : صنم)، ت م و ن هـ، ت ب ن ي ت (تث 4:12، 25) د م و ت (في موازاة مع "ص ل م" في تك 1 :25)، م ث ك ي ت (عد 33:52)، ق ص ب (1مل 6 :25، 37؛ رج حز 1 :26-28). ميّزت العبريّة في الأصل بين الصورة المنحوتة (ف س ل) والصورة المذوَّبة (م س ي ك هـ). غير أن هذا التمييز لم يدُم طويلاً، فدلّت "ف س ل" على أي صورة كانت (خر 20:4؛ إش 44:10). منع العهد القديم بعض أنواع الصور، ولكنه قبل بتمثّل المواضيع الهندسيّة والنباتيّة والحيوانيّة : الورد، النخيل، الأسُود، الكروبيم في هيكل سليمان (1مل 6 :29، 32، 35، 36). وعرف العبرانيون تمثّل البشر والكائنات الالهية. رأى كل هذا حزقيال في الهيكل، 8 :10؛ 41 :17-20)، كما عرفوا تمثلات عبّاد الأوثان.
في العالم القديم، ومنذ العهد النيوليتي (العصر الحجري الحديث)، ارتبطت الصورة ارتباطًا وثيقًا بالواقع. فمن كانت الصورة في يده سيطر على صاحب الصورة. وعلاقة الانسان بالصورة تعبّر عن علاقته بالغرض الذي تمثّله هذه الصورة، من رضى أو من صراع. والقبلة التي تُعطى "للعجل" تتوجّه إلى بعل (1مل 19 :18؛ ق هو 13 :2). والظاهرة عينها طبعت بطابعها علاقة المؤمن بصورة الله (ليست في صنم) من خلال الصوت والكتابة (كلمة الله)، بالاسم الالهي : فإن مُنع المؤمن من التلفّظ بالاسم، وإن بحث عن وسائل تجنّبه قراءة الاسم في النص ( يهوه)، فلأن الانسان لا يستطيع أن "يتصرّف" بالله (كما بصنم). وهو يفعل إن هو تصرّف بهذه الصورة التي هي اسمه. أما نتكلّم عن سكنى الاسم فنكون كمن يتكلّم عن سكنى فندلّ على الله (تث 12:5، 11، 21)؟
عاش الانسان البيبليّ في عالم وعى الرباط بين الصورة والواقع، فلاحظ علاقة أخرى هي علاقة الصورة مع صاحبها. توقّف هوشع عند فعلة العبادة الخارجيّة التي يوجّهها المؤمن إلى الصنم "صنعة يديه" (هو 13 :2؛ 14 :4). ووعى أشعيا الاطمئنانات الكاذبة التي فيها يجعل الانسان ثقته (إش 39)، فكان أول من رأى في عبادة الأصنام محاولة الانسان الذي يتأمّل في نفسه ويعبد ذاته في عمله، في الصنم "صنع يديه" (إش 2:8؛ 17 :8). إن التباس الصورة العباديّة يشرح هذا الحذر الحاضر دوماً في الفكر اليهوديّ والمسيحي تجاه كل ما هو عمل بشريّ في شعائر العبادة. فتجاه كل ما يُعدّ ليكون علامة عن اللاهوت، هناك خطر دائم بأن ننظر إليه لا على أنه صورة الله، بل على أنه انعكاس للانسان صانعه المباشر ((تث 4:28؛ تث 27:15؛ 31 :29؛ 1مل 16 :7؛ 2مل 19 :18؛ 22 :17؛ مي 5 :12؛ إش 37:19؛ (ار 11:6؛ ار 25:6-7؛ 32 :30؛ 44 :8).
2) صورة الإله. حين أرادت التوراة أن تدلّ على التمثّلات الأصناميّة، لجأت إلى ألفاظ فيها كثير من الاحتقار : ا ل ي ل ي م، عدم (إش 2:8، 10-20)، ش ق و ص، رجس (إر 7:30؛ 16 :18)، ج ل و ل ي م، أشياء ملتوية، (أصنام) (1مل 15 :12؛ حز 6:4). والمعابد الكنعانيّة، أي المشارف (ب ا م و ت) لم يكن فيها في الأصل صور عن الاله، بل "أنصاب"، حجارة منتصبة ( حجر، نصب)، ترمز إلى الاله الذكر، ثم أوتاد خشبية (ا ش ي رهـ) ترمز إلى الالاهة المرأة (رج أشيرة). فالصور الالهيّة المكتَشفة في خرائب أماكن العبادة القديمة هي نادرة، مع أن التماثيل الصغيرة كثيرة. قد يكون المحتلّون حملوا هذه الصور كأسلوب حرب، بعد أن أخذوا المدينة، أو يكون السكّان حملوا معهم رموزهم الثمينة، وهم هاربون. نلاحظ مثلاً أن راحيل حملت ترافيم (وهي أغراض صغيرة، هي في الواقع أصنام أبيها) سمّاها لابان "آلهته" (تك 31 :19، 30-37). كما نلاحظ أن قبيلة دان حملت معها صورة صنعها ميخا فاتِّهموا بأنهم "سرقوا له إلهه" (قض 18 :20-24 رج تك 35 :2-4؛ خر 32:1، 4). ولكننا نلاحظ بعض الاكتشافات اللافتة للنظر : تمثال عشتارت في بيت شان (1صم 31:10)، أنصاب مكرّسة إلى ميكال وإلى الالاهة عنات. نصُب يمثل عشتارت والملك موآب والاله كموش. وعُرفت صوَر بعض الآلهة في التوراة (1مل 15 :13؛ 2مل 21؛ حز 21:7) أو في التنقيبات : تمثّل للالاهة الحيّة في تل بيت مرسيم، جدرانيّة في عسقلان تعود إلى الحقبة الرومانيّة، عدد من الصُفيحات والتماثيل الصغيرة المصنوعة بالطين من أجل العبادات البيتيّة، أنصاب نذوريّة للالاهة السورية قادش. غير أننا لم نجد صورة واحدة، في تنقيبات فلسطين، تدلّ على يهوه.
كانوا يقدّمون للصور الالهيّة المحرقات (هو 4 :13) والسكب (إر 7:18). كانوا يقدّمون لها الحنطة والزيت والكعك وكل أنواع الأطعمة (إر 7:18). وكانوا يقيمون الولائم إكرامًا لها (إش 65:11؛ با 6:26). كانوا يدلّلون الصنم ويقبّلونه (هو 13 :2؛ 1مل 19 :18)، ويمدّون إليه أيديهم (مز 44:21). كانوا يحملونه في تطواف (إش 46:7؛ إر 10:15)، يركعون أمامهم ويسجدون (1مل 19 :8). كانوا يرقصون ويُطلقون الصراخ ويهشّمون نفوسهم حول مذبح الاله (1مل 18 :26-27). وترافقت عبادةُ الأصنام مع البغاء المكرّس (هو 4 :14، 18؛ تث 23:18-19).
3) منع الصور. إن فريضة الدكالوغ التي تحرّم صنع الصور (خر 20:4) وصور عبادة الأوثان (تث 27:18) تُوضع في موازاة فريضة أخرى تمنع المخطئ من استعمال اسم الله كذبًا (خر 20:7) فتبدو إحدى ميزات الفكر الدينيّ في العالم اليهودي. ويمدّ هذا المنع نتائجه حتى في المسيحية مع محطّمي الايقونات، وفي الاسلام.
أولاً : العهد القديم. إن منع الصور هو منع عام. فيعارض خر 20:4؛ تث 4:17-18 صنعَ أنواع الصور الالهيّة وغيرها. في الواقع، فسّر اسرائيل هذا المنع بالنظر إلى خطر عبادة الاوثان. فالصور المرسومة في المعبد مثل ثورَي بحر البرونز أو الحوض النحاسي (1مل 7 :23-25)، لم يُشجب يومًا. أما "العجل" فرُذل. بعد أن كان موطئ قدمَيّ يهوه أو عرشه غير المنظور، كما اعتبره يربعام (1مل 12 :28-33)، صار يمثّل الاله "الذي أخرج اسرائيل من مصر" (رج هو 8 :5؛ 13 :2).
إن أصل هذا المنع قديم جدًا. لا شكّ في أن ميخا صنع صورة سرقها الدانيون، فمثّلت يهوه. فميخا (معنى اسمه : من كيهوه؟ من هو شبيه بيهوه؟) كان عابدًا ليهوه، ولا شيء يدلّ على أن هذه الممارسة كانت محرّمة، أو كانت تُعتبر شرًا (قض 17 :4-13؛ 18 :24-30). هذا الترتيب الحاضر في الوصايا العشر الذي نظّم منذ البدء شعائر العبادة كما يُحتفل بها في البرية، قد حملته عشائر عرفت الخروج من مصر. والخيار المقدّم للقبائل الأخيّات (يش 24 :23) هو إيمان مستقيم بيهوه، إيمان متطلّب يستبعد كل موقف ملتبس.
هذه الشريعة التي حملتها قبائل البرية، عكست حياة نسكيّة يفرضها الاطار الحياتي. ولكننا نستطيع أن نرى شرحًا آخر. إن الديانة المصريّة كانت، بعدد كبير من الآلهة الممثَّلة بشكل حيوانات، تحفظ المؤمن في حالة من الخوف يسّهل احترام النظام السياسيّ والديني في البلاد. نستطيع أن نقول عن مصر إنه بإسقاط الصورة الالهيّة، استُعبدت الجماعة لما خلقته لكي تؤسّس أصلها الالهي وتؤمّن ديمومتها. ووجود العبرانيين في مصر يرتبط باجتياح الهكسوس، هؤلاء الملوك الرعاة الذين يدلّ الحيوان (رفيق الانسان اليومي) عندهم على الحياة، لا على مخاطر الموت. وبرزت هنا وجهة جديدة من الصراع بين مجتمع البدو والرعاة ومجتمع الريف والمدينة. كل هذا لعب دورًا كبيرًا لعبادة الأوثان، برفض صور إلهيّة تتعارض تعارضًا عميقًا مع معنى الأشياء كما هو الأمر عند العبرانيين. لقد رفض اسرائيل تمثّلات تدعوه لأن "يفسر" يهوه انطلاقًا من نظرات غريبة (وبشكل خاص مصريّة).
وهذه النظرة الخاصة إلى الله تنبع من معطيات مختلفة. جمع الدكالوغ رفض الصور مع الاعتراف بوحدانيّة الله. وبالتالي مع الاتجاه المشرك الذي ظلّ يعيش في اسرائيل. قد مال هذا الاتجاه إلى أن يتجسّد في تمثّلات قوّات سماوية وأرضية وأسافلية. وخطر عبادة الأوثان الذي تحمله هذه الصور، جعل اسرائيل يعارض الاله "الغيور"، الذي يدين ودينونته فاعلة. وأخيرًا، إن الإشارة إلى الخروج من مصر تُذكّر بالعلاقات المميّزة بين الله وشعبه. هذه العلاقات تستبعد أي عبادة أخرى سوى عبادة يهوه. ومع موضوع عبادة الأصنام هناك التباس الصورة. فمن رأى صورة الله، بل صنعها، اعتبر أن له سلطة على الله. بما أن للرب حقوقًا على شعبه لا يقاسمه فيها أحد، فمن صنع صورة يهوه اعتبر أن له حقوقًا على الله، وهذا غير مقبول بتاتًا.
هاجم الكتّاب اللانسبة التي تفصل الله عن الصورة التي يصنعها عنه صانع وجبينه يتصبّب عرقًا. يصنعها من خشب لا قيمة له، فيعمل حركات عاديّة يعملها حين يصنع أغراضًا من أجل اهتماماته العاديّة (إش 44:9-20). وهذه اللانسبة بين ما هو الله وما نستطيع أن نرى منه، قاد كتّابًا آخرين (لا على مستوى الرؤية، بل على مستوى الكلمة) إلى تحديد اللقاء الوحيد الممكن بين الله والانسان (تث 4:5-18؛ 5 :24). وراح تيّار لاهوتي آخر إلى أقصى حدوده فأكّد أنه إن حصل لإنسان أن "يرى" الله، فيُسحق برؤيته ويموت (تك 32 :31؛ خر 19:21؛ لا 16 :2؛ عد 4:20؛ قض 6 :22-23؛ 13 :22-23).
والتلاعب على الكلمات في إش 40:18 (بمن تشبّهون الله، وأي شبه تعادلونه به) يدعونا للانتقال من الصورة المنحوتة إلى التشبيه الأدبي، كصدى لاستبعاد صور الله، ورفض أي تشبيه مع الله، لأن لا شيء يشبه الله (مز 40:6؛ 89 :7، 9؛ إش 14:14؛ 40 :18، 25). إن المتطلّبات المتعلّقة بمنع الصور، قد خرجت من أقدم أزمنة التاريخ، فصارت دقيقة جدًا بعد المنفى. فمنع اليهود كل صورة عن يهوه أو عن أيّ كائن حيّ. وعارضوا بالقوّة كل من حاول أو أراد أن يُدخلها إلى أورشليم (يوسيفوس، العاديات 18 :55-59). ولكن هذا الرفض لم يكن عامًا، وهذا ما تشهد عليه الرسوم والفسيفساء في مجامع بيت الفا، جرش، نعره، دورا اوروبوس، وصور بشريّة وحيوانيّة زيّنت مدافن اليهود في رومة. في القرن 2 ب.م.، منع الرابينيون أيضًا الصور (مكلتا خر 20 :4). وفي القرن 4 ب.م. سُمح بها كزينة لا كموضوع عبادة (تر يون المزعوم لا 26 :1).
ثانيًا : العهد الجديد. إن كتابات العهد الجديد لا تحرّم سوى عبادة الأصنام الوثنيّة (2تس 1:9؛ 1كو(ر 5:10؛ ر 10:14؛ أف 5 :5؛ 1يو 5 :21). وكانت الدياميس القديمة مزيّنة بمواضيع مأخوذة من الفن الوثني الدنيويّ.
4) صورة الله. ^ أولاً : العهد القديم. الله لا منظور. لا يستطيع الانسان أن يراه دون أن يموت، كما يقول البعض. ويرى آخرون أنه منظور بشكل من الأشكال. هو يُرى في شعائر العبادة ((مز 17:15؛ مز 48:9؛ 63 :3؛ إش 1:12). هنا نتطلّع إلى الكاتب اليهوهيّ الذي حاول أن يشرح الجذر "رأى" بعودة إلى أسماء المعابد (تك 12 :6-7؛ 16 :13-14؛ 18 :1؛ 22 :14). وحسب الكاتب الكهنوتي، الذي رفض أن يرى في الأصنام تمثّلاً مناسبًا لله، هناك صورة واحدة لله، هي الانسان. قال الخالق : "لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا" (تك 1 :26). الفكرة التي عبّر عنها هنا والتي لا تعود إليها التوراة سوى مرّة واحدة (سي 17:2-9)، ترتبط بالانتروبولوجيا المحيطة بشعب اسرائيل. فالشبه بين الله والانسان لا يأتي من تشابه طبيعيّ أو فائق الطبيعة، ولا من طبيعة الانسان "الروحيّة"، ولا من شكله الفيزيائي، بل تشابه بين الله والانسان بكلّيته. تميّز الانسانُ عن الخلائق، فارتدى كرامة فريدة. وكُلّف بالسيادة على سائر الخلائق كلها التي خلقها الله : "يتسلّط على كل شيء". إن سي 17 :2-9 يقرّب بين كرامة الانسان ورسالته في الكون. وعرف مز 8 هذه الرسالة، ولكنه قرّبها من "قليلاً" ( آ6-9). إن لهذه الخليقة البشريّة أهميّة خاصّة في نظر الله. وهذا "الشبه" يفترض كرامة يحامي عنها الله ويطلب من الانسان أن يدافع عنها (تك 9 :6؛ ق (أم 17:5؛ أم 22:2؛ أي 31 :15؛ مت 25:45).
ثانيًا : العهد الجديد. الصورة (في اليونانية : ايكون - رج ايقونة) تجعل الشخص (أو الغرض) منظورًا وحاضرًا. حسب حك 2 :23، الانسان هو "ايقونة" (صورة) الله. وهذا موضوع يستعيده بولس في 1كور 11 :7، ويع 3 :9. هذا ما يؤسِّس كرامة يجب أن تحترم. فحبُّ الله اللا منظور لا يمكنه أن يمرّ إلاّ عبر صورته المنظورة (1يو 4 :20). ولكن إن كان الانسان صورة عن الله، فالمسيح هو الايقونة الكاملة. كانت قد قُدِّمت الحكمة على أنها الصورة التي أرادها الله (حك 7 :26). "من الأزل صنعني، من البدء، من قبل أن كانت الأرض" (أم 8:23)، فأضحت الصورة التي أرادها الله حين خلق الانسان. وأخذ بولس بهذه الفكرة : المسيح هو صورة الله. "في شكل الله " (فل 2 :6). وعلى ضوء الحكمة رأى بولس في يسوع "صورة الله " (2كو(ر 3:18؛ ر 4:4؛ كو 1 :15). أما في رو 8 :29، فالمسيح صورة الله بسبب لقبه البنويّ. وحسب كو 3 :10، هو يُشرف (كصورة) على خلق الانسان الجديد. ظهر آدم كالأول : هو صورة غير كاملة لأنها أرضيّة ومائتة. وجاء المسيح بعده من السماء. هو صورة كاملة لأنه لا يعرف الفساد. ونحن لبسنا صورة الانسان الأرضي، فعلينا أن نلبس صورة السماويّ (1كور 15 :49). وكان تيار فكر اسكندراني رأى في اللوغوس صورة الله الحقيقيّة. استلهم الانجيل الرابع هذا التيّار وقدّم الابن كالموحي الوحيد لله غير المنظور (يو 1 :18). اتّحد هذا الابن اتحادًا حميمًا بالله (يو 5 :19؛ 7 :16)، بحيث ظهر عليه "انعكاس مجد الآب" (17 :5، 24؛ عب 1:3). وهكذا حين نرى يسوع نرى الآب بالذات (يو 14 :9).
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|