اولا : المضمون والتصميم. يتضمّن مت عدداً كبيراً من خطب يسوع. وأخبارُه مجموعة في رسمات مؤلفة من 3 او 7 عناصر. بعد انجيل الطفولة (1 :1-2 :23) وخبر كرازة يوحنا المعمدان وعماد يسوع وتجاربه (3 :1-4 :11) يقسم انجيل متى 3 أقسام.
1) رسالة يسوع في الجليل (4 :12-18 :35). خطبة الجبل (ف 5-7) تلخِّص تعليم يسوع. سلسلة من أخبار عجائب (ف 8-9) تعرِّفنا بأعمال يسوع. ثم يبيِّن لنا متى عدم ايمان اليهود وموقفهم العدائي (9 :35-12 :50). لهذا يتكلم يسوع بالامثال ثم يشرحها لتلاميذه (13 :1-58). بعد موت يوحنا المعمدان (14 :1-12)، يهيّئ يسوع تلاميذه للمهمة التي تنتظرهم، فيصنع عجائب (14 :13-36) ويحذّرهم من مبادئ الفريسيين (15 :1-16 :12) وينبئهم بآلامه. وينتهي هذا القسم بتعليم عن ملكوت الله (18 :1-35).
2) رسالة يسوع في يهوذا واورشليم (19 :1-25 :46) : الدخول الاحتفالي إلى اورشليم (21 :1-21)، المجادلات مع رؤساء الكهنة والصادوقيين والفريسيين (21 :23-22 :46)، الخطبة الكبرى ضد الكتبة والفريسيين (ف 23)، الرؤيا الازائية (ف 24-25).
3) خبر آلام يسوع (26 :1-27 :61) ثم الحديث عن القبر الفارغ وظهورات يسوع (28 :1-17). كل هذا ينتهي بالرسالة المعطاة للتلاميذ بأن يبشّروا بالانجيل في العالم كله (28 :18-20).
كيف نرتّب كل هذا؟ في الأصل. هناك قسمان كبيران : من كرازة بالملكوت إلى تكوين الكنيسة (ف 3-16). ثم : من تأسيس الكنيسة إلى الكرازة بالملكوت في العالم كله (ف 17-28). كل قسم يبدأ بإعلان (3 :1-17؛ 16 : 13-20) وتجربة (4 :1-17؛ 16 :11-17، 27). ويأتي النص في الحالين متنابًا. الكلام ثم العمل. في لوحة أولى. أقوال الانبياء حول المسيح (ف 1-2) ثم العمل الاول واعلان الملكوت (ف 3-4). ثم تأتي خمس دبتيكات من درفتين : خطبة يسوع. نشاط يسوع. وهكذا تتوسّع الخطب الخمس في أسس الجماعة المسيحية. أما الأخبار فتدلّ كيف حقّق يسوع ما قاله. فخطبة الجبل (ف 5-7) تدلّ كيف أن الموقف البنويّ من الله يبني العلاقات بين البشر الذين يشفيهم يسوع من الشرّ ويحررّهم من الخطيئة (ف 8-9). وخطبة الارسال (ف 10) تُعدّ الرسل لمواجهة الاضطهاد الذي كان يسوع أوّل من تحمّله ( ف 11-12). وخطبة الامثال (ف 13) تقدّم موضوع نموّ الملكوت السماوي على الأرض. وبعدها يدعو يسوع تلاميذه ليسيروا وراءه ويضع أولى مداميك كنيسته (ف 14-17). وتقدّم خطبة الجماعة (ف 18) المبادىء التي تسوس الجماعات الكنسية : احترام الصغير، الصلاة، الغفران المتبادل. ولما صعد يسوع إلى أورشليم، علّم تلاميذه في (ف 19-23). والخطبة حول مجيء ابن الانسان (ف 24-25) تبيّن أن الملكوت يأتي في حياة كل انسان بفضل آلام يسوع وانتصاره على الموت (ف 26-28) فيبقى على التلاميذ أن يعلنوا قيامته في العالم (28 :16-20)
ثانيا : اصل الانجيل (أ) الكاتب. أقدم شهادة عن نشاط متّى الادبي هي شهادة بابياس (حوالي 138) كما احتفظ بها أوسابيوس في تاريخه الكنسي. قال : جمع متى الاقوال في اللغة العبرية (اي الارامية). وكل واحد نقلها كما استطاع. كان هذا النص مناسبة جدال، لأن الشرّاح رأوا في هذا المؤلَّف الذي يتحدث عنه بابياس مجموعة من أقوال الرب استعملها الازائيون. ولكن سياق نص بابياس لا يتحدث فقد عن كلمات يسوع، بل عن أعماله أيضاً. ثم ان كتاب بابياس (عنوانه : شرح اقوال الرب) عالج اقوال يسوع واعماله. اذًا يشهد بابياس على انجيل لمتى دوِّن في الارامية (كلمة عبرية في اللغة اليونانية الشائعة تعني الارامية : رج يو 5 :2؛ 19 :17). ضاع هذا الانجيل باكرا، ولكن احتفظ بذكره ايريناوس واوريجانس واوسابيوس الذي نسبوا إلى متى انجيلا اراميا. ظن بعض الكتّاب أنهم سيجدون مقاطع من انجيل متى الارامي في ايوكريف يحمل اسم "انجيل إلى العبرانيين". على كل حال، تجهل الكنيسة القديمة وجود مجموعة لا تتضمن الا اقوال يسوع. والانجيل الذي نمتلكه الان (متّى القانوني)، دوِّن في يونانية صحيحة تتفوق على يونانية مرقس بحيث نستطيع القول إن مت ليس ترجمة عن الارامية. هذا الانجيل هو حجة منذ نهاية القرن الاول (ديداكيه، اكلمنضوس الروماني، اغناطيوس الانطاكي). بعد وقت سيذكرونه على أنه عمل متى (اكلمنضوس الاسكندراني، ترتليانس...). كان الكاتب يهوديا من فلسطين، وهو العارف بجغرافية هذا البلد وطوبوغرافيته، بالوضع الديني والاحزاب، بالفرائض العبادية والعادات اليهودية. كان متى عشاراً فعرف أمور المال. تحدث عن المال 12 مرة، وذكر الضرائب والنقود، وذكر أنه كان العشار (10 :3).
(ب) قرّاء متى، هدفه. قال اوريجانس واوسابيوس وايرونيموس وغيرهم من الآباء إن مت دوِّن للمسيحيين المتهودين في فلسطين. لهذا أورد نصوصا عديدة من العهد القديم، ولمّح إلى تعاليم وعادات وطرائق حياة يهودية لا يشرحها (مثلا : 5 :17-20، 21-37؛ 6 :1-8...). ان مضمون مت يدل على هدف كاتبه : أراد أن يبيّن بالعهد القديم أن يسوع الناصري هو المسيح الموعود به، وان يبرهن على أن اليهود الذين رذلوه قد خرجوا من المملكة المسيحانية. اذاً كان مت للمسيحيين المتهوِّدين مساعداً في حربهم مع اليهود، وجوابا لمسألة رفض اسرائيل الصعبة (رو 9-11).
(ج) متى كتب متى؟ اين كتب؟ ما كانت مراجعه؟ لا نعرف شيئا عن موضع وزمن تأليف انجيل متى الارامي الضائع (أي الاقوال التي يتحدث عنها بابياس). حسب اوسابيوس، كتب متّى انجيله في لغته الام حين ذهب يبشر الوثنيين. حسب ايريناوس : كتب حين كان بطرس وبولس يبشران في رومة أي بين سنة 61 وسنة 67. مهما يكن من امر، ضاع الانجيل الارامي ولم يبق لنا إلاّ الانجيل اليوناني. وما يبرز من دراسة مت هو ان الانجيلي استعان بمرقس، وهذا يعني ان مت يعود إلى ما بعد دمار اورشليم حوالي سنة 80.
ثالثا : طابع الانجيل.
(أ) الطابع الادبي. إن مت مبني بناء محكماً. اختار في المواد التي كانت بتصرفه وجمعها في رسمة خاصة. وهذا ما نراه في الخطب الكبرى (خطبة الجبل، ف 5-7. خطبة الارسال، ف 10. الامثال، ف 13). ويجمع متى الاحداث والاقوال التي ترتبط بالموضوع الواحد. ولهذا يترك الكرونولوجيا الدقيقة، فلن نبحث عن مدلول كلمات، مثل : ثم، بعد هذا. ان هذه وصلات بين المقاطع المتعاقبة.
(ب) الطابع التعليمي. ان الهدف الابولوجي (الدفاعيّ والهجوميّ) لمتّى يحدد كل مضمونه. اختار متّى مادته ليساعد المسيحيين على الجواب إلى اقوال الخصوم وافتراءاتهم. فالخطب والاخبار مرتّبة، بحيث تبيّن أن يسوع هو المسيح، وأن ملكوت الله الذي أنبئ به في العهد القديم قد تحقّق في المسيحية. لهذا يعالج مت صفات يسوع والقابه : انه ابن داود (1 :1ي)، والمشترع (ف 5-7)، والنبي (14 :1-15 :10)، وصانع العجائب (ف 8-9). ويبيِّن مت كيف أن نبواءات العهد القديم تمت في يسوع. فترد كل مرة العبارة نفسها (مثلا :1 :22؛ 2 :5، 15، 17، 23...). لهذا ففكرة ملكوت السماوات تحتل في انجيله مكانة بارزة، وبالاخص في كرازة يوحنا المعمدان (3 :2) والخطب (ف 5-7) والامثال (ف 13) التي تصوّر طبيعة هذا الملكوت.
رابعاً : اللاهوت. يظهر يسوع عند متّى كالمسيح وابن داود الذي يحقّق مواعيد الشريعة والأنبياء. إنه ملكوت الله، وهو يدشّن هذا الملكوت وسط البشر، فيؤسّس كنيسته التي هي تهيئة لهذا الملكوت، وفي الوقت عينه تُتمّ عهدَ الله مع شعبه اسرائيل. حمل يسوعُ اسم عمانوئيل (1 :23) أي إلهنا معنا، "الله مع البشر، أي الله معنا" (28 :20)، والحاضر وسط الذين يجتمعون باسمه (18 :20). وبما أن يسوع هو رئيس اسرائيل وراعيه (2 :6)، فهو يجمع تاريخ شعبه من مصر إلى أرض الموعد. وقد رأى فيه تلاميذه المعلّم الذي يعلّم، والرب الذي يمنح الحياة. سجدوا أمامه وكرّموه لأنه ابن الله الحقيقيّ.
كان موسى قد نقل إلى الشعب المختار شريعة الله. فجاء يسوع فأوصلها إلى كمالها وأعطى تلاميذه أن يعيشوها في العمق، لأنه قد صار هو قاعدة التصرّف المسيحيّ، وكشف لأخصّائه برَّ ملكوت السماوات. فالخلقيّة التي يقدّمها هي متطلّبة وتحمل السعادة في الوقت عينه (ف 5-7). هي تقوم بأن يتوافق عملها مع موقف يسوع البنويّ تجاه أبيه. تقوم بأن نتبع يسوع. ونالت وصيّتا المحبّة كلّ مدلولهما في تماهي يسوع مع الأخ المتألّم (25 :36-46). وفي نظر مت، جماعة الكنيسة لا تنفصل عن يسوع. ابتعدت عن العالم اليهوديّ الذي خرجت منه، ورفضت أن تحلّ محل اسرائيل، فتنظّمت تنظيمًا خاصًا : جماعة إخوة يعيشون من حضور الرب المخفيّ في قلب الصغار. جماعة لها حياتها الليتورجية والاسرارية الثابتة. جماعة مسؤولة، حيث نال بطرس والرسل مكانة مميّزة كشهود نظّمهم المسيح. ليس ملكوت السماوات الكنيسة. بل هو دعوة لها. هذا الملكوت حاضر فيها ولكنه يتجاوزها دومًا لأنه واقع جاء من السماء وهو سائر نحو الآب.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|