لا نجد في اللغة العبريّة لفظة تقابل مدلول "العالم" ( كوسمولوجيا). إنّ كوسموس كما في اللغة اليونانيّة، الذي يدلّ في الأصل على كلّ ما يبدو مرتّبًا ترتيبًا مزيَّنًا ومشغولاً، سوف يدلّ على المسكونة كشيء مرتّب ومتناسق، ومنغلق على ذاته، ومرتبط ببُعد علويّ (العالم جزء من الله ). حين تترجم السبعينيّة "ص ب هـ " (صباؤوت) بلفظة "كوسموس" (تك 2 :1؛ (تث 4:19؛ تث 17:3؛ إش 40:26)، يسيطر المعنى الأول للفظة اليونانيّة. أمّا في الأسفار القانونيّة الثانية التي ألِّفت في اليونانيّة، فلفظة كوسموس ترتدي مدلولاً متفرّعًا : الكون كلّه كما خلقه الله ويدبّره (2مك 7 :9، 23؛ 12 :15؛ 13 :14)، وكما نفهم بنيته وعناصره (حك 7 :17). تأثّر سفر الحكمة بالفكر الهلنستي (الافلاطوني) والكتابات الغنوصيّة، فجاء "كوسموس" عنده يقابل مدلولات متخصّصة وحقيريّة : هذا العالم حيث ندخل إلى الحياة (7 :6). والعالم هو البشريّة (6 :24؛ 10 :1؛ 14 :6) ابنة آدم مع موكب المجد الباطل والحقارات (14 :14). هذه البشرية التي يفسدها الموت (2 :24). نحن هنا في محطة أولى تقلّل من قيمة الكون.
وهذا ما نجده في العهد الجديد. ترد لفظة كوسموس 188 مرة في العهد الجديد، منها 104 مرات في الكتابات اليوحناوية، و64 في الرسائل البولسيّة. تدلّ اللفظة أولاً على الكون، على المسكونة، على مجمل الكون كما خلقه (مر 14:9؛ مت 25:34؛ يو 17 :24؛ أف 1 :4؛ رو 1 :20؛ 1بط 1:20؛ رؤ 13:8) الله في البدء (أع 17:24، 31) بواسطة الكلمة (يو 1 :3). كوسموس هو "السماء والأرض" كما في العهد القديم (أع 4:24؛ رؤ 10:6)، وكما في مت 5:18؛ لو 10 :21... يقابل هذه اللفظة "كتيسيس" (الخلق كما في مر 10:6؛ رو 1 :25؛ 2بط 3:4)، "كل شيء" (1كور 8 6؛ أف 1 10؛ كو 1 16-17). كوسموس هو أيضًا دائرة النشاط البشريّ. رج حك 7 :6 حيث كوسموس يقابل عالم الأحياء، يقابل المسكونة أي الأرض والبشرية التي تقيم عليها (رو 1 :18؛ مت 26:13؛ 1كور 4 :9) في عدة ممالك (مت 4:8). هو الكون حيث يُولد الانسان (يو 16 :21) ويقيم (يو 17 :11) ويتألّم (2كور 7 :10) ويجمع المال (مت 16 :26 وز) ويقوم بالأعمال (1كور 7:33-34) بكل قوى نفسه (1يو 2:15-17).
ما قيمة العالم (كوسموس) ومعناه ومصيره؟ هناك التباس أساسيّ. خرج العالم في الأصل من فعل الخلق، فبدا في جوهره صالحًا ودلّ على قدرة الله (أع 14:17؛ رو 1:19-20). ولكن هذا الكون الأرضي سكنه الانسان، فصار في الواقع في يد الشرّ (1يو 5 :19)، لأن الخطيئة والموت شوّهاه منذ بداية التاريخ (رو 5 :12). الشيطان هو سلطان العالم (يو 12 :31؛ 14 :30؛ 16 :11)، "إله" هذا الدهر (2كور 4 :4). وهو يمنح قوّته ومجده بما فيهما من شرّ، إلى تبّاعه، إلى أعداء الله والمسيح (لو 4 :6؛ يو 3 :18-19؛ 7 :7). هذا العالم الكاذب الذي تحكمه أرواح الشرّ والظلمة (أف 6 :12) يستعبد الانسان (غل 4 :3، 9) ويمنعه من أن يتذوّق عطايا الله (1كور 2 :12). سلامه وهمٌ وسراب (يو 14 :27) ومرض قاتل (2كور 7 :10).
ما هي علاقة المسيح بالعالم؟ جاء يسوع إلى العالم. دخل فيه. ولكن العالم أبغضه (يو 15 :18)، رذله (يو 1 :10). وحسب مخطّط حبّ الله الذي ما زال يحبّ العالم الساقط (يو 3 :16)، فالابن الوحيد الذي ليس حقًا من هذا العالم (يو 8 :23؛ 18 :36)، الذي لم يُستعبد لسيّد هذا العالم (لو 4 :5-8؛ يو 14 :13)، هذا الابن جاء يخلّص العالم (يو 12 :47) ويحمل إليه الحياة (يو 6 :33)، ويكون له النور (يو 9 :5). وعلى الصليب، حرّك الفشلُ الظاهر لهذه المهمّة الفدائيّة، إذلال الشيطان (يو 12 :31) وانتصار المسيح (يو 16 :33) على الخطيئة (يو 1 :29). وحين ترك يسوع هذا العالم (يو 16 :28) ليعود إلى أبيه ويملك بالمجد، هيّأ الخلق الجديد للعالم الآتي الذي يجعلنا ننسى بشكل نهائيّ العالم القديم (رؤ 21:4-5). وبانتظار هذا التجديد الذي هو مؤكّد منذ الآن (ولا سيّما في المجيء)، سيظل العالم يتألّم (رو 8:19-20) مع الرجاء بفجر جديد.
وماذا نقول عن علاقة المسيحيّ بالعالم ؟ على المسيحيّ أن يتشبّه بالمسيح، فيكون في العالم وخارج العالم. يتجرّد بعزم عن العالم في كل ما فيه من نجاسة (يع 1 :27) وشرّ (يع 4 :4) وأهواء (1يو 2 :16)، دون أن يقرّر أن يتخلّص من ماديتّه المرتبط بها. ولكن عليه أن يستفيد من العالم دون أن يتنعّم به حقًا (1كور 7:29-31)، فيستعمل خيراته العابرة ليفعل ما يرضي الله (1يو 3 :17). وذلك حسب ما نقرأ في غل 6 :14 : صُلب المسيحي للعالم والعالم صُلب له. ولكن إلى هذا العالم الذي تغذّيه الخطيئة وتجاهلُ الله، يُرسَل المسيحيون (يو 17 :18) كشهود المسيح والانجيل (1يو 4 :17). هم مرسلو الكرازة في العالم كله (مر 14:9). وسيكونون، شأنهم شأن يسوع، عرضة لعداء العالم ويُضطهدون (1يو 3 :13؛ مت 10:4؛ يو 15 :18). وقوّتُهم التي هي عربون انتصارهم الاخير، ستكون في البارقليط والايمان اللذين يحكمان على العالم ويجعلانه في الخزي. وهذا التعارض بين المسيحيّين والعالم سيبقى حتى نهاية العالم، حتى اليوم الذي فيه يدين الله العالم (مت 13:38-39؛ رو 3 :6)، ثم يعيد ولادته من جديد (رؤ 21). عندئذ تصبح مملكة هذا العالم مملكة المسيح إلى دهر الدهور (رؤ 11:15).
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|