بالزيت كعمل دينيّ. إن المسحة الدينيّة في العالم العبري، يعبَّر عنها دومًا بفعل "م ش ح" الذي ينطبق على الأشياء وعلى الاشخاص. فبحسب التقليد الإلوهيمي، مسح يعقوب نصب بيت إيل (تك 31 :13) فصبّ الزيت على رأسه (تك 28 :18؛ 35 :14، لا نستطيع أن نحدّد معنى الطقس). وحسب الكهنوتي، تكريس المعبد وتوابعه ((خر 30:26-29؛ خر 40:10-11؛ لا 8:10-11) يتمُّ بمسح "زيت المسحة" (ش م ن. هـ م ش ح هـ) (خر 30:22-23)، وهو زيت مقدّس جدًا قد سلّم إلى الكاهن العازر (عد 4:16). وطقس خبز التقدمة يذكر أن الكعكات الفطير تمسح بالزيت العاديّ (خر 29:2؛ ل(ا 2:4؛ ا 7:12؛ عد 6:15).
وبين الأشخاص الذين يُمنح لهم الزيت، تذكر التوراة بشكل خاصّ الملك وعظيم الكهنة، ولا شيء يتيح لنا أن نقول إن الأمر بمسح اليشع بالزيت كنبي، قد نُفّذ (1مل 19 :16). وهذا ما يجعلنا نعتقد أن مسح النبيّ بالزيت (أش 61 :1 لو 4 :18، يماهون بين الكاهن والنبيّ)، ولقب "الممسوح" (أو المسيح)، الذي أعطي لكورش (إش 45:1) وللآباء (مز 105 :15 1أخ 16 :22)، وربّما للشعب (حب 3:13؛ مز 28:8)، كل هذا هو استعارة تدلّ على وظيفة بدأ الشخصُ بالقيام بها.
وماذا عن المسحة الملوكيّة؟ مع أن التوراة لا تذكر إلا مسح بعض الملوك بالزيت مثل شاول (1صم 9:16؛ 10 :1) وداود (1صم 16:3، 12-13؛ 2صم 2:4، 7؛ 5 :3) وأبشالوم المغتصب (2صم 19:10) وسليمان (1مل 1 :34، 39، 45) وياهو (1مل 19 :16؛ 2مل 9 :3، 6، 12) ويوآش (2مل 11 :12) ويوآحاز (2مل 23 :30، أقاموه ملكًا)، يبدو من الأكيد أن جميع ملوك يهوذا (وربما ملوك اسرائيل أيضاً)، قد مُسحوا بالزيت. فالمسحة تصنع الملك، ولقب الممسوح (أو المسيح) (م ش ي ح في العبرية)، لقب "مسيح الرب" هو اللقب الملكيّ الأعظم (1صم 2:10، 35؛ 12 :3، 5؛ 15 :1، 17؛ 16 :6).
أصل هذا الطقس (والمؤسّسة الملكيّة) هو خارجيّ. هذا ما لا شكّ فيه، وليس من وثيقة تسمح لنا بأن نقول بيقين إن الملوك مُسحوا في بلاد الرافدين وفي مصر حيث عُرفت مسحة للموظفين والخاضعين لفرعون. أما الطقس فمعروف لدى الملوك الحثيّين والكنعانيين الخاضعين لمصر (رسائل تل العمارنة 51 :4-9). ويبدو من المعقول أن تكون هذه العادة قد استمرّت في الممالك الكنعانيّة بعد سقوط الامبراطوريّة المصريّة. غير أننا لا نستطيع أن نستند بقوّة إلى شهادة "مثَل يوتام" (قض 9 :8، 15) الذي يرتبط ارتباطاً تدوينيًا بملك ابيمالك، كما لا نستند إلى مسحة حزائيل (1مل 19 :15)، التي لا تجد ما يثبتها في البيبليا (2مل 8 :9-15) ولا في النصوص الأراميّة في القرن التاسع ق.م.
لا شكّ في أن المسح بالزيت قد أُخذ به في اسرائيل ساعة أخذوا بالملكية. غير أن المسح لا يكشف بسهولة عن مدلوله الأصليّ. فإن 1-2صم يمتلك تاريخًا أدبيًا فيصعب علينا أن نجد حقًا ما حملته مختلف التدوينات. والدراسات النقديّة المعاصرة، رغم اختلافها، تجعلنا نفكّر أن النظرة إلى المسحة وإلى الملك، لم تعطَ دفعة واحدة منذ عهد شاول وداود وإن كنا لا نرفض للمسح كل طابع دينيّ (في عالم تُعتبر فيه الملكيّة مقدسة، مرتبطة بالإله)، فمن المعقول أن يكون طقساً شعبيًا (يدلّ على الديموقراطية، 2صم 2:4؛ 5 :3) قبل أن يدخل في ليتورجيّة تنصيب سليمان ملكًا (1مل 11 :34، 39، 45)، ويثير تفكيرًا لاهوتيًا يلقي بضوئه على ملك شاول وداود ويعطيه مدلوله البيبليّ.
حينئذ بدا المسح بالزيت كطقس ديني يُعطى باسم يهوه (1صم 9:16، 16، 3؛ 2صم 12:7) بواسطة نبيّ (1صم 10:1)، بواسطة عظيم الكهنة (1مل 1 :39؛ 2مل 11 :12)، بواسطة الاثنين معًا (1مل 1 :34) في موضع مقدّس (1مل 1 :34؛ 2مل 11 :12) بالزيت المقدس (1مل 1 :39) الذي ترافقه عطيّة الروح (1صم 10:6؛ 16 :13) ويجعل من الملك شخصاً مكرّسًا (كأنّه منذور لله، 2صم 1:10؛ 2مل 11 :12؛ مز 89:40؛ 132 :18) في علاقة خاصة مع الرب الذي يعامله كابنه (2صم 7:14؛ مز 2:7؛ 89 :27) الذي لا يحقّ لأحد أن يمسّه (1صم 24:10؛ 26 :9، 11، 16، 23؛ 2صم 1:14، 16؛ 19 :22).
والمسحة الكهنوتيّة قد حُفظت لعظيم الكهنة (خر 29:7، 29؛ لا 4 :3، 5 ؛ 8 :12؛ 16 :32؛ 21 :12)، وامتدّت إلى جميع الكهنة (خر 28:40-41؛ 29 :7، 9؛ 30 :30؛ 40 :14-15؛ لا 8 :30؛ عد 3:3). فالمسحة عنصر من عناصر الطقس الكهنوتي للتكريس. فحسب فرائض الربّ (خر 29:7)، صبّ موسى زيت المسحة على رأس هرون ومسحه ليقدّسه، ليكرّسه (لا 8 :12). ومسحة جميع الكهنة (هرون وأبناؤه، خر 40 :12-15) تتمّ برشّ زيت المسحة والدم المأخوذ من المذبح (لا 8 :30).
وهذه المسحة الكهنوتيّة التي لا نجد شهادة لها في أي مكان خارج اسرائيل، لم تدخل إلى اسرائيل، على ما يبدو، إلا بعد المنفى (حلّ عظيم الكهنة محلّ الملك) حسب التقليد الكهنوتي. وذكرُ الكاهن الذي يحمل على كتفه تكريس زيت مسحة إلهه (لا 21 :12)، هو كلام أضيف إلى شريعة القداسة المعاصرة لسفر التثنية. وليس من نصّ آخر (ما عدا 1أخ 29:22 الذي يعكس عصره، حوالي سنة 300) يلمحّ إلى مسح عظيم الكهنة قبل المنفى. وتوراة حزقيال التي اهتمت بشكل خاص بأبناء صادوق، لا تعرف هذه العادة.
وهذا ما يجعلنا نعتقد أننا أمام ممارسة جاءت بعد المنفى، فنقلت إلى عظيم الكهنة، رئيس الجماعة بعد العودة من السبي، المسحة وشارات (ن ز ر، خر 39:30؛ لا 8 :9) الملك. وخارج النصوص التشريعيّة الكهنوتيّة، قلّما تُذكر هذه المسحةُ. و"ابنا الزيت" اللذان هما زربابل (من نسل داود ) وعظيم الكهنة يشوع، لا يدلاّن على مسحة عظيم الكهنة. فمسحة صادوق (1أخ 29:22) وهرون (سي 45 :15) تعكس بلا شك رسامة عظماء الكهنة في ايامهما، على مثال ممسوح مز 84:10 والممسوح المُلغى في دا 9:26 الذي قد يكون أونيا الثالث (2مك 4:30-38). إن "نسل الكهنة الممسوحين" (2مك 1 :10)، قد يدلّ على مسح جميع الكهنة، كما في قمران (نظح 9:7-9) فيشكّل آخر شهادة عن مسحة كهنوتيّة سوف لن تظهر في الحقبة الرومانيّة.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|