1) مكانة البيبليا في اللاهوت
لم تنسَ الكنيسة الكاثوليكيّة يومًا أن الكتاب المقدس هو أحد المنابع الجوهريّة للايمان. وفي ما يخصّ البيبليا، والالهام، وعدم الخطأ في النصّ المقدّس الذي يحمل الوحي الالهي، والقانون (أو لائحة الكتب المقدسة) وسلطة مختلف الأسفار المقدّسة، وصحّة الترجمات، في كل هذا عاد اللاهوت الكاثوليكي في خطوطه الكبرى إلى الزمن الرسولي وآباء الكنيسة. غير أن الكثلكة تعتبر أن الكتاب المقدّس ليس مستودع الايمان الوحيد. فكلمة الله تمرّ أيضًا في تقليد الكنيسة المعلّمة، وهو تقليد يكفله الطابع الرسوليّ للكنيسة، وتنشره الكنيسة، بطرق متعدّدة : تعليم السلطة التعليميّة العاديّة أو الخارقة، الليتورجيا، كتب الآباء، الفنّ المسيحيّ. وهذا التقليد هو سابق للكتاب نفسه. إنه حافظ الكتاب ومكمّله بشكل لا يُستغنى عنه. في الواقع، ترى الكنيسة أنه وُجد منذ نهاية القرن الأول خصب متبادل بين التقليد والكتاب. يغتذي الكتاب من التقليد الذي يضيء عليه بالنور الوحيد الذي يكفل تفسيره وفهمه بالطريقة الصحيحة.
ومع أن الكاثوليك لم ينقطعوا يومًا انقطاعًا كليًا عن الكتب المقدّسة، إلا أن البيبليا خسرت بصورة متنامية مكانتها في الكنيسة منذ القرون الوسطى والقرن السادس عشر، خسرت مكانتها في الروحيات واللاهوت والليتورجيا. وهذا التراجع كان علامة تدلّ على أن الروح المسيحيّة صارت باهتة، وأن قوّة التعليم الانجيلي صارت ضعيفة.
وكانت ردّة الاصلاح البروتستانتي على هذا الوضع عنيفة. فأعلنوا العودة إلى البيبليا ضدّ ضلال تعليم لاهوتي اعتبروه منحطًا، فحرّروا الكتاب من إطاره الليتورجيّ ومن كل إكراه تفسيريّ يفرضه التقليد والسلطة التعليميّة. تجاه هذه النظرية، نظرية "الكتاب وحده"، افتتح البابا بولس الثالث في 13 كانون الأول 1545 مجمع ترنتو (أو المجمع التريدنتيني) الذي امتدّت أعماله 18 سنة. حاول هذا المجمع أن يحافظ على أولويّة وحقوق التقليد، ونظّم استعمال البيبليا وتفسيرها لدى الشعب المسيحيّ. وفي الدورة الرابعة (8 نيسان 1546) جعل الآباء التقاليد الرسولية مع الكتب المقدّسة كحاملة انجيل الخلاص في الكنيسة. "تقوم الرسالة التعليميّة في الكنيسة بالسهر على كمال هذين المرجعين في إيماننا : الكتاب المقدّس والتقليد".
واستفاد الآباء من المناسبة ليحدّدوا من جديد قانون (لائحة) الأسفار المقدّسة (دون التمييز الذي ادخله سكستوس السياناوي بين الأسفار القانونيّة الأولى التي وصلت الينا في العبرية أو الارامية، والأسفار القانونيّة الثانية التي أخذت عن اليونانيّة). لم تمنع الكنيسة بشكل قاطع العودة إلى النصوص الأصليّة في الكتاب، ولكنها أعلنت أن "الفولغاتا" (اللاتينيّة الشعبيّة) هي الترجمة الوحيدة الممهورة بختم الصحة. هي ترجمة أكيدة رسميّة، ولا تشكّل خطرًا في الاستعمال اللاهوتي والكرازي والفقاهي.
أما تفسير البيبليا فيجب أن يسير مع توافق آباء الكنيسة وتعليم السلطة التعليميّة. فالكنيسة التي نالت أنوار الروح القدس الموعود به في يو 14 :26، قد نالت وحدها النعمة الضروريّة لتفسير الكتاب. وانطلاقًا من هذا المبدأ، منع البابا بولس الرابع سنة 1564، قراءة ترجمات البيبليا في اللغات المحكيّة (تُحصر القراءة في اللاتينيّة) إن لم ترافقها حواشٍ وشروح أمينة لتعليم الكنيسة. وللسبب عينه، شحب البابا بيوس السابع سنة 1816 نشرَ الكتاب المقدس بواسطة الجمعيات البيبليّة غير الكاثوليكيّة. وعلى خطّه سار ليون الثاني عشر سنة 1824، وغريغوريوس السادس عشر سنة 1844، وبيوس التاسع سنة 1846.
بالاضافة إلى ذلك، أعلن مجمع ترنتو في دورته الخامسة (17 حزيران 1546)، قرارًا هامًا جدًا حول "تعليم الكتاب المقدّس والفنون الحرّة". لكي لا يُهمل كنزُ الأسفار المقدسة الذي سلّمه الروح إلى البشر، فرض هذا القرارُ تعليمَ الكتاب المقدّس في الكاتدرائيات، وطلب من المعلّمين أن يقوموا بهذا العمل بعناية فائقة. وكذا كانت علاقة لا تنفصم بين درس اللاهوت ودرس الكتاب. واهتمّ المجمع بالتقليد الكتابي المعطى للاكليروس في الجماعات الرهبانيّة، فسهر أيضًا على أن يُعطى هذا التقليد بشكل مجانيّ، ويكون على مستوى الشعب. وأخيرًا ذكّر المجمعُ الاساقفة وكل الكهنة الابرشيين، بواجب تعليم إنجيل يسوع المسيح بالكرازة التي أُهملت أو قام بها الرهبان.
وهكذا وقف المجمع التريدنتينيّ تجاه قراءة يدعو إليها الاصلاح البروتستانتي بشكل فرديّ. فدعا إلى قراءة "جماعيّة" (كنسيّة) للبيبليا : في الكنيسة وبالكنيسة. وهذه القراءة هي الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها تجني (الكنيسة) جميع الثمار التي يمكن أن تنتظرها. أما تعليم مجمع ترنتو الذي نُشر سنة 1566 بأمر البابا بيوس الخامس، فقدّم عرضًا منهجيًا لتعليم الكتب المقدسة على ضوء التقليد. أما سبب كل هذه الاجراءات، فهو حماية المؤمنين من "الهراطقة". ولكن لم يظهر شيء يدعو المؤمنين إلى الحوار تجاه قراءة الكتب المقدسة.
ولكن النتائج جاءت أكثر جذريّة مما أرادها آباء المجمع. فما عاد الكاثوليك إجمالاً يهتمّون بالكتاب المقدس ولا سيّمـا العهد القديم. وضاعت عادةُ قراءة البيبليا من القرن 17 إلى القرن 19، أقلّه بشكل فردي وخارج الاحتفالات الليتورجية. لم يعد الكتاب الذي يرافق المؤمن هو كلمة الله، بل كتب روحيّة وعباديّة، وفي رأسها كتاب الاقتداء بالمسيح، الذي يعلن مع ذلك أن جسد المسيح والكتاب المقدس ضروريان معًا للنفس المؤمنة.
سنة 1713، اعلن اكلمنضوس الحاديّ عشر في براءة عنوانها "الوحيد" أن قراءة الكتاب المقدس ليست مفروضة على جميع المؤمنين. كان كلامه ردًا على رأي جنساني يقول إن قراءة الكتاب ضروريّة للخلاص. وأرسل بيوس السادس سنة 1794 التحذير عينه في دستور "مبدأ الايمان". لا شكّ في أن مثل هذا الكلام لا يمنع من قراءة الكتاب، ولكنه لا يشجّع في أي حال على أخذ غذاء كلام الله من الكتاب المقدس. وفي القرن التاسع عشر، جاء التفحّص الحرّ (من كل سلطة تعليميّة) والعقلانيّة الحديثة (التي لا تعترف إلا بسلطة العقل) والنقد الهدّام، فكثُرت تحذيرات البابوات من قراءة الكتاب وتفسيره دون مراقبة الكنيسة. في سنة 1779، شجب بيوس السادس من أنكر تطبيقَ نبوءة اشعيا عن عمانوئيل على المسيح. وفي مجموعة الاسئلة التي أجاب عليها بيوس التاسع (سيلابوس) في 8 كانون الاول سنة 1864، ورد قول يحرم جمعيات الكتاب المقدّس وعملها. أما الفصل الثاني في الدستور العقائدي "في الايمان الكاثوليكي" الذي وافق عليه الآباء في 24 نيسان 1870، خلال الدورة المثالثة من المجمع الفاتيكاني الأول، فقد تكرّس جزء منه لمعرفة الوحي بواسطة الكتب المقدسة التي نتقرّب منها بروح الكنيسة، وبعيدًا عن تطرفّات النقد النصوصيّ.
غير أن الحكم الأقسى على التأويل العلمي الذي بدا خاضعًا للعقلانيّة الهدّامة بنقدها، جاء من البابا بيوس العاشر في رسالته "رعاية قطيع الرب" (8 أيلول 1907). ففي المقاطع 41-46، شجب البابا بالجملة جميع ضلالات "التجديديين"، فشكل كلامُه هجومًا على المبادئ الفلسفيّة والعقلانيّة والأمثليّة التي بدا النقد التاريخيّ وكأنه يريد أن يفرضها على "الكتاب المقدّس" وعلى دراسة البيبليا. وندّد بتجربة تحاول أن "ترى في الكتب المقدّسة تطورةً حيويًا يوازي تطوّر الايمان ويستتبعه".
وبموازاة ردّات الفعل هذه الدفاعيّة، فرحت السلطة التعليميّة باهتمام المؤمنين العلماء منهم، بقراءة الكتاب ودراسته. فرسالة لاون الثالث عشر (عناية الله) التي نُشرت في 18 تشرين الثاني 1893، شكّلت وثيقة أساسيّة من أجل الدراسات البيبلية، فعالجت مسألة الوحي بطريقة لم يكن لها مثيل من قبل. ونشر بندكتوس الخامس عشر سنة 1920 بمناسبة المئويّة الخامسة لموت ايرونيموس رسالته "الروح القدس"، فشجّع بشكل لافت الاخصائيين على البحث، والمؤمنين على الفضول في التعرّف إلى كلام الله. قال : "نحرّض دومًا جميع المؤمنين لكي يكرّسوا كل يوم وقتًا لمطالعة الكتب المقدّسة ولا سيّما أناجيل ربنا وأعمال الرسل والرسائل، ليستقوا منها الماويّة والقوّة الروحيّة اللتين منهما يحيون". وقد رأى بعضهم في هذه الوثيقة بداية الحركة البيبليّة التي ستظهر في أوروبا.
ولكن وجب على الكنيسة أن تنتظر سنة 1943 ونشر رسالة بيوس الثاني عشر "بفيض من الروح القدس". أكّد قداسته على صحة الفولغاتا (اللاتينية الشعبيّة) وسموَّها وقال : إن ترجمة ايرونيموس معصومة من كل خطأ في ما يتعلّق بالايمان والاخلاق، بحيث نستطيع أن نقدّمها بكل ثقة في المجادلات والتعليم والكرازة. مثل هذه الصحة ليست على مستوى النقد، بل على مستوى القانون. وشدّد البابا أيضًا على الطابع الضروري لتفاسيير تسمح بها الكنيسة : "إن الصفحات المقدسة التي دُوّنت بإلهام الله، تزخر بتعاليم تقدّم لنا في معناها الحرفيّ. نعمت بقوّة الله فكانت قيمتها في ذاتها. وزيِّنت بجمال جاءها من فوق، فلمعت وشعّت في ذاتها. ولكن يبقى على المفسّر أن ينير جميع كنوز الحكمة والفطنة التي فيها، بشرح متقن وأمين"
وإذ أكّد البابا أن السلطة التعليميّة لم تتّخذ موقفًا إلا في مقاطع قليلة من البيبليا، أعلن بوضوح أن الكنيسة لا ترغب في أن تجمَّد مبادراتُ الأبحاث الجديدة التي يقوم بها المؤوّلون. "فعلى أبناء الكنيسة أن يتجنبّوا هذه الغيرة الجامحة التي تريد أن تحارب كل ما هو جديد أو ترتاب فيه وتحذره. هناك شيء يجب أن نتذكّره، وهو أن قواعد الكنيسة وشرائعها تعني الايمان والاخلاق. وبين العناصر المختلفة التي يتضمّنها الكتاب المقدّس من تشريع وتاريخ وحكم، هناك شيء قليل أعلنت الكنيسة معناه بسلطتها. وهو ما كان الآباء قد اتفقوا عليه. إذن، يبقى عدد كبير من المسائل الهامّة جدًا، التي تدعو المفسّرين الكاثوليك إلى مجادلتها بكل حريّة عن طريق العقل. وهكذا يستطيع كل واحد في ما يخصّه، أن يحمل إسهامه، لمنفعة الجميع، في نموّ متواصل للتعليم المقدّس، في الدفاع عن الكنيسة وكرامتها. فحريّة أبناء الله الحقيقيّة هي التي تحفظ بأمانة تعليم الكنيسة، وتجمع في الوقت عينه بامتنان حصيلة العلوم الدنيويّة كأنها عطيّة من الله. وهذه الحرية التي تعينها وتسندها إرادةٌ حسنة لدى الجميع، هي شرط وينبوع كل ثمر حقيقيّ وكل تطوّر متين في التعليم الكاثوليكيّ".
نصّ رئيسيّ هذا النصّ! لم ينكر شيئًا من المبادئ التي حدّدها المجمع التريدنتي. ومع ذلك، لاحظ أن هذه المبادئ تترك عددًا من الأبواب المفتوحة للبحث البيبليّ الحديث. بالاضافة إلى ذلك، أعاد بيوس الثاني عشر اعتبار عمل النقد النصوصيّ بعد أن فضحت أساليبه بخفر رسالةُ بيوس العاشر "رعاية قطيع الربّ". قال : "منذ عشرات السنين، استعمل البعض بلا شكّ، النقد بطريقة اعتباطيّة بشكل استطعنا أن نتّهمهم بأنهم يريدون أن يدخلوا آراءهم في النصّ الملهم. ولكننا لا نحتاج اليوم أن نلاحظ أن النقد يمتلك شرائع ثابتة وأكيدة، بحيث صار أداة مختارة لتقديم كلام الله بشكل أكثر نقاء وأكثر دقّة، فنكشف بسهولة كل تجاوز في هذا المجال. إذن، هي مهمّة نبيلة، وإن كانت صعبة، لجميع الذين يدرسون المسائل البيبليّة، أن يعملوا بحسب الظروف بحيث تظهر طبعات كاثوليكيّة للكتب المقدّسة في النصّ الاصلي وفي الترجمات القديمة. فمع الاحترام المطلق للنص الملهم يكون تطبيقٌ لجميع قواعد النقد".
ودعا البابا أيضًا الشرّاح لمتابعة دروس الفنون الادبيّة في البيبليا : "يجب بشكل مطلق على المؤوّل أن ينتقل في شكل من الأشكال بالروح، إلى العصور البعيدة في الشرق القديم، فيميّز بوضوح الفنون الأدبيّة التي أراد أن يستعملها كتاب في تلك الأزمنة السحيقة، بواسطة التاريخ وعلم الآثار وعلم الاتنيات والاعراق، وسائر العلوم. فحين أراد الشرقيّون أن يعبّروا عمّا في فكرهم، لم يستعملوا دومًا في كلامهم طرقًا وأشكالاً نستعملها نحن اليوم، بل تلك التي استعملها الناس في عصرهم وفي بلدهم".
وأخيرًا، أعلنت رسالة بيوس الثاني عشر "بفيض من الروح القدس" شرعيّة النقد في أصوله، وألحّت على المؤمنين بأن يعكفوا على قراءة البيبليا في نشرات وترجمات كاثوليكيّة ترافقها شروح من أفضل الاخصائيين. وهكذا توّج بيوس الثاني عشر بشكل من الأشكال الحوار بين السلطة التعليمية في الكنيسة والعلماء، وأشار إلى الحلقات البيبليّة والكاثوليكيّة التي لمحّ إليها لاون الثالث عشر في رسالته "العناية الإلهيّة"، وأسّس سنة 1902 اللجنة البيبليّة.
استقبلت الكنيسة بالاجماع هذه الرسالة التي حرّرت مفسرّي الكتاب المقدس، وما زالت تؤثّر في أيامنا على كل ما يُبحث ويُنشر ويُقرأ في المجال البيبليّ. إنها تعبير عن موقف الكنيسة الرسميّ حول دراسات الكتاب المقدس واستعماله في الحياة اليوميّة. وحمل إلينا المجمع الفاتيكاني الثاني دستورًا عقائديًا حول الوحي الالهي : كلام الله. أُعلن في 18 تشرين الثاني سنة 1965، فقال في المقطع 23 : "إن المجمع المقدّس يناشد أبناء الكنيسة، ممّن نذروا أنفسهم للدراسات الكتابيّة، أن يسيروا بحماسة شديدة حتى النهاية، في عمل التنقيب الذي انطلق حتى الآن بنجاح عظيم، وان يجدّدوا عزائمهم يومًا بعد يوم، ملتزمين بتوجيهات الكنيسة".
وشدّد الدستور في الليتورجيا على أهميّة البيبليا في الليتورجيا، على العلاقة الوثيقة بين ليتورجية الكلمة والليتورجيا الافخارستيّة (أخذت هذه دورًا كبيرًا على حساب الكلمة)، على ضرورة العظة التي تنطلق من النصّ الملهم لتشرح أسرار الايمان.
ودعا دستور الوحي الالهي أيضًا إلى إنماء محبّة الكتاب المقدّس لدى المؤمنين، ووافق بشكل رسمي على نشاطات الجماعات البيبليّة الكاثوليكيّة وشجّعها. لهذا، تكاثرت على مستوى الابرشيات في كل بلدان العالم ولا سيّما في كنائس آسيا وافريقيا واميركا الجنوبيّة. وتجمّعت في " الرابطة الكتابيّة الكاثوليكيّة" التي وُلدت سنة 1969 بمبادرة من الكردينال بيا، الذي أراد أن يطبّق ما طلبه الفصل السادس من دستور الوحي الالهي : "أن تكون كلمة الله في متناول شعب الله ". أما الشعار : "من جهل الكتاب المقدس، جهل المسيح".
2) أعمال حول الكتاب المقدّس
إن ما سُمّي "الحركة البيبليّة"، قد بدأ يظهر في الربع الأول من القرن العشرين، وتميّز بثلاثة اتجاهات كبيرة. أولاً : رغبة حارة في اكتشاف المعنى الدينيّ للنص الملهم، لتعليم الله الذي يتوجّه إلى كل واحد منا. ثانيًا : ردّة فعل ملحّة على كل ما يطمس معنى التعليم البيبلي. ثالثاً : عودة إلى تقليد آباء الكنيسة وإلى تفاسيرهم بشكل عام وبشكل خاص.
انطلقت الحركة بشكل واسع مع العوام، ثم لحق بالركب اللاهوتيّون. وظهر تجدّدُ البحث التفسيري في الكنيسة الكاثوليكيّة في خلق : مدارس بيبليّة، حلقات بيبليّة، مجلات بيبليّة. وكل هذا ثبّت السلطة العلمية في النقد الكاثوليكيّ. وعرف القرّاء المثقفون القواميس البيبليّة التي تعطي معلومات غنيّة تساعد على قراءة الكتاب المقدس، وبرزت ترجمات جديدة قام بها العلماء الكاثوليك، وكانت الكتب العديدة التي لا تتوجّه إلى الاخصائيين فقط، بل إلى طبقة المثقّفين، بل إلى مجمل شعب الله.
3) البيبليا في حياة الجماعة
في الليتورجيا. لقد اعتبرت الليتورجيا الكاثوليكية منذ المجمع التريدنتي أن الكتاب المقدس هو مرجعها الأهم. ولكنه في الواقع، لم ينتشر ولم يُعرف لدى المؤمنين بشكل فعّال. فالمقاطع الكتابيّة كانت تُقرأ في اللاتينية، سواء في اللاتينيّة العتيقة أو في ترجمة ايرونيموس في القرن الخامس. ثم إن أيام الآحاد والاعياد لم تكن تعرف من العهد القديم إلاّ آيات وجملاً متقطعة مأخوذة من المزامير، من اشعيا وابن سيراخ ونشيد الاناشيد والتكوين. وحتى العهد الجديد لم يكن يُقرأ كله. فمن حضر قداس الأحد كان يسمع في اللاتينيّة 13 بالمئة من مت، 4 بالمئة من مر، 15 بالمئة من لو، 13 بالمئة من يو، 2 بالمئة من أع، 13 بالمئة من الرسائل البولسيّة، 13 بالمئة من الرسائل الكاثوليكيّة، 2 بالمئة من رؤ. ونلاحظ أنهم ما كانوا يقرأون شيئًا من 2تس، فلم، 2-3 يو. وفي الفرض الالهي الذي يُقام في الليل، كانوا يقرأون في سنة كاملة الكتاب المقدس كله. ولكن ما عتّمت أن سقطت هذه العادة، فما عادوا يقرأون سفرًا كاملاً. وألغيت أسفار : لا، عد، تث، يش، قض، را، 1- 2أخ، نح، با، نش.
ولكن بدأت تظهر كتب القداس للمؤمنين، مع هذه النصوص القليلة التي أشرنا إليها، في لغة الشعب. ونبتت الحلقات البيبليّة بقيادة كهنة أو مفسّري الكتاب. وهكذا نبتت حركة ليتورجيّة توَّجها المجمعُ الفاتيكاني الثاني في الدستور حول الليتورجيا (4 كانون الأول 1963)، حين أعلن استعمال اللغات الحديثة (لا البقاء في اللاتينيّة). فأخذ الكاثوليك يقرأون في قداس الأحد ثلاث قراءات بيبلية، ويسمعون عظة تستلهم كلام الله وتحلّل مضمونه التعليميّ والروحي. وفهم المؤمنون أن "ليتورجيّة الكلمة" مهمّة "كليتورجية الافخارستيا". وظهرت كلمة الله في التعليم المسيحي والفقاهة بعد أن تعوّد الناس على أسلوب السؤال والجواب.
ودخلت البيبليا في حياة الناس اليوميّة. فقد أخذ الكاثوليك شيئًا فشيئًا يلجأون إلى الكتاب خارج شعائر العبادة وساعات التعليم المسيحي : سهرات انجيلية، لقاءات صلاة تتناوب فيها القراءة البيبليّة مع الأناشيد، التأمل الفردي أو داخل مشاركة. لا شك في أن الدور المميّز هو للأناجيل، لأن المؤمنين يبحثون عمّا يعمّق ايمانهم وتعلّقهم بابن الله الذي صار انسانًا فأكمل بتجسّده مواعيد العهد القديم.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|