إن خبر الطوفان في تك 6-9 يمزج خبرين متوازيين يعودان إلى اليهوهي و الكهنوتي.
1) الخبر اليهوهي. يبدأ اليهوهي تشابيهه مع مقدّمة (6 :5-8) تُجمل في الوقت عينه كل التاريخ السابق (2 :4ب؛ 4 :26؛ 6 :1-4) وتقدّم سبب الطوفان : الخطيئة دفعت الله ليندم لأنه خلق الانسان. وحده نوح البار (الصالح) (7 :1) نال رضى الله (6 :8). لم يعد يُذكر بناء السفينة، كما في التقليد الكهنوتي (6 :14-16)، بل يُشار إلى بناء سفينة على الأرض كنداء إلى الإيمان (عب 11:7) لأن يهوه لا يكشف مخطّطه لنوح إلاّ بعد دخول السفينة (الفُلك) (7 :4). قبل الطوفان بسبعة أيام، أمر الرب نوحًا بأن يدخل إلى السفينة هو وعائلته وكل الحيوان الضروريّ للحياة والذبيحة بعد الطوفان (زوج من الحيوان النجس، سبعة أزواج من الحيوان الطاهر ). دخل نوح إلى السفينة، وبعد سبعة أيام بدأ الطوفان (7 :10) فكان السبب في مطر (ج ش م) دام اربعين يومًا (7 :12). عندئذ أغلق يهوه باب السفينة (7 :16) التي حملتها المياه (7 :17 ب) فنجّت نوحًا من الطوفان الذي دمَّر "كلّ ما أنفه نسمة حياة" (7 :22-23). ثم توقّف المطر وتراجع الماء (8 :2ب 3أ). أرسل نوح طيورًا فتأكّد أن الأرض يمكن أن تُسكن (8 :6-12). فخرج من السفينة وقدّم ذبيحةً رضيَ الله عنها (8 :20-21). فوعد الله بأن لا يلعن الأرض من بعد بسبب الانسان، لأن نواياه شرّيرة منذ طفولته (8 :21). هذا لا يعني أن الله تنازل عن قداسته، بل أنه الحنون والصبور الذي يدلّ على رحمته حين يحافظ على النظام الطبيعي.
2) الخبر الكهنوتي. هذا الخبر يلي أنساب (ت و ل د و ت، مواليد) آدم (تك 5)، ويبدو كأنه "تولدوت" أي خبر نوح (6 :9)، الرجل البار (الصالح) والكامل بين معاصريه الذين أفسدوا الخليقة وأدخلوا إليها العنف (6 :9-12. هي المرة الأول يتحدّث الكهنوتي عن الخطيئة). فأعلن الله قراره بأنه سيمحو الأرض التي أفسدتها الخطيئة، ويأمر نوحًا بأن يبني سفينة بحسب تصميم يحدّده له (6 :13-16) ويقول له ماذا يضع في السفينة (6 :19-21)، وما هو السبب في بنائها (6 :17-18). ففعل نوح كما قيل له (6 :22). حينئذ جاء الطوفان (7 :11) الذي هو عودة إلى الشواش الأولاني (تك 1:2-7). وبما أن الكهنوتي يهتمّ بالكرنولوجيا (تحديد الأزمنة)، فقد حدَّد الأزمنة (7 :6-11، 24؛ 8 :2أ، 3ب،4-5، 13، 14) ومدى الكارثة (7 :17أَ-21). دخل نوح إلى السفينة في يوم الكارثة بالذات (7 :13)، فبدا وكأنه ضاع. ولكن "الله تذكّر نوحًا" (8 :1)، وهذا "التذكّر" هو نقطة انطلاق الخلاص. أوقف الله الطوفان (8 :1-2أ) وبدأت المياه تتراجع (8 :3ب). بعد بداية الطوفان بستة أشهر استقرت (ن و ح، ارتاحت) السفينة على جبل أراراط (8 :4). ولكن الأرض تحتاج أيضاً ستة شهور أخرى لتصبح ناشفة (8 :5، 13أ، 14). عند ذاك أمر الله نوحًا بأن يخرج من السفينة (8 :14-19) مدشِّنا حقبة جديدة يُشرف عليها نظامٌ جديد لعهد يقطعه الله مع نوح (9 :1-17). وبارك الله الانسان من جديد وثبّته في مهمّته بأن يسود على الخليقة (9 :1-7؛ رج 1:28)، مع حقّ الحياة والموت على الخلائق (هذا ما لم يكن له في البدء) الحيّة التي تكون له طعامًا، شأنها شأن عشب الحقل (9 :2-3؛ رج 1:28-29). ولكن الدم ظلّ محرّمًا (9 :4). وحياة الانسان لا تُمسّ، لأن الانسان خُلق على صورة الله (9 :5-6؛ رج 1:26-27). وعلى هذا العالم الجديد دوّت كلمة النعمة والحنان : "لن يكون طوفان آخر لخراب الأرض" (9 :11). وكان عهدٌ علامته قوس قزح (9 :12-17).
3) المراجع المتوازية. إن هذه الاخبار البيبليّة تجد ما يوازيها في العالم الرافديني : نصوص سومريّة وأكاديّة وأشوريّة تدلّ على تقليد تحدّث عن "الطوفان" خلال ألفي سنة، حتى النسخة اليونانية التي دوّنها بيروسيوس (القرن 3 ق.م.). لسومر خبرها غير الكامل، الذي يعود إلى سنة 2000، ونوحها يُسمَّى "زيوسدرا". وروَت بابلُ الطوفان في حكاية اتراحاسيس (الذكيّ جدًا) التي تعود إلى القرن 17، والتي الهمت خبر أوتونفستيم في اللويحة 11 (احتفظت به كله النسخة الاشوريّة) من ملحمة جلجامش. حسب هذه الأخبار، قرّرت الآلهة أن تدمّر البشريّة (صارت عديدة فأزعجت إنليل في رقاده، حسب اتراحاسيس) بطوفان. ولكن أحد الآلهة نبّه البطل سرًا وأوصاه بأن يبني سفينة(يقال كيف تُبنى وماذا يوضع فيها). طوفان طويل، يشمل الكون ويدمّر كل حياة، فيجعل الآلهة يتأسّفون أمام الكارثة الهالكة التي حرمتهم من الطعام (والشراب) الذي يقدّمه لهم البشر. وحين غابت الماء، حطّت سفينة أوتنفستيم على جبل نيزير وأرسلت الطيور تستكشف الأرض. خرج البطل من السفينة وقدّم ذبيحة للآلهة الجائعة، فاجتمعت حول الذابح كالذباب بعد أن شمّت الرائحة الطيّبة.
التشابهات بين هذه النصوص والأخبار البيبليّة واضحة. هذا يعني أن التوراة استلهمت النصوص الرافدينيّة التي انتشرت في الشرق الأوسط (أجزاء من اتراحاسيس في أوغاريت، ومن جلجامش في مجدو) فعرفها بنو اسرائيل في الألف الأول. هذه الملاحظة مهمّة لكي نتعرَّف إلى الفن الأدبيّ للاخبار البيبليّة، وهكذا لا نبحث فيها عن تاريخ لا نجده فيها. لا شكّ في أن هذه الحكايات احتفظت بتذكّر بعيد لفيضان (أو فيضانات) دمّر هذه المدينة أو تلك في بلاد الرافدين (هذا ما دلّت عليه التنقيبات في أور أو كيش). ونفهم أن تكون مثل هذه الكوارث التي ضخمّتها المخيّلة الشعبيّة قد ولّدت حكاية طوفان مسكونيّ تشهد له الاخبار الرافدينيّة والبيبليّة. لهذا، يكون من العبث أن نحاول بناء حدث الطوفان كما يرد في التوراة.
4) لاهوت الطوفان ما هو التعليم الديني الذي توخّى الكاتب الملهم أن يقدّمه لنا في هذه الأخبار التي أخذ بها وكيّفها على ضوء إيمانه بالله؟ سبب الطوفان ليس موقفًا اعتباطيًا من الآلهة، بل خطيئة الانسان. فالله يعاقب البشريّة الخاطئة ويخلّص نوحًا البار. هذه هو التعليم الاساسي (مع اختلافات بسيطة) الذي نجده في المرجعين اليهوهي والكهنوتي. فهما يدلاّن على يهوه وهو إله لا يرضى بالخطيئة فيدمّر العالم الخاطئ. ومع ذلك، فهو لا يتخلّى عن إرادته بأن يخلّص : خلّص نوحًا البار وبه الخليقةَ كلها مع وعد بالرحمة : "لن يكون طوفان من بعد" (9 :11؛ إش 54:9-10؛ سي 44:17-18). هذه العبارة هي ذروة تعليم خبر الطوفان وجواب الرجاء على سؤال يطرحه تاريخ مطبوع بالخطيئة. وثبات النظام الطبيعيّ عند اليهوهي (11 :22) وقوس قزح عند الكهنوتي (9 :8-17) هما علامة صبر الله وأناته (رو 3:25-26) ودلالة على انه يريد أن يخلّص الخليقة رغم الخطيئة. لم يذكر العهد الجديد الطوفان إلاّ نادرًا. فكما في العهد القديم، يبدو الطوفان دينونة للعالم الخاطئ (2بط 2:5). جاء فجأة كما سيأتي يوم ابن الانسان (مت 24:37-38؛ لو 17:25-27). وتفرّدت 1بط 3:20-21 فجدّدت في النظرة إلى الطوفان : جعلت من مياه الطوفان نموذج مياه
المعموديّة وبالتالي الدينونة. فنموذج "العماد الذي يخلّص الآن" ليس مياه الطوفان، بل العبور عبر الماء بفضل السفينة التي تحملها المياه (1بط 3:20؛ رج تك 7 :17).
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|