1) مكانة الكتاب المقدس في اللاهوت. وُلدت كنائس الاصلاح البروتستانتي في القرن الثاني عشر بشكل لا إرادي من قراءة الكتب المقدّسة. ذاك هو وضع الفودوا (أو : الفلدسيين، مؤسّسهم فلدس) في القرن الثاني عشر. ونجد هذه الاولويّة للكتاب المقدس لدى وكليف في القرن الرابع عشر، ولدى جان هوس في الخامس عشر. لم يكن يبحث كل هؤلاء عن قسمة المسيحيين أو تأسيس "طائفة جديدة". فمرتان لوتر، شأنه شأن فلدس، رأى ضرورة الاصلاح في الكنيسة. وتجذّرت حركة فلدس، شأنه شأن فرنسيس الأسيزي، في تقليد انجيلي جذريّ : إعلان الانجيل وحياة الفقر. ونتجت حركة لوتر عن تفسير المزامير (1513-1515) والرسالة إلى رومة (1515-1516) في دير الرهبانية الاوغسطينيّة. غير أن النتائج على مستوى النظام في هذا التجديد الروحيّ، كانت ثقيلة جدًا. لم يُعترف بالفودوا، وحُرم لوتر. وقد احتفظت مختلف العائلات البروتستانتية من أصولها، بطابع الديانة البيبليّة، وهذا ما يعتبرونه خاصًا بهم في تنوّع الاتجاهات المسيحيّة الحديثة.
نقرأ في اعتراف "لاروشيل" (في فرنسا) سنة 1559 في البند الخامس ما يلي : "هذه الكلمة هي قاعدة كل حقيقة، وتتضمّن كل ما هو ضروريّ لخدمة الله ولخلاصنا. اذن، لا يُسمح للبشر وحتى لا للملائكة أن يزيدوا عليها شيئًا أو ينتزعوا منها أو يبدّلوها. فينتج عن ذلك أنه لا القدم، ولا العادات، ولا العدد الكبير، ولا الحكمة البشريّة، ولا القضاء، ولا الأحكام، ولا الشرائع، ولا القرارات، ولا المجامع، ولا الرؤى، ولا المعجزات، تستطيع أن تتعارض مع الكتب المقدّسة بل يجب أن يُفحص كل شيء وينظّم ويصحّح بالنظر إلى الكتب المقدّسة".
على مستوى التاريخ واللاهوت. نُبرز في هذا الإطار أربع محطّات، الأولى تأكيد لوتر على أن الكتاب المقدس وحده هو مبدأ تفسير الكتاب المقدس. الكتاب يفسّر نفسه. الثانية هي محطة تحديد كلفين على أن الكتاب المقدس هو المبدأ اللاهوتيّ لكل الكتاب المقدس. والمحطة الثالثة، هي لجوء الحركات التقويّة ضدّ الارثوذكسيات. والرابعة : الكتاب المقدس هو إرث العوام ضد الاكليروس.
(أ) لوتر. منذ نشْر دراسات لوتر في وتنبرغ، في بداية القرن العشرين، سهل علينا أن نكتشف نقطة الانطلاق التفسيريّة واللاهوتيّة لحركته. فالموضوع المركزي هو موضوع برّ الله (كيف يبرّر الله الانسان). وكان الاهتزاز الاول مع تفسير مز 51. الله بارّ حين يحكم على خطيئة الانسان. والانسان بار حين يقرّ بحكم الله عليه. غير أن الانقلاب الحاسم لم يأت إلا بعد سنتين، وذلك لدى قراءة رو 1 :16-17 : إن بشرى الانجيل لا يمكن أن تكون بشرى دينونة، وبرّ الله ليس برّ عقاب بل برّ إله يبرّر.
وصارت الكرستولوجيا وطرح التبرير بالايمان (رو 1 :16-17. ثم 3:21-22. ثم رو 5 :1-2 في تفسير سنة 1515-1516) مفتاح تفسير الكتاب المقدّس والمسيحيّة. وهذا التأكيد هو هجوميّ. هو لا يتعارض مع تقليد الآباء والعصر الوسيط في حدّ ذاته، بل يبدو كمفتاح تفسير الكتاب المقدس. فلا يجب أن يُفهم الكتاب المقدس انطلاقًا من التقليد (يعارض لوتر قيمته مع أنه يعود إليه باستمرار)، بل انطلاقًا من الكتاب المقدس : هذا ما يقوله مبدأ "الكتاب وحده" لدى لوتر. نفهم هذا المبدأ في معنى تأويلي. فالكتاب المقدس هو معيار تفسير الكتاب المقدس. الكتاب يفسّر نفسه.
هذا يعني أنه في العمل اللاهوتي، لا تفسَّر النصوص الغامضة انطلاقًا من النصوص الواضحة والجليّة. وهكذا نجد عند لوتر نظام قاعدة داخلية لقراءة الكتاب المقدس. وهذه القاعدة تجد تعبيرًا عنها في مفهوم "القانون في القانون" (والقانون يعني لائحة الأسفار المقدسة). أي في المركز المميّز الذي منه ننطلق لنفهم الكل ونقيّمه. وهذا القانون في القانون ليس اقتطاعًا اعتباطيًا. فتكوينه ينتج عن نظرة لوتريّة تعتبر أن وظيفة الكتاب المقدس هي أن تشهد للمسيح المصلوب والحيّ.
إن سلطة الكتاب المقدس ترتبط بسلطة المسيح، بحيث إنه يكون للكتاب سلطة بقدر ما تدوّي كلمةُ المسيح. وبعبارة أخرى مبدأ "الكتاب وحده" هو حصيلة "المسيح وحده". أما نتائج هذا النموذج التأويلي فهي كثيرة. الأولى، سيكون الكتاب بعد اليوم المبدأ النقديّ للتقليد. فتفسير الكتاب لا يمكن ان يتمّ بحسب لوتر، انطلاقًا من التقليد. فبـما أن الكتاب ينال سلطته من المسيح، فهو يصبح المرجع الذي به نقيّم التقليد. لا شكّ في أن الجدال الأساسيّ بين الحركات الكاثوليكيّة والبروتستانيّة ليس على مستوى الرجوع إلى الكتاب المقدس، بل على هذا المبدأ التأويلي الذي فيه يعود البروتستانت إلى الكتب المقدّسة ضد التقليد. والنقطة الثانية التي هي موضوع جدال هي إكليزيولوجيّة. على مستوى الكنيسة. فالنتيجة المباشرة للكتاب كقاعدة ايمان، هي سلطة الكهنوت الذي يشمل المؤمنين. إن "الاكليروس" يحتفظون بسلطة زمنيّة في الكنيسة، ولكنهم لا يستطيعون أن يستندوا إلى سلطة روحيّة تميّزهم عن العوام.
(ب) كلفين. اختلفت نقطة الانطلاق عند كلفين عمّا هي عند لوثر. فقد كان كلفين من جيل تبع جيل لوتر. وثقافته هي ثقافة رجل أخذ بالدروس الانسانيّة والدروس القانونيّة. فلم يتطلّع إلى الكتاب من جهة غائيته اللاهوتيّة (أن يشهد للمسيح)، بل من جهة صفته كوثيقة. فالكتاب هو الوسيلة التي بها يعرّف الله بنفسه إلى البشر. وقد أوحى لهم بالكتب المقدسة كل ما هو ضروريّ لخلاصهم. أما نتائج هذه الوجهة التأويليّة فهي التالية.
بادئ ذي بدء يأخذ الكتاب سلطته من جذوره، أي من الله نفسه. والنتيجة هي أنه في كليّته قاعدة حياة، لا انطلاقًا من مركز آخر. فمجمل العهد القديم والعهد الجديد هو تعبير عن مشيئة الله. وكل تكوين للائحة قانونيّة في القانون لا يمكن إلاّ أن يكون اعتباطيًا، فيُنسب إلى الاستنباطات البشريّة. فتتخذ عبارة "الكتاب وحده" من هنا معنى جديدًا. فليست المسألة مسألة تفسير الكتاب المقدس انطلاقًا من ذاته (أي من الكتاب)، بل مسألة الأخذ على محمل الجد الكتاب بكل أجزائه. ولهذا تصير عبارة "الكتاب وحده" مرادفة لعبارة "الكتاب كله". وهكذا قد تتوجّه الحرب إلى النظرة اللوثريّة.
ولكن مع مجيء الأصوليّة، صار هذا الجدال حارًا في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. فحرب كلفين، شأنها شأن حرب لوتر، تتوجّه على التقليد الكاثوليكيّ. ومجال الحرب لم يعد مبادئ قراءة الكتاب المقدس، بل موضع الوحي. فهناك اتهام بأن المسيحيّة ضحّت بالكتب المقدسة ولم تأخذها على محمل الجدّ، مع أن الله أراد أن يعرّف مشيئته بهذه الكتب. وأحلّوا محلّ هذه الكتب تعاليم مسيحيّة. لا ينكر كلفين (ولا لوثر) قيمة تقليد الآباء والعصر الوسيط، وهو يورده مراراً. بل يتهمه بأنه تعامل بحرّية مفرطة مع الوحي البيبلي. جرّده من عناصره وأحل محلّها نظمه الخاصّة. تطلّع كلفين، شأنه شأن لوتر، إلى الكتاب المقدس كمرجع يُشرف على التقليد والتاريخ. ولهذا شدّد على مفهوم "الكتاب كله".
ولكن كلفين سيسير ضد مبادئه، فيجعل هو أيضًا تراتبيّة في الفرائض البيبليّة. هو أيضًا أهمل بعض الأمور. وما يميّز مكانة البيبليا في اللاهوت الكلفيني، هو العودة المستمرّة إلى العهد القديم لتأسيس العلم الاخلاقي والاكليزيولوجيا. ما يميزه أيضًا هو محاولته قراءة النصوص قراءة حرفيّة، قراءة ورثها من الحركة الثقافيّة التي أخذها من نهضة القرن السادس عشر في أوروبا. ولكنه في الواقع، أخذ الطريق المعاكس لمقاربات لوتر الكرستولوجيّة. وأخيرًا، ما يميّز التأويل عند هذين المصلحين (لوتر، كلفين) هو الوظيفة المعطاة للشريعة في لاهوتهما. فلوتر لا يعرفها إلا استعمالاً مدنياً واستعمالاً لاهوتيًا. فالشريعة تكشف للانسان ضعفًا يجد فيه نفسه، بحيث لا يستطيع أن يحقّق مشيئة الله، وضرورة البرّ المجاني من الله. هذا من جهة الاستعمال اللاهوتي. ومن جهة الاستعمال المدني يعود المؤمن إلى الشريعة كما إلى نظام اجتماعيّ يخضع له الجميع. أما كلفين فزاد استعمالاً ثالثًا استقى معظم عناصره من العهد القديم يقول بالشريعة كمضمون الاخلاقيّة المسيحيّة.
(ج) التقويون. حركة دينيّة نشأت في المانيا في القرن السابع عشر، وأكّدت على الخبرة الدينيّة الشخصيّة، وعلى دراسة الكتاب المقدّس.
إن المبدأ الذي يجعل من الكتاب المقدس المبدأ النقديّ المسيحيّ، قد عاد إليه البروتستانت دومًا في تاريخهم. هذا ما حدث على عتبة القرن العشرين حين قام اللاهوت الجدليّ في بدايته بانتقاد الارث الليبرالي (المتسامح على مستوى الفكر) الالماني. وذلك كان الوضعَ قبل ذلك الوقت في بدايات القرن 17-18 بين التقويّة والارثوذكسيات اللوتريّة والكلفينيّة. فالبحث البيبلي المستقلّ عن اللاهوت العقائدي، قد اغتذى بعلم الفقه والتاريخ. وهكذا وجد نفسه حرًا لكي ينطلق في حركة إصلاح جديد.
وهذا الاصلاح توجّه ضد الاشكال العقائديّة والنظميّة التي اتخذتها التقاليد البروتستانتية. أما الفكرة فتدور حول ولادة يجب أن تتمّ بالضرورة عبر إيمان الفرد الشخصي. أما المواضيع فهي : معارضة الحياة للتعليم، معارضة الروح للمؤسّسة، معارضة القوّة للظاهر. والابعاد الذاتيّة والشخصيّة المرتبطة بتقييم الاخوّة الجماعيّة، هي الطريق إلى عودة مُثُل المسيحيّة الأولى. وقد عارضت التقويّة "اللاهوت المدرسي" الموروث من القرون الوسطى، "بلاهوت بيبلي" يركّز بشكل قويّ على العهد الجديد، ولا يهتمّ بمعنى النصوص، بل بتطبيقها المباشر في حياة المؤمن. وقد كان لهذا التجديد اهميّة كبيرة، فحوّل بشكل ملفت تاريخ البروتستانتية فيما بعد. وفي هذا التجديد وجدت حركاتُ اليقظة جذورها، وكذلك الشيع التي خرجت من البروتستانتيّة.
(د) البيبليا ينبوع اللاهوت. صارت البيبليا المرجع المستمرّ لصياغة النظرات اللاهوتيّة البروتستانتيّة. وهذا ما نلاحظه مثلاً عند كارل بارث في "عقائديّته الكنسيّة" التي بُنيت بحسب تصميم منهجيّ لتاريخ الخلاص. ولكنها تكوّنت في ذاتها في تفسير بيبليّ. و"عقائديّة الايمان المسيحي" (غرهارد إبالنغ) دخلت في نظرة موروثة عن لوثر والفيلسوف كيركغارد، ولكنها تسلّمت بنيتها من بحث تفسيريّ في العهد الجديد. وهكذا يتواصل تقليد يرى أن مبدأ اللاهوت ومرجعه هما الكتاب المقدس الذي ندرسه حسب مقاربات مختلفة.
ومتطلّبات بحث لاهوتيّ يستند إلى الكتاب المقدس، خلق مناخًا لمشاركة العوام في التعبير عن المسيحيّة في العالم المعاصر، وفي خلق تيارات مستقلّة تستلهم البروتستانتيّة في الفكر الاجتماعي وفي الحياة.
2) أعمال حول البيبليا
إن تنوّع البروتستانتيّة جعل أعمالها تتنوّع في المجال الكتابي. ونحن نجد ثلاثة أنماط من المقاربات في العصور الحديثة. وكل نمط يرتبط بفرضيات تأويلية، بمناهج، بمدارس.
النمط الأول ورث التقليد الكلفيني. توسّع توسعًا خاصًا في العالم الفرنسي والانكليزي. أما أساسه فطرْحُ كلفين الذي يرى في الكتاب الوسيلة التي اختارها الله لكي يعرّفنا مشيئته. فمع إلهام الروح القدس، يجد الانسان في الكتاب وحيه، وبالتالي طريق خلاصه. وقد وجدت هذه المقاربةُ الأولى تعبيرًا عنها لدى اللاهوتي السويسراني لويس غاوسن (1790-1863). هذه القراءة التي سُمّيت "أصوليّة" كانت في البدء تعبيرًا عن ردّة فعل حديثة ضدّ مقاربة ثانية ورثت التقليد اللوثري في جناحه الليبيرالي : يقول هذا الطرح بأن الكتاب المقدس يتسلّم سلطته من المسيح الذي يشهد له. وهكذا يجعل من الكرستولوجيا مبدأ البيبليا التفسيريّ. إذن نحن أمام قراءة نقديّة للكتاب المقدس. لقد فُتحت الطريق أمام ما سمّي "القراءة التاريخيّة النقديّة". والتيار الثالث يعبر تاريخ البروتستانتيّة ويتميّز بمقاربة "كرازيّة" للبيبليا. هذا ما قامت به الحركات "القويمة" في البروتستانتية، في أساس حركة تجديد بيبليّ ميّز البروتستانتيّة الفرنكوفونيّة في حقبة ما بعد الحرب.
(أ) الاصولية. من الواضح أنه لا يحقّ لنا أن نصوّر الاصوليّة انطلاقًا من مظاهرها المتطرّفة. فالمقاربة الحرفيّة من البيبليا ككتاب ملهَم، قادت المؤمنين خصوصًا في الولايات المتحدة، إلى رفضٍ لتوسّع البحث العلمي ومعارضة ظلاميّة (تعارض التقدّم وانتشار المعرفة) لنظريات التطوّر. وانطلقت هذه الاصوليّة من وجهة تأويليّة تقول إن الكتاب هو بحرفيّته كلام الله بالذات (هو قاله حرفيا، كتبه حرفًا بعد حرف وكأنه أنزل). أما الكتّاب فهم أدوات أمينة بين يدي الله. فينتج عن هذا أن البيبليا هي مثل كاتبها ( الله) معصومة عن الخطأ في كل المجالات (حتى على مستوى التاريخ والجغرافيا).
لا شكّ في أن هذا الطرح الأخير يتعارض مع نظرة كلفين الذي يقول بأن الله لا يكشف للانسان إلا ما هو مفيد من أجل خلاصه، وبالتالي أن لا سلطة للكتاب إلا في مجال الايمان. ومع ذلك، فهذا الطرح يتحدّد موقعه في إرث المصلحين بقدر ما يدفع مبدأ "الكتاب وحده" إلى أقصى نتائجه.
إن أهميّة هذه المقاربة في تاريخ البروتستانتيّة الحديثة والمعاصرة، كبيرة جدًا. فقد فرضت نفسها ببساطتها ووضوحها. فقوّتُها قوّةُ نهج عقائدي مبنيّ بناء محكمًا، وهو جدير بأن يتّخذ حجمًا جيدًا في محيطات واسعة. بما أن الله يتكلّم في البيبليا، فيجب أن تُفهم البيبليا بشكل مباشر، وهي أفضل وسيلة من أجل التبشير. هنا نفهم دور الجمعيّات البيبليّة (جمعيّات الكتاب المقدس) الذين كرّسوا نفوسهم لترجمة الكتاب المقدس ونشره بهدف تبشيريّ. كما نجد حركات عديدة دعت إلى قراءة الكتاب المقدس كله (خلال سنة واحدة مثلاً). نحن نخطئ إن اعتقدنا أن الاصوليّة جناح في البروتستانتيّة. فالمقاربة الاصوليّة قد طبعت بطابعها العميق لغة البروتستانتيّة وتقاليدها وعاداتها، أقلّه في الحركات التي تعود إلى الكلفينيّة. نجد فيها تعلّقًا بالكتاب واندفاعًا لقراءة الكتاب لدى العوام، وليس فقط لدى الاخصّائيّين والكهنة، ومماهاة شعبيّة بين الوحي والكتاب المقدس. ولكن هل يستطيع الكتاب البشري أن يحصر الوحي كله في كتاب؟
(ب) القراءة التاريخيّة النقديّة هنا نفهم أن البحث البيبليّ لم يتمّ في الحركات الاصوليّة. إنه نتيجة مقاربة تاريخيّة ونقديّة بدأ فيها العالم البروتستانتي منذ القرن الثامن عشر. وقد تكرّس العمل خصوصًا على البنتاتوكس (أسفار موسى الخمسة) والأناجيل. ونجد أعمال الليبراليّة الالمانيّة في خلفيّة مجمل البحث العلمي الحديث والمعاصر. أما فرضيّة القراءة التاريخيّة النقدية، فتعتبر أن النصوص البيبلية هي جزء من الأدب العالميّ. فلماذا نقرأها بطريقة تختلف عن تلك المستعملة لقراءة سائر النصوص الأدبيّة. وهكذا طبّقت تطبيقًا جذريًا على نصوص الكتاب المقدس أساليب أدبيّة ودينيّة.
إن المقاربة التاريخيّة النقديّة لا تُنكر إلهام الكتاب المقدس، الذي يتعلّق به الاصوليّون. غير أنها تعتبر أن الله عرّف بنفسه في احتماليّة (ضدّ ضروريّة الله. فقد وُجد الكتاب وكان وقت لم يوجد فيه) كتابات مختلفة يجب أن تُفهم وتفسَّر في سياق تدلّ عليه حين وصلت إلى البشر. وواقع التجذّر التاريخيّ الذي تحتويه هذه النصوص، يجعل من الصعب الأخذ بمضمونها بشكل مباشر، فيتطلّب بساطة تأويل النهج، وتفسير النصوص. وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نعتبر مباشرة الكتاب المقدس ككلمة الله. بل إن الكتاب يشهد على كلمة أستطيع أن أستخدمها في نصّ موضوع أمامي، أو أتركها تتوجّه إليّ في حياتي اليوميّة. وهكذا يلتقي التفسير الوجوديّ مع الطرح الكلفيني حول استنارة باطنيّة تأتينا من الروح القدس.
هنا تأتي محاولة كانت مثار جدل : نزع السطر، إبعاد الميتولوجيا عن النصوص، كما قال رودلف بولتمان (1884-1976). فهذه النظرية هي بحسب بولتمان نتيجة متطلّبة التفسير الوجودي. فالميتولوجيا هي تعبير عن توضيع (الربط بواقع خارجي، إظهاره بشكل ملموس) العالم. إذ تحاول السطر أن تعبّر عن الله الذي هو الآخر الآخر، فالميتولوجيا (علم السطر) تحاول أن تنّظم العالم الآخر وتجعله في أطُر وقوانين. إنها تقابل حاجة تدعو الانسان إلى إدخال الأحداث في نهج تفسيريّ بحيث يسيطر عليها. وكان مشروع بولتمان بأن ينزع عن نصوص العهد الجديد تعابيرها السطريّة. تلك هي مهمّة تفسير النصّ البيبليّ : التعريف بالنداء الذي يحمله. فقارئ العهد الجديد لا يسعى إلى "وضع يده" على الله لكي يمتلكه، عبر نظام من المعتقدات، بل أن يترك الله يُدركه من خلال الكتاب المقدس.
لم تكن المقاربة التاريخيّة النقديّة بهذه الأهميّة في تاريخ البروتستانتية مع أنها غذّت روحيًا عددًا من المسيحيين المهتمّين بفهم إيمانهم. هي لم تصل إلى الشعب. بل ظلّت في الأوساط العلميّة. ومع ذلك، كانت إحدى الحركات في التجدّد البيبلي داخل التقليد الكاثوليكيّ.
وقد انطبع البحث التاريخيّ النقديّ، خلال هذا القرن، ببعض مدارس تميّزت بفرضيّاتها ومناهجها : تاريخ الفنون الادبيّة. تاريخ التدوين أو التاريخ التدويني. تاريخ التقاليد. وانفتحت اتجاهات بحث جديدة في الولايات المتحدة بشكل خاص في مجال التحليل السرديّ، والاجتماعي، والبلاغيّ. وقد حاولت التحاليل السرديّة تفسير الأخبار (الروايات) انطلاقًا من العقدة، من ارتباط الخبر بالسياق. ونظرت الدراسات الاجتماعيّة والبلاغيّة إلى بنية النص، إلى ما بعد البرهان في الإطار الديني والاقتصادي والايديولوجي والسياسيّ والاجتماعيّ.
(ج) التقليد الكرازي. إن تفسير كارل بارت (1886-1968) حول الرسالة إلى رومة كان النموذج في هذه المقاربة الثالثة للكتاب المقدس. كان تفسيرُه ردّة فعل ضد الليبراليّة الالمانيّة. وقد تمّ هذا التفسير انطلاقًا من نظرة لاهوتيّة ثابتة. الله هو الآخر الآخر. وكلمته التي تجتاح اللحظة الحاضرة، هي في الوقت عينه حكمٌ على الانسان وعلى خلاصه. لأن جواب الله للانسان يتجلّى في رفض ديانته ومحاولاته البشريّة ليعيد الايمان إلى مستوى العواطف البشريّة أو توقه إلى البرّ والعدالة. هذه النظرة إلى الله الذي هو الآخر تستعيد نظرة "مجد الله وحده" في لغة مغايرة وفي نظرة جديدة.
لا علاقة لمحاولة كارل بارت هذه بالبحث التاريخيّ النقدي. ولا هي تتوقّف عند عمل تأويليّ دقيق جدًا. فالمهمّ هو اعلان كلام المسيح الحقّ ونقله إلى الآخرين. وكانت مدرسة في خطّه لا تتوخّى قبل كل شيء فهم الكتاب بالمناهج التأويليّة كما في مختلف مدارس التاريخ النقدي، بل كرازة الكلمة الحيّة.
ترك هذا التيّارُ البحثَ التاريخيّ، فبدا قريبًا من التيّار الأصولي. ولكنه اختلف عن هذا الأخير، حين أكّد حريّة الكلمة التي لا تنحصر في نصّ مكتوب وجامد. ينتج عن هذا أن الكتاب المقدس لا يُعتبر بشكل مباشر كلام الله، حسب نموذج الفهم الأصولي، بل مرآته وصداه. فكلام الله نفسه هو حدث يجتاح العالم والتاريخ. فلا بدّ لنا من أن نكتشفه ونلقي عليه الضوء. وبما أن الكلمة تعطي الكتابَ معناه، برِّرت لدى بارت القراءةُ العقائديّة. أجل، إن فهمًا للكرستولوجيا وعلاقة الله بالانسان، يُحدّد التعامل مع النصوص البيبليّة وتفسيرها الشرعيّ.
(د) تنوّع المقاربات وتلاقيها. إن مختلف هذه المقاربات والجدالات التي ارتبطت بعضها ببعض، تدلّ على أهميّة العودة إلى البيبليا في البروتستانتية. وشعرَ بعضُهم بالطابع الخارجيّ للكتاب المقدّس بالنسبة إلى الضمير البشريّ، فعبّروا عن مراعاتهم الدقيقة للنصّ الكتابي ككل، واقتنع آخرون بالحريّة النقديّة التي تسمح بها الحريّة المسيحيّة وتقود إليها، فاعتبروا أنه من المهم أن تخضع قراءتُهم لمتطلّبات الأساليب المعاصرة لقراءة النصوص. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، اختلفت طرق عودتهم إلى البيبليا من أجل خيارات خلقيّة. تمسّكت فئة بحرفيّة الفرائض الكتابيّة. وتطلّعت فئة آخرى إلى أهميّة الحوار مع مقاربات العلوم المعاصرة حول الكون والانسان.
رأى البعض أن الإنجيل هو المكان الوحيد من أجل تعليم خلقي مسيحيّ خاص. وتيقّن آخرون أنه يحرّرنا لكي نقوم بخيارات دنيويّة مسؤولة. إن الوجهات التي يدافعون عنه، تنبع من نظرتهم إلى مهمّة التفسير. هناك من اعتبر أن الكتاب كله يقدّم القاعدة من أجل الحياة. وآخرون اعتبروا نقطة الانطلاق الكرستولوجيا وما يتبعها من سوتيريولوجيا، أي التبرير بالايمان. مثل هذا المحور شكَّل في قلب الكتاب المقدس "قانونًا في القانون"، قاعدة في قاعدة، أي مبدأ خيار يميّز مختلف التقاليد والمدارس اللاهوتيّة المجتمعة حول الكتب المقدسة. والاهميّة المعطاة للعهد القديم هي ما يميّز هذه الاتجاهات. فالخط الكلفيني يعتبره وحيًا، شأنه شأن العهد الجديد. وعليه يؤسّس الاخلاقيّة والاكليزيولوجيا. أما الخط اللوتريّ فيرى في العهد القديم شريعة تصل بنا إلى الانجيل، الذي يحافظ على قوّته المحرِّرة لئلاّ يعود هو نفسه شريعة.
ومع هذه الاختلافات، تدلّ هذه المقاربات على اهتمام كنائس الاصلاح بالكتاب المقدس الذي يُقرأ كشهادة عن وعد يعطي المسيحي حريّة ضدّ ذاته، حريّة في حياته اليوميّة التي تهدّدها حتميات ثقافيّة ودينيّة وعلميّة، حريّة هي مقاومة لكل سلطة روحيّة تحاول أن تكبّل ضميره.
3) الكتاب المقدّس في الحياة الروحيّة
لا نتحدّث هنا عن الليتورجيا التي تبدو ثانويّة في التقليد البروتستانتي بشكل عام، والكلفيني بشكل خاص. كما لا نتحدّث أولاً عن حياة الجماعة والكنيسة، وإن كانت قراءة الكتاب والتبشير به يحتلاّن في شعائر العبادة مكانة مرموقة جدًا بحيث يعتبر بعضهم أن اجتماع الأحد هو "العظة". فالمطالبة بـ "الكتاب وحده"، واستقلاليّة المسيحيّ تجاه كل سلطة روحيّة، قد ورثتهما البروتستانتيّة فتجذّرتا في ضميرها في العمق. ونحن قبل أن نتوقّف عند دور البيبليا في شعائر العبادة، وفي الدراسات البيبليّة، نتحدّث عن القراءة الكتابيّة داخل البيت وفي العائلة.
(أ) قراء البيبليا في البيوت. بقدر ما يعبّر الكاثوليكي عن تعلّقه بايمانه في مشاركته في القداس وسائر الاسرار، فتعلّق البروتستانتي يظهر في قراءته المنظّمة للبيبليا في بيته. وقد تكون المطالعة شخصيّة أو عائليّة. ويمكن أن تكون محور عبادة يوميّة، أو تنحصر في قراءةِ مقطوعةٍ من الكتاب وتفسيرها. هذه الممارسة التي انتشرت انتشارًا واسعًا في المحيط البروتستانتي، ولّدت عددًا كبيرًا من الكتب التي توجّه المؤمن في مطالعته اليوميّة للبيبليا. ونلاحظ في هذا المجال الدور الذي لعبته الحركات التقويّة والاصوليّة مثل "عصبة قراءة البيبليا" التي تهيّئ دلائل لجميع الأعمال، وتنظّم المخيّمات للشبيبة لتشجِّع على قراءة الكتاب قراءة شخصيّة. وهناك تجمّعات من العلمانيين مثل الوحدات المسيحيّة وغيرها، تنتظر من اللاهوتيين والرعاة تشجيعًا ومساندة على مستوى قراءة الكتاب. ودورهم يقوم بالمشاركة في معرفتهم، بطرح الأسئلة وتكوين اليقينات. لا شكّ في أن المؤمن يفرح بشروح تصل إليه. ولكن لقاءه المنتظم مع البيبليا هو الذي يبني حياته الروحيّة ويغذيّها. هو يعاشر يومًا بعد يوم كلام الربّ الذي هو السلطة الوحيدة له. وأهميّة هذا التقليد يساعدنا على فهم الاتجاه نحو الفرديّة الذي يميّز بعض المرّات البروتستانتيّة. غير أنه يجعل من أبناء الرعيّة مشاركين في البحث اللاهوتيّ، كما يكوّن القوى الروحيّة الكبرى في كنائس الاصلاح.
(ب) البيبليا في شعائر العبادة. تشكّل قراءة الكتاب والوعظ محور العبادة البروتستانتيّة ولا سيّما في البلدان الفرنكوفونيّة والانكليزيّة. وكانت كتب لوتر وكلفين وزونغلي التي شكلّت تفاسير كتابيّة في لغة شعبيّة، مثل كتاب تعليم مسيحيّ للمؤمنين. ولكن مع الزمن، تبدلّت الاهتمامات. ففي الحقبة الليبراليّة الكبرى، صارت العظة محاضرة ثقافيّة ذات مواضيع دينيّة. ولكن بقيت مكانة البيبليا هي هي، تُقرأ قراءة علنيّة ويُكرز بها على أنها كلمة تتوجّه اليوم إلى السامعين.
تحدّث اللوتريون عن حضورين للمسيح الحيّ : في الكرازة، في العشاء السريّ. أما الكلفينيون فشدّدوا من جهتهم على طابع يربط القراءة والشرح باستنارة الروح القدس. ولكن في الحالتين، نجد تشديدًا على وحي الله كما يصل إلينا، على الحدث المحرّر في اللقاء مع المسيح.
أما النتيجة الاكليزيولوجيّة لهذه النظرة، فهي أن الكنيسة تتجذّر بشكل رئيسيّ بحدث. هي تتفجّر وتُوجد حين يُعلن الانجيل ويُسمَع عبر الكرازة والأسرار. هي لا تشكّل أولاً مؤسّسة، جماعة منظّمة، رابطة مبنيّة بناء محكمًا. هي في أساسها وقبل كل شيء، سماع لكلام الله في الايمان. وهذا ما يتمّ في كل مرّة تُعلن الكلمة وتُقبل. وقد قال لوتر سنة 1521 : "ليس هناك كلام الله لأن الكنيسة تتكلّم. ولكن حين يقال الكلام توجد الكنيسة. هي لا تخلق كلام الله، بل كلام الله يخلقها".
(ج) الدراسة البيبليّة. ولكن إعلان الانجيل لا ينحصر في شعائر العبادة. بل يجد له مكانًا إضافيًا في الممارسة المعروفة للدراسة البيبليّة. وهذه الدراسة تستطيع أن تتّخذ أشكالاً مختلفة. وأكثرها انتشارًا يجد إطاره في حياة الرعايا، حيث يبدو بشكل تهيئة للعظة، إضافة وتعميقًا لها. والاوساط المسماة "انجيليّة" التي خرجت من التقويّة أو الاصوليّة وحركة التجديد البيبلي، أعطت اندفاعًا خاصًا لهذه "الدراسة" في البروتستانتيّة الفرنكوفونيّة. فدراسة البيبليا لم تعد تُعتبر ممارسة داخل الكنائس، بل وسيلة لإعلان الانجيل ونشره. ويرافقها حملات أنجلة (أعلان الانجيل) وتجمّعات ضخمة. وقد عملت جمعيّات الكتاب المقدس الكثير في ترجمة البيبليا إلى كل اللغات، كما في انتشارها في الاوساط الشعبيّة. و"عصبة قراءة البيبليا" و"التجديد البيبلي" قد تكرّس كل في نظرته الخاصة، من أجل تقوية تعلّق البروتستانت بالكتاب كرفيق دائم لهم، ومن أجل تكوين نساء ورجال للخدمة في حياة الكنائس وفي حركات التضامن. وتكرّست العصبة بشكل خاص لأنجلة الشبّان والمراهقين، ساعة وجدت الحركاتُ المنبثقة من التجدّد البيبلي، دعوتَها في حوار مع الثقافات والحضارات.`
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|