أولاً : المضمون. يقسم إشعيا قسمين : 1-35 ثمّ 40-66. ويفصل القسمين أخبار عن حزقيا (ف 36-39).
(أ) يتألّف القسم الأوّل من عدد من النبوءات تشكّل مجموعات مختلفة. ف 1 هو مقدّمة. ف 2-5 تقدّم نبوءة مملوءة بالتهديد لصهيون يقطعها نشيد عن مجد المدينة العتيد (2 :2-5) ونشيد الكرمة (5 :1-7). ويبدأ قسم السيرة برؤية الدعوة (6 :1-9 :7). هناك مقاطع دوّنت في صيغة المتكلّم (6 :1-13؛ 8 :1-4)، وأخرى في صيغة الغائب (7 :1-16؛ رج 20:1-6). أمّا نواة هذا القسم فهي نبوءة عمانوئيل. إنّ الشكوى ضدّ مملكة الشمال وأشورية (9 :7-10 :34) ترتبط بهذه النبوءة، بزمنها ومضمونها. أمّا وعدُ المسيح الداودي الذي يعلن رجوع الشعب (ف 11-12) فيشكّل الخاتمة. بعد هذا تأتي مجموعة أقوال تسمّى في العبريّة "مسّا" : تهديدات ضدّ بابل (13 :1-14 :23)، ضدّ الأمم القريبة والبعيدة (14 :28-17 :14)، ضدّ أورشليم وصور وصيدا (ف 23). وتشكّل الفصول الأربعة الآتية رؤيا إشعيا (ف 24-27). وينتهي هذا القسم بمجموعة نبوءات (ويل) ضدّ يهوذا وأورشليم (ف 28-31) وتصوير للخلاص الأخير (ف 32-35).
(ب) بعد مقدّمة قصيرة (40 :1-8) تأتي سلسلة أناشيد عن خلاص إسرائيل من بابل (40 :9-48 :22). والظهور (تيوفانيا) (40 :9-13) يجعل الله في المقدّمة : هو يشفق على إسرائيل ويعطيه مخلّصًا في شخص كورش (ف 41-45). لهذا حكم على آلهة بابل بالموت (ف 47-48). وتُنشَد العودةُ في أناشيد خلاص أورشليم (ف 49-55) تقطعها أناشيد عبد الربّ (عبد يهوه). إنّ ف 55-66 لا تتكلّم عن بابل. ترتبط التعزية بالأمانة للممارسات (السبت، الذبائح، الصوم)، فإذا تأخّر الخلاص فلأن إسرائيل أخطأ (ف 56-59). ثمّ يصوّر الكاتب أورشليم الجديدة (ف 60-62). ويلي عقاب أدوم (63 :1-6) صلاة حارّة (63 :7-64 :12)، وبعد قول إلهيّ تأتي خاتمة جليانيّة فتصوّر عقاب الأعداء وخلاص الأبرار (ف 65-66).
ثانيًا : التأليف
(أ) لا يبدو القسم الأوّل (ف 1-39) من إشعيا واحدًا بل مجموعة من أقوال نبويّة وأخبار. بعض الشرّاح يحاولون أن يجدوا فيه رسمة حزقيال وإرميا (حسب السبعينيّة) : ف 1-12 : إعلان عقاب إسرائيل. ف 13-23 : عقاب الشعوب الغريبة. ف 24-25 : إعلان الخلاص. ويرى آخرون مجموعات ضُمَّت بعضها إلى بعضها وزيدت عليها مواد عديدة. وفئة ثالثة تقول بوحدة الكتاب، ولكن بدّلت بعض المقاطع. ومع كلّ هذا يبدو القسم الأوّل من إش واحدًا بسبب المناخ الشعريّ الذي يسود كلّ المقاطع مهما تفرّقت.
(ب) وللأسباب الشعريّة نفسها تحدّث الشرّاح عن وحدة القسم الثاني (ف 40-66). بعضهم يفصل 40-55 عن 56-66 وبعضهم الآخر يرفض هذا الفصل بسبب وحدة الأسلوب والأفكار. وقال شرّاح : يتألّف 40-55 من مجموعة أقوال وأناشيد (50 تقريبًا) نظّمها النبيّ أو تلاميذه حسب الزمن والمضمون أو حسب بعض الكلمات الهامّة. وتساءل الشرّاح عن أناشيد عبد الربّ : هل أقحمت في الكتاب أم هي من تأليف الكاتب عينه؟ كل هذه أسئلة ما زال الشرّاح يطرحونها ويجادلون فيها ولا يجدون لها جوابًا يقنع الجميع. أما نحن فنقول إننا أمام كلمة الله سواء كتبها إشعيا أو تلاميذه، سواء أكانت الأقوال متفرّقة ثمّ جمعت أو انطلقت من وحدة زيدت عليها أمور عديدة.
ثالثًا : الأهميّة اللاهوتيّة
(أ) إن رؤية الهيكل ملأت إشعيا من عظمة الله وقداسته. لهذا فضّل أن يستعمل لله اسم "قدوس اسرائيل". فقدرة الله تمتدّ إلىالكون كلّه، وتصل حتى إلى أعدائه. إنّه يحكم كلّ شيء حسب مخطّط موضوع مركزه اسرائيل وأدواته الأعداء. إن يهوه يحمل لقب الملك (6 :5)، وفي يوم من الأيام (يوم الرب) سيعترف الجميع بسلطانه. فعلى الإنسان أن يستسلم إلى الله بإيمان واثق. ومستقبل إسرائيل يتعلّق بهذا الإيمان (7 :9؛ 18 :16؛ 30 :15). فالثقة بقوى الأرض لا تحمل الخلاص. ويتحدّث أشعيا مرارًا عن مجموعة أناس يتجاوبون وانتظار الرب. إنّهم يشكّلون البقيّة التي هي محفوظة والتي تحمل مواعيد المستقبل. فالمواعيد تتركّز حول مسيح داود الذي سيحكم كالملك المثالي. وإن خلاص إسرائيل يرتبط بالضرورة بإفناء الأعداء. ففي الرؤيا (إش 24-27) يتطابق إفناء الأعداء وخلاص يهوذا والأمم، مع الدينونة العامّة والنهائيّة. ونحن نندهش عندما نجد عبارة واضحة عن الإيمان بقيامة الموتى.
(ب) ويُظهر القسم الثاني تطوّرًا بالنسبة إلى القسم الأوّل فيما يتعلّق ببعض نقاط التعليم. فالله يسمّى دومًا الخالق. إنّه البداية والنهاية، والطبيعة كلّها تخضع له. وهكذا ينظّم التعليم بالإله الواحد. وأعظم برهان على قدرة الله هو تتميم النبوءات السابقة. وإسرائيل يشكّل قلب حكم الله للعالم. جاء كورش، فدمّر بابل بسبب الشعب المختار المتّحد بيهوه اتحادًا حميمًا. والربّ هو أيضاً ملك، وإسرائيل يُسمَّى عبده وعابده، وهذا لقب شرف يدلّ على نشاط معيّن. ولكن المهمّة الناشطة لخدمة الله هي مهمّة خادم خاصّ يميّز (في بعض النقاط) عن الشعب. إنّه عبد الربّ. وفي تصوير هذا الخادم يصل الفكر اللاهوتيّ إلى قمّته : شموليّة الخلاص، قيمة تكفيريّة للألم يتحمّله عبد الربّ عن إخوته. إذا فهمنا هذه النبوءات في معنى مسيحاني ابتعدنا عن أفكار القسم الأوّل، ولكننا بهذه الطريقة نفهم توافقها مع الإنجيل. والرجوع من السبي الذي يبدو بشكل خروج جديد (في بعض الآيات يكون عبد الربّ قائد المسيرة)، هو تحقيق الخلاص المعدّ للبقيّة الباقية. وهذا الخلاص يرتبط بأورشليم السماوية. وإنّ الفصول الأخيرة تربط تأخير الخلاص بخطايا إسرائيل. ولن نحصل على مغفرة الخطايا إلاّ بالاحتفال بالليتورجيا وممارسة الشريعة (إش 43:2). وسيلعب الهيكل دورًا في هذا المثال الديني. في هذه الفصول يتّخذ الخلاص لونًا وطنيًّا تارة ولونًا فرديًّا تارة أخرى.
رابعًا : بعد اكتشافات خربة قمران سنة 1947 صار بين أيدينا مخطوطان لنصّ أشعيا يعودان إلى ما قبل المسيح وبالأحرى قبل نشاط الماسوريّين. ولكن يمكننا القول إنّ الفروقات بسيطة بين هذين المخطوطين والنصّ الرسميّ الذي تستعمله الكنيسة على خطى الماسوريّين.
خامسًا : تاريخ دراسة إشعيا. هناك إشعيا الأول أو القسم الأول من إشعيا (1-39). هنا نجد الخطب التي تعود إلى كرازة النبيّ الذي عاش في القرن الثامن ق. م. كما نجد تلميحات إلى أحداث سياسيّة محدّدة طبعت بطابعها السنوات 734-701. ونجد أخيرًا تشابهات مع أقوال أنبياء آخرين مثل عاموس وميخا.
ولكن يُطرح السؤال : هل تعود كلّ هذه الأقوال إلى نبيّ القرن الثامن؟ هناك مواد دخلت فيما بعد. كما أنّ هناك قراءات جديدة لنصوص قديمة. في هذا الإطار تدخل الرؤيا الأولى (ف 24-27) التي تتوالى فيها الإنباءات والمراثي، والصلوات وأناشيد الشكر، في إطار ليتورجيّ. والرؤيا الثانية (المسمّاة الرؤيا الصغيرة، ف 34-35) التي تصوّر حروب الربّ الأخيرة ضدّ الأمم وانتصاره الأخير في أورشليم. وهناك أشعيا الثاني أو القسم الثاني من إشعيا. كان الرأي التقليديّ ينسب إلى إشعيا تدوين السفر كلّه. ولكن منذ نهاية القرن الثامن عشر (دودارلاين، ايشهورن) نُسبت ف 40-66 أو 40-55، إلى نبيّ نجهل اسمه سُمّي "إشعيا الثاني". أسلوب فخم واحتفاليّ يفترق عن الأقوال القصيرة والقاصفة التي قرأناها في القسم الأول. والألفاظ المستعملة هي التي نجدها في أيوب وإرميا وبعض المزامير. والإطار التاريخيّ هو زمن كورش. يحدّد زمنُ كتابة هذا القسم الثاني أو بالأحرى كرازة أشعيا الثاني حوالى سنة 540، وقبل أن تسقط بابل بيد كورش. هل كان هذا النبيّ في بابل ؟ ربّما. ولكن يبدو أنه من الأفضل أن نجعل رسالته في أورشليم. ففي 40 :1-11 مثلاً لا يتحدّث "النبيّ" عن خروج جديد لاسرائيل، بل عن عودة الربّ إلى أورشليم. هل هذا القسم واحد موحّد؟ لا شكّ في أنّ هناك نواة تتحدّث عن شرعيّة كورش الذي اختاره الربّ كما اختار "مسيحه" (41 :1-5، 21-29؛ 42 :5-7؛ 43 :14-15؛ 44 :24-28؛ 45 :1-7، 11-13؛ 46 :9-11؛ 48 :12-15). ولكن هذه المقاطع وغيرها قد أعيدت قراءتها في الزمن الفارسي وبداية الحقبة الهلنستيّة.
وهناك إشعيا الثالث أو القسم الثالث من إشعيا. فبرنار دوهم (1892) كان أول من نسب ف 56-66 إلى كاتب آخر يتميّز عن "إشعيا الثاني". نحن هنا في إطار إعادة بناء الهيكل. هي أقوال نبيّ "متفائل" قريب من حجاي وزكريا (57 :14-19؛ 60 :1-13؛ 62 :2-3؛ 65 :16-23؛ 66 :7-14 ا). وأقوال تعود إلى زمن إرميا (56 : 9-12؛ 57 :6-13 أ). وأقوال تعود إلى زمن المنفى (63 :7 64 :11). كل هذا جُمع مع ما سبق من "إشعيا الأول" و "إشعيا الثاني" في كتاب طويل انتهى "تدوينه" في الحقبة الهلنستيّة، ولكن قبل سنة 180. إذا كان إشعيا الأول قد شدّد على قداسة الرب وعلى الإيمان الواثق به في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة. وإذا كان إشعيا الثاني قد أبرز فكرة وحدانيّة الله على المستوى العملي (لا يكن لك إله غيري) وعلى المستوى النظري، "أنا الله وليس إله آخر"، 45 :5؛ 46 :9). فإشعيا الثالث اهتمّ بصمت الله الذي يتخلّى عن أخصّائه. يخفي وجهه ويبقى بعيدًا لئلاّ يتدخّل. ذاك هو أيضاً سؤال أيوب وسفر الجامعة.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|