1) الألفاظ وتحديدها. إنّ الفعل اليونانيّ "كيريسو" (أعلن، نادى، كرز). والاسم "كيريغما" (إعلان، مناداة، كرازة. هنا نكون مع اللغة السريانيّة "ك ر ز") والفعل "انغالو" (بشّر، أنجل) مع متفرّعاته، تشكّل مفهوم الوعظ. أمّا في التفسير الحديث، فإنّ "كرازة" (كيريغما) قد اتّخذت مدلولاً محصورًا، فدلّت على إعلان الإنجيل بواسطة الرسل والكنيسة الأولى. وإذ ندرس الكيريغما، نفهم كيف أعلِن الإنجيلُ قبل أن يدوَّن. في زمن أول، كانت حقبة صياغة تعليم يسوع المسيح. حفظ الرسل كلام يسوع "ففهموه" (لو 24 :45)، ثمّ أعلنوه. ووُلد من ثمار هذه الكرازة الأولى الأناجيل كما نعرفها، والتي هي انعكاس لا مثيل له لأقوال تفوّه بها يسوع، وفهمها الرسل وأعلنوها، وبشّرت بها الكنيسة.
2) المصادر. ^ أولاً : خطب الرسالة في أع. نحن نعرف أن خطب الرسالة في أع لم تأتِ حرفيًّا كما تلفّظ بها بطرس وبولس في ظروف محدّدة. فهل كان هناك كتبة يأخذون بطريقة الاختذال كلام الخطبة التي يسمعون؟ لقد كان للوقا نشاط أدبيّ في تدوين هذه الخطب. هذه الملاحظة لا تقلّل من الطابع التاريخيّ للخطب. ثمّ لا ننسى أنّ القدامى لم تكن لهم نظرتنا إلى التاريخ. هم يستندون إلى حدث تاريخيّ أكيد، فيعيدون كتابة ما وُجد من قبل ويكيّفونه بحسب "الفنّ الأدبيّ" لخبرهم، أو "الفنّ الأدبيّ" لهذا النمط من الأحداث. لهذا، إن كان لوقا قد أعاد صياغة الخطب التي أوردها في أع، فهو مع ذلك يستعمل عدّة مواد قديمة حتى وإن اعتبرناها لوقاويّة. إذن، حين ندرس الخطب، لا نتوقّف عند المعنى الذي أراده الخطيب الذي تلفّظ بهذه الخطبة، بل بالمعنى الذي عبّر عنه الكاتب في النصّ كما نقرأه اليوم. فنرى في هذه الخطب، من جهة، خطبًا "تاريخيّة" تورد حدثًا حصل في موضع يشير إليه لوقا. ومن جهة ثانية، نرى "خطبًا نموذجيّة" هي مثال يميّز الكرازة الرسوليّة في وضع وصلت فيه إلينا. فنكشف بهذه الطريقة رسمة مشتركة بين جميع الخطب. أمّا الخطب الرئيسيّة في أع فهي : خطبة بطرس لليهود والمهتدين الجدد المجتمعين في أورشليم يوم العنصرة (2 :14-41). خطبة بطرس بعد شفاء المقعد عند "الباب الجميل" (3 :12-26). خطبة بطرس أمام السنهدرين، المجلس الأعلى (4 :9-12). خطبة بطرس الثانية أمام السنهدرين (5 :29-32). خطبة بطرس في بيت كورنيليوس (10 :34-43). خطبة بولس في أنطاكية بسيدية (13 :16-41، هي بلا شكّ أهمّ الكرازات الرسوليّة).
ثانيًا : الإعلانات الكرازيّة في رسائل القدّيس بولس. استعاد بولس في بعض محطّات من رسائله عبارات كرازة. قد تكون منه، أو قد يكون أخذها من تقليد سابق له : 1كور 15 :3ب-5؛ 1تس 1:9-10 (كرازة للوثنيّين)؛ رو 1 :3-4.
ثالثًا : عبارات عماديّة. نحن أمام اعتراف إيمان علنيّ تمارسه الكنيسة الأولى. ونجد آثاره في تعابير من الأناجيل أو الرسائل : لو 24 :34 (من أقدم التعابير وأنقاها)؛ 1تس 4:14؛ يو 20 :28؛ رو 10 :9؛ 1كور 8 :6؛ أف 4 :5؛ فل 2 :11. ونورد أيضًا مدائح قديمة جدًّا : فل 2 :6-11؛ كو 1 :13-20؛ 1تم 3 :16.
3) مضمون الكرازة. "شاء الله أن يُخلّص المؤمنين به "بحماقة البشارة" أو الكرازة" (1كور 1 :21). خلاص البشر يأتي بالكرازة. هذا ما يقول لنا بولس الرسول. إذن، هنا تجد الكنيسة أسس إيمانها ومرتكز حياتها. فما هي الخطوط الكبرى في هذه الكرازة؟
أولاً : تتميم الكتب المقدّسة. لقد جاء زمن تتمّ فيه الكتب : "حسب الكتب، كما في الكتب" (أع 2:16؛ 3 :18، 24؛10 :43؛ 13 :27؛ 1كور 15:3-4). هذا هو تحقيق النبوءات. أجل تمّت الكتب، ولكنّها لا ترد حسب النهج المعروف في التأويل المعاصر. فالتشديد على تحقيق النبوءات يستند إلى يقين ثابت وهو : ما أنبأ به الأنبياء كان على علاقة "بأيام المسيح". في تلك الأيام، وبعد انتظار قرون عديدة، زار الله شعبه مع دينونة وبركة، فحمل إلى ذروة التاريخ علاقاته مع شعبه (1بط 1:10-12؛ يو 5 :39؛ لو 18 :31؛ 24 :26-27، 44-46).
ثانيًا : موت المسيح وقيامته. هما حدث مركزيّ في إيماننا، وتتمّة الكتب. هما العنصر الجوهريّ في الكرازة، وحولهما تدور سائر العناصر. بدأ المسيح فأتمّ خدمته كما ذُكرت مع بعض التوسّع (أع 10 :37-39أ؛ 13 :24؛ رج 2:22). ثمّ مات (أع 2:23؛ 3 :13-14؛ 5 :30؛ 10 :39؛ 13 :28؛ 1كور 15 :3ب). جُعل في القبر (أع 13:29؛ 1كور 15 :4أ). وقد أقامه الله (لو 24 :34أ؛ أع 2 :23-32أ؛ 3 :15؛ 4 :10؛ 5 :30؛ 10 :40؛ 13 :30؛ 1كور 15 :4ب). وتراءى للرسل (لو 24 :34ب؛ أع 10 :40ب-41؛ 13 :31؛ 1كور 15 :15) الذين صاروا شهوداً للقيامة (لو 24 :48؛ أع 1:8، 22؛ 2 :32؛ 3 :15؛ 4 :10؛ 5 :32؛ 10 :39-42؛ 13 :31؛ 1كور 15 :15). إن وظيفة الشاهد التي كلِّف بها الرسل هي جوهريّة بالنسبة إلى الكرازة. فإيمان المؤمنين يستند إلى شهادة الرسل. لهذا، حين أرادوا أن يُحلّوا واحدًا محلّ يهوذا، حدّد بطرس دور الذي سيكون "مختارًا" : أن يصير شاهدًا لقيامة يسوع مع سائر الرسل (أع 1:22).
ثالثًا : تمجيد يسوع. قام المسيح، وارتفع، ومجّد، فجلس عن يمين الله ((أع 2:33؛ أع 3:13؛ 5 :31؛ فل 2 :9). هذا العنصر جاء متأخّرًا في الكرازة، وهو يدلّ على القيامة والصعود حيث بلغ المسيح إلى السماء فسلَّم كلّ شيء إلى يدَي الآب.
رابعًا : عمل الروح القدس. إنّ الروح الذي وعد به يسوع المسيح (يو 15 :26؛ 16 :7) هو علامة قدرة الله. هو الذي به يفعل الله. هو الذي يفيضه المسيح بوفرة على جميع البشر (أع 2:33؛ 5 :32). وهو علامة على الأرض في مجد المسيح في السماء. وسفر الأعمال هو انعكاس متواصل لمعجزات الله (أع 2:11) بالعمل القدير الذي يجريه الروح القدس.
خامسًا : نداء إلى التوبة والاهتداء كلّ وعظ بشكل كرازة ينتهي بنداء إلى التوبة (أع 10:43؛ 13 :38). فالربّ يقدّم الغفران والروح القدس (5 :31-32) الذي هو وعد الخلاص (4 :12) "في الزمن الآتي". وهذا النداء إلى التوبة يصل إلى المعموديّة لغفران الخطايا (2 :38-39). في الختام نستطيع القول إنّ الكرازة بملكوت الله هي ملخّص لكرازة يسوع : توسّعوا فيها، أعادوا قراءتها وتفسيرها على ضوء الحدث الأساسيّ، حدث موت يسوع وقيامته، يسوع الناصريّ الذي هو المسيح وابن الله. هذا الحدث هو التفسير الوحيد لتعليم يسوع المسيح.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|