1) العهد القديم. إن أردنا أن نتعرّف تعرّفًا صحيحًا إلى وظائف الكاهن في اسرائيل، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الوسط الفلسطيني وذاك المحيط بفلسطين. ففي معظم الديانات، يبدو الكاهن الاختصاصيّ في القدسيّات، وهو يتزاحم بعض المرّات مع الساحر. في مصر حيث يعتبر الفرعون ابن رع، يقوم الكهنة بوظائفهم بتكليف ملكيّ. وقد نعم عظيم الكهنة في طيبة (حيث الاله أمون) بقدرة عظيمة بحيث حاول امينوفيس الرابع أن يلغيه مختارًا إلهًا آخر هو اتون. في بلاد الرافدين اعتبر الملوك نفوسهم "خدّام" الآلهة، فسهروا على تنظيم شعائر العبادة. وتوزع الكهّان والكاهنات، كما في مصر، في فرق عديدة وأداروا أموال المعبد. وفي عرابية السابقة للاسلام، جاء تنظيم العبادة أكثر بساطة، فشكّل توازيًا رائعًا مع حقبة الآباء وبداية الإقامة في كنعان. فالسدين يحفظ المعبد. والكاهن الذي هو حرّ في تصرّفاته، هو العرّاف الذي يتبع القبيلة في تنقلاتها.
أولاً : الألفاظ ومسائل التفسير. اللفظة المعروفة للدلالة على الكاهن في العالم الاسرائيلي كما في العالم الوثني، هي "ك هـ ن" (750 مرة). لا يعرف العبراني لهذه اللفظة مؤنثًا. ما هو أصل هذه الكلمة؟ قال البعض : الكاهن هو الذي يقف أمام الله للخدمة (رج "ك و ن ". وقف. كان ثابتًا). وقال آخرون : هو الذي ينحني من أجل الاكرام (حسب الاكادية "كانو"). واستعمل "ك و م ر " بعض المرات للكلام عن الكاهن الوثنيّ. أما "لاوي" فيدلّ، حسب الشرح التقليديّ، على الجدّ الذي أعطى اسمه للقبيلة. وهو الذي ترتبط به العائلات الكهنوتيّة في اسرائيل. ومع ذلك، فهناك اختلافات واسعة بين معطيات أسفار الشريعة ومعطيات الكتب التاريخيّة. سننطلق من الكتب التاريخيّة لنعيد تكوين تطوّر الكهنوت في اسرائيل، مع ما في هذا التطوّر من تشعّب.
ثانيًا : قبل المنفى. نعرف، حسب التقليد، أن رئيس العائلة ( ربّ البيت) يقدّم بنفسه الذبيحة ويبارك أبناءه. وحين نقرأ تك 25 :22 نكتشف وجود راءٍ مرتبطٍ بمعبد. قدّم ابراهيم إلى ملكيصادق، الملك والكاهن في أورشليم، العشر من كل ما يملك (تك 14:18-20). وارتبط بهذا الحدث مز 110، ووثيقة من قمران، والرسالة إلى العبرانيين. كان موسى من أصل لاوي، فبدا كالنبيّ وقائد الشعب والمشترع. مارس وساطته حين قُطع العهد، فرشّ الشعب بدم الذبائح (خر 24:8). في التقليد القديم، لا يحتلّ أخوه هرون سوى مكانة بسيطة. بل هو يظهر كمسؤول عن عبادة العجل الذهبيّ (خر 32). وتميّزت قبيلة لاوي بأمانتها للربّ، فنالت بركة خاصة (خر 32:25-29؛ تث 33:8-11). وبعد ذلك، سوف تُذكر بافتخار غيرةُ فنحاس (عد 25:10-13، كهنوتي).
في فلسطين، أخذ بنو اسرائيل بأماكن العبادة الكنعانيّة، كما فعل الآباء، وأخذوا بعدد من الممارسات المحلّية. فظلّ رؤساء العائلات يقدّمون الذبائح. ولكن بدأ اللاويون يتقدّمون كاختصاصيين في شعائر العبادة (قض 17-18). وجاء تث 33:8-11 فحدّد صلاحياتهم : يسألون الرب بالقرعة المقدسة ( أوريم وتوميم). يعلّمون الشريعة. يقدّمون الذبائح. وخبر الكاهن عالي في شيلوه (1صم 1-3) يعطينا الأساس الأفضل لدراسة شعائر العبادة في زمن القضاة. ومع تأسيس الملكيّة تحوّل الوضع. ما أخذ الملوك لقب "كاهن"، ولكن كانت لهم سلطة على شعائر العبادة، فيباركون الشعب في المناسبات الكبرى (2صم 6:18؛ 1مل 8 :14). ونقلُ تابوتِ العهد إلى أورشليم بواسطة داود (2صم 6)، دلّ على أولويّة الكهنة المرتبطين بالمعبد الجديد. حين تسلّم سليمان السلطة، عزل ابياثر (1مل 2 :26)، وصار صادوق رئيس سلالة العائلات الكهنوتيّة الكبيرة. ونلاحظ مع مرور الزمن نموّ دور الكاهن الرئيس في أورشليم. فيوياداع أمر بقتل عثليا وأشرف على تجديد العهد "بين الربّ والملك والشعب" (2مل 11 :17).
حين انفصلت مملكة الشمال (اسرائيل بعاصمتها السامرة) عن مملكة الجنوب (يهوذا بعاصمتها اورشليم)، نظّم يربعام الأول كهنة غير لاويين في معبدَي بيت إيل ودان (1مل 12 :26-33). هاجم النبيّ عاموس بعنف كاهن بيت إيل الذي اهتمّ بمصالح الملك أكثر منه بالأمانة لله المحامي عن الضعفاء (عا 7:10-17). ووبّخ هوشع الكهنة الذين يسمنون من الذبائح ولا يعلّمون معرفة الله (هو 4 :4-10). خرج سفر التثنية (في قسم منه على الأقل) من الحلقات اللاويّة، فأعلِن فقط في أيام يوشيا (2مل 22-23) : ركّز شعائر العبادة في أورشليم. ورغم الاجراءات التي اتّخذت من أجل اللاويين في المعابد المحلّية (تث 18:6-8)، فقد نال كهنة أورشليم كل الامتيازات (2مل 23 :9). وسيشدّد حزقيال بشكل أقوى على دور الكهنة الصادوقيين على حساب اللاويين (حز 44:6-31).
ثالثًا : بعد المنفى. دُوّن المرجع الكهنوتي خلال المنفى، فأعطى لهرون وأبنائه الدور الرئيسيّ. صوّر كيف تولّوا السلطة، وتوسّع، فقدّم تفاصيل حفلة "التكريس"، وعدّد الملابس المقدسة (خر 28-29؛ لا 8-9) : طقس التكريس (المسح بالزيت). لباس ملوكيّ (التاج). ما كان للملك انتقل إلى عظيم الكهنة الذي بدا عندئذ كالرئيس الحقيقيّ للأمّة. مقابل هذا، تُفرض قواعدُ الطهارة الدقيقة على عظيم الكهنة ومعاونيه (لا 10 :6؛ مز 21-22). وفي الرؤية المسيحانيّة التي رآها زك 4، يقف عظيم الكهنة بجانب الأمير الداودي. هذا ما نجده في قمران وفي وصيّات الآباء الاثني عشر.
في المرجع الكهنوتي، تقدّمت الذبائح عن الخطيئة (ولا سيّمـا ذبيحة كيبور، لا 16) على ذبائح السلامة (أو الاتحاد). فكتاب الطقوس المفصل في لا 1-10 لا يقول شيئًا عن الصلوات التي ترافق الذبائح، ولا يحدّد وظائف التعليم التي وكِّل بها الكهنة (رج حج 2:10-14؛ ملا 2:4-7). نتج عن كل هذا تفقير للنظرة إلى الكهنوت (رج عب 5 :1-4). بيّن كتاب الاخبار (1أخ، 2أخ) الاهميّة المعطاة للاويين، ولا سيّمـا للمغنّين منهم، فجاء كردّة فعل ضدّ السلطة الحصريّة للكهنة الصادوقيين (ق ملا 3 :1-3). حوالى سنة 200 ق.م.، مارس عظيم الكهنة سمعان وظائفه بأبّهة عظيمة (سي 50). ولكن الأزمة السياسيّة والدينيّة التي جاءت بعد فرض الحضارة الهلينيّة على فلسطين، كانت السببَ في دمار السلالة الشرعيّة لصالح الحشمونيين. وخلال الحقبة الرومانيّة (63 ق.م.، 70 ب.م.)، صارت السلطة السياسيّة تسمّي عظماء الكهنة وتراقب تحرّكاتهم. وتجاه ارستوقراطية كهنوتية فاسدة بمجملها (الصادوقيون)، صار الفريسيون الحماة الغيورين للشريعة والمعلّمين الحقيقيين في اسرائيل. عند ذاك انحصر الكهنوت في ممارسة شعائر العبادة على حساب الوظيفة التقليديّة التي هي الاهتمام بالشريعة. ومع دمار الهيكل سنة 70 ب.م.، انتهت ممارسة الكهنوت في اسرائيل.
2) العهد الجديد. إن لفظة "هيروس" اليونانيّة (تقابل الكاهن) لا تعني أبدًا الكاهن المسيحيّ في المعنى الحاليّ للكلمة. بل تُستعمل في أكثر الأحيان للكلام عن الكهنة اليهود. فيتحدّث لوقا عن الكاهن زكريا، والد يوحنا المعمدان (لو 1). وهاجم يسوع في كرازته تقاليد الفريسيين، كما انتقد الكهنة واللاويين (لو 10 :29-37). وطردُ الباعة من الهيكل، رأى فيه عظماء الكهنة تساؤلاً حول وظائفهم، لهذا كانوا المسؤولين الرئيسيين عن توقيف يسوع (يو 11:47-54). بعد العنصرة أمّ الرسل الهيكل (وشعائر العبادة فيه). ولكن الصدوقيين حاولوا أن يوقفوا كرازتهم (أع 4-5) على مثال ما حاولوا مع يسوع. ومع ذلك، اعتنق بعض الكهنة الايمان الجديد (أع 6:7). منذ البداية، شرع المسيحيّون يجتمعون في البيوت لكسر الخبز والصلوات (أع 2:42). وحسب الجماعات نال المسؤولون اسماء مختلفة : "شيوخ (برسبيتيروس) في الجماعات المسيحية التي من أصل يهودي. "أساقفة، و"شمامسة" في الجماعات المسيحيّة التي من أصل يونانيّ. ودلّّت الرسائل الرعائيّة على تنظيم متنامٍ للخدم (رج أع 14:23؛ 20 :17). وسوف ننتظر أول الكتّاب المسيحيّين (اكلمنضوس الروماني، ترتليانس القرطاجي، هيبوليتس...) لكي تنتقل الألفاظ الكهنوتيّة إلى خدّام الانجيل.
ولقد كانت عب النصّ الوحيد في العهد الجديد، الذي توسّع في كهنوت المسيح مستنداً إلى مز 110. والتوازي بين المسيح وموسى، يبيّن سموّ يسوع لأنه "رسول وحبر اعتراف ايماننا" (3 :1). هذا التوسّع يتضمّن وظيفة التعليم، ويقابل 5 :1-4 المركّز على التكفير عن الخطايا. إذا كانت عب أبرزت ذبيحة المسيح الفريدة بالنظر إلى يوم التكفير (يوم كيبور)، فقد شدّدت أيضًا على الوجهة الاراديّة في ذبيحة يسوع (9 :11-14) التي فيها قدّم نفسه متضامنًا مع إخوته البشر. وحين مجِّد المسيح وجلس عن يمين الآب، مارس إلى الأبد وظيفته في الشفاعة (7 :25؛ 9 :24). والمقطع (خر 19:5-6) الذي يسمّي اسرائيل الأمّة المقدسة والملكوت والكهنوتي ( الذي يوجّهه الكهنة) قد طبّق على المسيحيين في مجملهم (1بط 2:5، 9؛ (رؤ 1:6؛ رؤ 5:10؛ 20 :6). فالمؤمنون يمارسون مجتمعين وظيفتهم الكهنوتيّة في حياتهم اليوميّة التي هي عبادتهم، وفي التسبيح بمزامير وأناشيد روحيّة.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|