1) العهد القديم
ترد في العهد القديم لفظة وتتكرّر. هي "ق د ش". ما هو قدسيّ. "أغيوس" في اليونانيّة السبعينيّة. وهي ترد حين التحدّث عن الله، عن شعائر عبادته، عن شعبه أو بعض أعضاء هذا الشعب. والمقابلة مع ما هو قدسيّ في تاريخ الديانات، أمرٌ لا شكّ فيه. فهناك ما يُسرّ وما يُرعب حين يظهر الإله على الإنسان. القدسيّ يدلّ على الانفصال. والله القدوس هو المنفصل عمّا هو دنيويّ. في هذا الخطّ، راحت بعض البدع تعتبر المادة (والعالم) شرًّا لا يستطيع الله أن يقترب منه. الله قدوس، ينفصل عن خليقته. هو المتسامي، المتعالي. والأشياء والأشخاص الذين يخصّون الله، يقدَّسون، أي يُفصلون، فلا يُستعملون في المجال الدنيويّ بعد أن انتقلوا إلى الدائرة الإلهيّة. هذا ما نعنيه حين نقول : الله هو الآخر الآخر. هو البعيد كلّ البعد عن الإنسان الذي هو أمامه ساجد عابد. وهناك نظرة ثانية إلى النصوص الأكاديّة، وإلى ما في كتابات أوغاريت، وهي تشدّد على التقديس الذي هو تطهير من أجل التكريس. القداسة صفة خاصة بإيل، ببعل، بأبناء ايل، بكل ما يتعلّق بهم ويخصّهم، من جبل وهيكل وأغراض وأشخاص (جبل الله، هيكل الله). فهذه النصوص التي تحملنا إلى ما سبق التاريخ البيبليّ للقداسة، قد تجعلنا نعتبر القداسة مفهومًا دينيًّا وعباديًّا قبل أن يكون أخلاقيًّا. اللاقداسة ليست في حدّ ذاتها النجاسة.
(أ) الأدب القديم. هذا في خارج العهد القديم، فماذا نجد في الكتاب؟ ونبدأ مع الأدب القديم. فإذا وضعنا جانبًا "البغاء المكرّس" (ق د ش هـ، تك 38 :21-22)، يستعمل التقليدُ اليهوهي دومًا "ق د ش" في سياق لقاء مع يهوه، وإن كان لا يسمّيه "ق د ش" (القدوس). فالجبل الذي عليه ظهر لموسى هو "أرض مقدّسة" تخصّه لأنّه حضر عليه، وعلى موسى أن يقرّ بهذا الواقع فيخلع نعليه من رجليه (خر 3:7). ونكتشف وجهة أخرى في التيوفانيا بما فيها من مظاهر السحر والرعدة (خر 3 :3-4آ، 6ب). غير أن هذه الوجهة لا ترتبط بالقدسيّ (الذي لا يذكر هنا) المتجلّي في يهوه. أما الحديث عن الخوف فيعود إلى التقليد الإلوهيميّ (3 :6ب). ولكن ما هو أهمّ من ذلك هو أنّ هذا الاستعمال الأول للفظة "ق د ش" لا يرتبط بالعالم القدسيّ الإلهيّ المجرّد، بل بحضور يهوه في تاريخ شعبه. على جبل سيناء، يجب على موسى أن يتقدّس أو يقدّس شعبه فيمارس بعض طقوس الطهارة التي تجعلهم جديرين بأن يلاقوا يهوه (خر 19:10-11، 14-15). وعليه أيضاً أن يضع حدودًا لجبل الظهور مع التحريم الذي يتبع هذه الحدود : لا يصعد إنسان ولا حيوان (19 :12-13). وقبل لقاء الرب في معجزة السلوى، وجب على الشعب أن يتقدّس (عد 16:18).
هذه الإشارات القليلة في النصوص اليهوهيّة، لا تعني الانفصال عن الله، بل الانتماء إليه (خر 3:5) واستعداد الشعب للقاء به. أما الحرم والمنع (خر 19:12-13) فهما نتيجة هذا التقديس. أما التقليد الإلوهيميّ الذي يُبرزُ وجهة الرعدة والخوف في التيوفانيّات (تك 28 :17؛ خر 3:6 أ)، فهو لا يستعمل الجذر "ق د ش". بل إن هذا الجذر نجده مع مميّزات قريبة من اليهوهي في الطبقات القديمة للتاريخ الاشتراعيّ. فعلى يشوع، شأنه شأن موسى، أن يخلع نعليه من رجليه في الموضع الذي صار مقدّسًا بحضور الربّ (يش 5 :15). وعلى الشعب أن يتقدّس قبل أن يلتقي الربّ في عبور الأردن (يش 3 :5) ومحاكمة عاكان (يش 7 :13). والمقاتلون في حروب يهوه هم مقدّسون، فتُفرض عليهم بالتالي العفّة وعدم الاقتراب من النساء (1صم 21:6؛ 2صم 11:11). كما يحرّم عليهم استعمال أي من الأسلاب (يش 6:18-19) الذي صار مكرّسًا للرب. ومدن الملجأ هي أيضاً مقدّسة (يش 20 :7) دون أن تُبعَد عن الاستعمال الدنيويّ.
والشقاء الذي يجرّه تابوت العهد على الفلسطيّين وسكان بيت شمش (1 صم 5؛ 6 :19-20)، جعل الناس يطرحون السؤال : "من يستطيع أن يقف أمام يهوه، الله القدوس" ؟ نحن هنا بلا شكّ أمام أقدم شهادة عن وصف يهوه بالاله القدوس (ق د ش)، بالاله المخيف، الذي يُرعب الأعداء. وفي الوقت عينه تُذكر للمرّة الأولى عبارةُ "تقديس" (تكريس) الإنسان لوظيفة عباديّة (1صم 7:1). ونجد الفكرة عينها في بعض القصائد المعروفة بجذورها القديمة، فكرة إله قدوس ورهيب لأعدائه (خر 15:11؛ 1صم 2:2؛ مز 39:3، 5، 9). إن الرب يكشف من خلال مآثره الحربيّة (خر 15:3) التي يُتمّها في تاريخ شعبه (الخروج من مصر والدخول إلى كنعان)، على أنّه "جليل في القداسة، رهيب في مآثره" ( آ11). بل هو يلقي الرعب وسط خصومه ( آ14-16). وعلى الشعوب المغلوبة أن تقرّ أن الربّ "مرهوب وقدُّوس هو" (مز 99:3) لأعدائه، وقريب من شعبه دون أن يكون "خادمًا" له ( آ6-8).
لا شكّ في أنّ يهوه هو إله يفرض الحياة الأخلاقيّة، ويطلب الأمانة من شعبه، غير أن هذه الوجهة لا تشكّل بعدُ "قداسة" (ق د ش) الربّ، التي تدلّ بالأحرى على مجده كما ظهر في تاريخ شعبه. أجل، لن تظهر الوجهة الأخلاقيّة بكلّ وضوحها إلاّ مع الأنبياء. وهكذا ننتقل إلى حقبة تبدأ مع النبيّ عاموس، فتصل بنا إلى زمن المنفى. فالأنبياء أعلنوا أن لا توافق بين خطايا اسرائيل وقداسة (ق د ش) الرب. فدعوا المؤمنين إلى التوبة، وأبرزوا الطابع الأخلاقيّ لهذه القداسة (عا 2:7؛ 4 :2). أما خيانات الشعب المختار فهي احتقار "لقدّوس اسرائيل" ((إش 1:4؛ إش 5:24؛ 30 :11، 12، 15؛ 31 :1)، وتحدّ لمجده (3 :8). وهذا ما لا يستطيع أن يتحمّله الرب "القدّوس" (10 :17). وتجاه الملك الرب الذي هو "قدوس، قدوس، قدوس" (إش 6:3)، أحسّ النبيّ أنّه هالك (أو هو وصل إلى الموت فما عاد يقدر أن يتكلّم. رج فعل "د م م" في العبريّة) لأنّه ينتمي إلى شعب خاطئ (6 :5). وبالدينونة "يكشف الله القدّوس قداسته في برّه" (أو في عدله) (5 :16). غير أن الدينونة ليست في نظر أشعيا (كما في نظر هو 11 :9) الكلمة الأخيرة لربّ هو دومًا "قدّوس إسرائيل"، "قدّوس يعقوب" (29 :23)، الذي يريد أن يخلّص شعبه (29 :19)، البقيّة المقدّسة (4 :3) التي تخافه (8 :13؛ 29 :23) وتسلّم ذاتها له (10 :20؛ 17 :7).
هذا ما كان عليه الأنبياء في القرن الثامن ق.م. أما أنبياء القرن السابع فما أفردوا مكانًا خاصًّا للفظة "ق د ش" (صف 1 :7؛ 3 :11). فالإله القدوس الذي هو أساس كل رجاء (حب 1:12؛ 3 :3)، هو مخلّص (كما في سفر الخروج) مع إشارة أخلاقيّة واضحة (1 :13). وإذا وضعنا جانبًا إر 50:29؛ 51 :5 (رج إش 40-55)، فإنّ إرميا لا يسمّي الله القدوس، ولا يستعمل الألفاظ القدسيّة (ق د ش) إلاّ ليدلّ على الانتماء للربّ (1 :5؛ 2 :3؛ 11 :15؛ 31 :40)، أو يجعلنا في إطار من الحرب المقدّسة (رج مي 3 :5) يُشعلها الله ضدّ اسرائيل (تث 6:4؛ 22 :7). وحين اهتمّ سفر التثنية بقدسيّات الربّ (12 :26؛ 15 :19؛ 26 :13)، بالسماوات، بموضع قداسته (26 :15)، بمخيّم اسرائيل المقدّس (23 :15)، لم يذكر قداسة الله، بل شدّد على المتطلّبات الأخلاقيّة والطقوسيّة التي يفرضها على "شعبه المقدّس" (تث 7:6؛ 14 :2، 21؛ 26 :19؛ 28 :9). وجاءت شريعة القداسة (لا 17-26) التي تعود إلى الزمن عينه، فاستعادت تقاليد كهنة أورشليم. غير أنّها شدّدت بشكل قويّ جدًّا على قداسة الربّ ومتطلّباته الطقوسيّة والأخلاقيّة (لا 19) المطلوبة من اسرائيل (ل(ا 11:44-45؛ ا 19:2؛ 20 :26؛ 21 :8). إنّ الربّ يقدّس شعبه (ل(ا 20:8؛ ا 21:23؛ 22 :9، 16، 32) الذي لا يحقّ له من بعد أن يدنّس اسمه القدوس (لا 20 :3؛ 22 :2، 32). بل عليه أن يقدّسه، أن يعترف بقداسته، ويدلّ على صدق اعترافه حين يكون مقدّسًا (لا 20 :7) بحسب متطلّبات الشريعة.
(ب) أدب المنفى. تحدّث النبيّ حزقيال بشكل خاص عن مجد يهوه (1 :28؛ 3 :12، 23؛ 10 :4، 18؛ 11 :23) الذي يميّز تيوفانيّات التاريخ الكهنوتيّ (خر 16:7، 10؛ 24 :16-17؛ 40 :34-35)، فما ذكر إلاّ مرّة واحدة عبارة "الرب قدّوس في اسرائيل" (39 :37، يمكن أن يكون قد زيد هذا النص في ما بعد). غير أنّه يستعمل مرارًا الجذر "ق د ش" في معنى عباديّ خاصّ، دون أن يستبعد مع ذلك الاهتمامات الاخلاقيّة (حز 18؛ 20؛ 22). ودمار أورشليم هو عاقبة نجاساتها. غير أن الربّ نظر إلى اسمه لئلاّ يدنّس في الأمم (36 :20-23؛ 39 :7)، فأظهر قداسته ((حز 20:41؛ حز 28:25؛ 36 :25؛ 38 :16، 23؛ 39 :27) في خلاص شعبه الذي يجد ذروته في إعادة بناء الهيكل (37 :27-28) وعودة مجده إليه (43 :4-7). وجاءت التوراة بالمعنى الحصريّ (حز 40-48) فشرّعت من أجل المستقبل وقد جعلت حول المعبد الذي هو مسكن الله وسط شعبه (حز 43:7)، وقلب الأرض الحقيقيّ (حز 48:8-9)، شريعة دقيقة جدًّا، تتوخّى أن تحفظ طابعه المقدّس من كلّ تدنيس. وأنشد إشعيا الثاني في نهاية المنفى "قدوس اسرائيل" (إش 41:14، 16، 20؛ 43 :3، 14؛ 45 :11؛ 47 :4؛ 48 :9؛ 49 :7؛ 54 :5؛ 55 :5) الذي يكشف عن مجده وعن قدرته في خلاص شعبه، عن عمل "ذراع قداسته" (52 :10) دون أن يلمّح إلى متطلّبات الحياة الأخلاقيّة والدعوة إلى التوبة كما في إشعيا الاول (ف 1-39).
(ج) أدب ما بعد المنفى. شرّع اللاهوت الكهنوتي (كما في حز 40-48) لجماعة عباديّة حيث يقيم يهوه بوساطة المعبد والكهنوت (خر 25:8؛ 29 :43-46). فنظّموا الشرائع الطقوسيّة في الهيكل. إنّ قداسة يهوه (شدّدت عليها شريعة القداسة التي نالت الآن ملحقات لها) لم تعد تُذكر، كما لم تُذكر أبعادها الأخلاقيّة. فالوجهة صارت فقط طقوسيّة، ومركّزة على مسيرة شعائر العبادة مع ما يتضمّن كلّ هذا من تمييز بين ما هو مقدّس وما هو مقدّس جدًّا بمجرّد اللمس ((خر 29:37؛ خر 30:29؛ لا 6 :10، 20؛ حز 44:19؛ 46 :20)، بين المقدّس والدنيويّ، بين المقدّس والنجس. مثل هذا اللاهوت ألهم المؤرّخ الكهنوتي (1-2أخ، عز، نح) الذي جعل القداسة تمتدّ إلى اللاويّين (ولا تنحصر فقط في الكهنة) ((2أخ 23:6؛ 2أخ 35:3؛ عز 8:28)، فدلّ على سموّ الأخلاقيّ على الطقوسيّ من أجل المشاركة في القدسيّات (2أخ 30:18-20). وتوقّف أنبياء ما بعد المنفى مرّات عديدة عند قدسيّة شعائر العبادة، فتناقشوا في انتقال القداسة (حج 2:12)، وتحدّثوا عن الأرض (زك 2 :6)، وعن الجبل (زك 8 :3؛ (إش 56:7؛ إش 57:13؛ 65 :11، 25)، وعن المسكن (زك 2 :7)، وعن الهيكل (إش 60:13)، وعن السبوت (إش 58:13) المقدّسة. كما ندّدوا بالعبادات الغريبة (إش 65:5؛ 66 :17). ورأى آخر هؤلاء الأنبياء أورشليم الاسكاتولوجيّة حيث كلّ شيء مقدّس (زك 14:20-21). لا يسمّى يهوه مرّتين "قدوس اسرائيل" (إش 60:9، 14). هو مخلّص أورشليم، والشعب المقدّس هو شعب المفديّين (62 :12). غير أن صلاة (إش 63 :10-64 :11 : بداية النفى) الشعب المقدّس (63 :18) الذي طُرد من ميراثه بسبب الروح القدوس (63 :10، 11، 14)، وقول الله القدوس (57 :15-21) الذي ينجّي القلوب التائبة المتواضعة ويعاقب الأشرار، يتّخذان بُعدًا أخلاقيًّا يذكّرنا بانطلاقة الأنبياء الأولى.
مع أنّ بعض المزامير قديمة جدًّا، إلاّ أنّ تلك التي استُعملت في ليتورجيّة الهيكل الثاني، قد أنشدت يهوه الذي دلّ على قداسته في التاريخ (22 :4؛ 30 :5؛ 68 :18؛ 71 :22؛ 77 :14؛ 78 :41؛ 89 :19؛ 97 :12؛ 98 :1)، على كلمة قداسته التي لا تُردّ (89 :36؛ 510 :42)، على اسمه القدوس والرهيب (99 :3؛ 111 :9). كما تكلّمت أيضاً عن قدّيسيه (الملائكة، 89 :6، 8؛ ق أي 5 :1؛ 15 :15 أو الناس الأبرار والحكماء، 34 :10؛ ق أم 9:10؛ 30 :3). أما الأدب الحكميّ فلا يستعمل أبدًا الألفاظ القدسيّة (ق د ش، ما عدا (أم 9:10؛ أم 30:3؛ أي 6 :10). أما ابن سيراخ فجدّد في هذا المجال، مهتمًّا بشعائر العبادة في إسرائيل (سي 7 :29؛ 24 :10؛ 45 :6-29؛ 50 :1-21)، فسمّى الله "القدوس" (4 :14؛ 23 :9؛ 43 :10؛ 47 :8؛ 48 :20). وكان دا و 1-2مك شهودًا لاضطهاد انطيوخس الرابع ابيفانيوس (167-164)، فشدّدوا على الأهداف المقدّسة التي عنها يدافعون : المدينة المقدّسة (دا 9:24)، المعبد أو المقدس (دا 8:11، 13، 14؛ 9 :17، 24-26؛ 1مك 1 :37؛ 3 :43، 5، 58-59)، العهد المقدّس (1مك 1 :15، 63؛ دا 11:28، 30) الذي يحاربه عدوّ الشعب المقدّس. لا يسمّى الله نفسه "القدّوس". أمّا التعرّف إلى "القديسين" المضطهدين (دا 7:25؛ 8 :24) والذين يُنصفهم قديم الأيام ويُعطيهم الملكوت، فيبقى موضوع جدال. والفرضيّة التي تتحدّث عن الملائكة تجد أساسها في دا 4:10، 14، 20؛ 8 :13، ولكنّها لا تفرض نفسها. لهذا قد نكون أمام بني اسرائيل الذين ظلّوا أمناء لله وللشريعة في الاضطهاد. وفي سفر الحكمة (7 :7) دلّ "القدّيسون" (الصدّيقون) على الأبرار الذين عاشوا بحسب الحكمة التي تماهت مع الروح القدس (1 :5؛ 9 :17-18) الذي أعطاه الله للناس ليقوّموا طرقهم، فيعرّفهم بمشيئته ويخلّصهم.
2) العهد الجديد
اعتادت السبعينيّة اليونانيّة أن تترجم "ق د ش" العبريّ باليونانيّ "هاجيوس"، مع أنّ كلمة "هياروس" كانت مستعملةً في الحالات العاديّة. ولكن هذه اللفظة الأخيرة كانت مجذّرة تجذيرًا عميقًا في الميتولوجيا اليونانيّ والعالم الدينيّ الوثنيّ، فلم يأخذ بها مترجمو الاسكندريّة. هذه اللفظة لا تتيح للكاتب أن يعّبر عن فكرة أساسيّة هي قرب الله وإشراكه لشعبه في حياته. واستلهم العهدُ الجديد استلهامًا واسعًا السبعينيّة، واستنبط ألفاظًا غنيّة ومختلفة للدلالة على هذه القداسة : "هاجيسموس" أي القداسة والنموّ. "هجيوتيس" أي المشاركة في قداسة الله. "هاغيوسيني" أي الالتزام التامّ. "هوسيوس" أي (الله) القدوس. "كتاروس" أي النقيّ. "هجيوس" أي النقيّ. "امينتوس" أي بلا دنس. "اسبيلوس" أي بلا عيب. "اموموس" أي بلا لطخة...
للوهلة الأولى لا يبدو تعليم العهد الجديد عن القداسة مختلفًا عن تعليم السبعينيّة. الله قدّوس هو (يو 17 :11)، واسمه قدوس (لو 1 :49)، وشريعته (رو 7 :12) وعهده (لو 1 :72). وأغراض العبادة هي مقدّسة : المذبح (مت 23:18) والتقدمة (رو 12 :1) والمعبد نفسه (مت 23:17) والمدينةالمقدسة أو أورشليم التي يقيم فيها الله (مت 4:5) وجبل التجلّي أو (الجبل المقدس) (2 بط 1 :18). ونجد أيضاً في العهد الجديد نشيد أشعيا عن الله المثلّث التقديس (رؤ 4:8، قدوس، قدوس، قدوس)، والمتطلّبة الأساسيّة للقداسة في العهد القديم (1بط 1:16؛ رج مت 5 :48). غير أنّه إن كانت الألفاظ قريبة جدًّا من العهد القديم في السبعينيّة، إلاّ أنّ النظرة هي جديدة كلّ الجدّة. على مستوى قداسة الله، الله يبقى الديّان الاسكاتولوجيّ (رؤ 6:10)، ولكنّه قبل كلّ شيء أبونا (مت 6:9؛ لو 11 :2) الذي يريد أن يشركنا في قداسته (عب 12:10) بواسطة يسوع المسيح (1كور 1 :30). أما قداسة يسوع فترتبط ببنوّته الإلهيّة. أعلنها الشياطين (مر 3:11؛ رج 1:24) واعترف بها الرسل (مت 16:16؛ يو 6 :69) : يسوع هو قدوس الله. ولكنّه ليس على مستوى الناس الأتقياء في الماضي، بل هو قدوس وكامل القداسة (أع 3:14-15؛ رؤ 3:7). فقد حُبل به من الروح القدس (لو 1 :35) وهو الابن الذي يُعبد (يو 20 :28). ومع أنه بلا خطيئة (يو 8 :46؛ 1يو 3 :5؛ عب 7:26-28)، فهو يخضع لأبيه (يو 4 :34) ويقدّس اسمه (مت 6:9) بعد أن قدّسه الآب (يو 10 :36). وقيامتُه جعلته ابن الله بحسب روح القداسة (رو 1 :4)، وهذا ما وجب على كلّ إنسان أن يعرفه حين يرى أعماله ويسمع أقواله (يو 20:30-31).
جاء يسوع الى الهيكل، ولكنّه لم يشارك أبدًا في الذبائح. بل قدّم نفسه على أنه أعظم من الهيكل (مت 12:6)، وأعطى القداسة بُعدًا حكميًّا. لا يتكلّم يسوع أبدًا عن البشر بلغة القداسة، ولكن متطلّباته على مستوى البرّ والمحبّة والحقّ، تميل بنا عن قداسة بحسب الشريعة، عن قداسة طقوسيّة، لتشدّد على متطلّبات قداسة أخلاقيّة هي قداسة القلب (مت 5:8). وجميع عناصر الحياة، سواء كانت حميمة (الحياة الزوجيّة : مت 5:28؛ 19 :1-2) أو سامية (الدولة مر 12 :17) مرورًا بالأمور اليوميّة (الخبز : لو 11 :3؛ المال : مت 6:19-20؛ اللباس : مت 6:28؛ العمل : مت 24 :48-50)، تخضع كلّها للشريعة الأخلاقيّة، فتستحقّ دينونة الله. وقداسة يسوع ليست فقط نموذجًا لقداسة المؤمن (1 يو 2 :20؛ 1بط 1:15-16)، بل هي ينبوعٌ لها (1كور 1 :30). تقدّسَ يسوعُ من أجل تلاميذه (يوحنا 17 :19). إنّه "المقدِّس" (عب 2:11) الذي يتمّ عملَه بالروح القدس (1يو 2 :20).
وبعد قداسة الآب وقداسة الابن، نصل إلى قداسة الروح القدس. فهذا الروح يرتبط بشخص يسوع ارتباطاً وثيقًا (لو 15 :26؛ 16 :14-15)، بحيث يحمل اسمه (روم 8 :11؛ غل 4 :6. هو روح يسوع). ويسوع يسلّم روحه إلى أبيه عند ساعة موته (يو 19 :30؛ لو 23 :46)، ويوصله إلى تلاميذه بعد قيامته (يو 20 :22). فتدبير الروح هو تدبير غفران الخطايا (يو 20 :23) الذي ستكون الكرازة الإنجيليّة أداته (أع 2:38) والايمان وسيلته. والمؤمنون يقودهم الروح، فيُعلَنون أبناء الله (رو 8 :14). بالروح يصل المؤمن إلى الحقيقة الموحاة (يو 16 :13)، إلى تجديد النعمة (غل 5 :22-23)، إلى خدمة الكنيسة (أف 4 :11-12).
وماذا عن تقديس المسيحيّ؟ القداسة للمسيحيّ هي شجرة جذورُها الإيمان. وهي تشكّل متطلّبة أساسيّة تعطي الخلاص ظروفه (عب 12:14). إنّ التقديس هو عمل الله (غل 2:12-13)، ولكن المؤمن يُظهر بنشاطه أنه يقبل بعمل الله فيه (2كور 7:1). يتسلّم متطلّباته بشكل وصيّة وأمر (1بط 1:15-16)، ويجعل كل وجهات حياته في خدمة مشيئته (1 تس 2:3). فالقداسة تتضمّن انقطاعًا عن الشرّ (رو 6:1-2؛ أع 26:18)، وتدعو إلى تكريس تامّ لله (2كور 5:15؛ رو 12:1-2)، وهي تتمّ بدم المسيح (عب 10:29؛ 13:12). القداسة هي طاعة مستمرّة للحقيقة ((1بط 1:22؛ 1بط 5:12؛ يو 17:17؛ أف 5:26) رغم المحن التي قد تنتابنا (عب 2:10؛ يع 1:2-4). غير أن هذه القداسة لا تنحصر في طاعة شكليّة لشريعة غريبة عنّا، بل تُبنى يومًا بعد يوم في طلب متواصل لقصد الله (رو 12:1-2) بقيادة الروح (رو 8:13-14) وفي منظار اسكاتولوجيّ(2بط 3:11-12).
وفي النهاية نصل إلى قداسة الجماعة. فالجماعة تنال الروح (1كور 3:16)، شأنها شأن المؤمن (1كور 7:40). والروح يعمل عمل التقديس في المؤمن كما في الجماعة (1كور 3:16؛ 6:11). هكذا سيتطهّر المسيحيّون بالمعموديّة، ويتقدّسون بالكلمة (أف 5:26)، فيشاركون في قداسة جسد المسيح (عب 10:10) ليكوّنوا أمّة مقدّسة (1بط 2:9) وهيكلاً مقدّسًا (أف 2:21). وهكذا يصيرون جديرين بأن يحملوا الاسم القدّوس (رو 1:7؛ 15:25-26). وإن كان المؤمن (أو الكنيسة) سريع العطب، ضعيفًا، خاطئًا، فهو يشارك بالإيمان في قداسة المسيح ويجد منذ الآن موطنه في السماء (رؤ 7:9؛ 14:1-5؛ 21:2).
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|