1) العهد القديم. ترتبط المحبّة في العهد القديم بعدّة أمور نجدها في عالمنا الحديث. هناك خمسة أفعال تعبّر عن الحب : أ هـ ب. ح ف ص. ح ش ق. ر ص هـ. ر ح م.
أولاً : الحبّ بين البشر. حبّ شخص بشري لشخص آخر، ندلّ عليه عادة بفعل "ا هـ ب" الذي يشير إلى الانجذاب الجنسيّ (2صم 13:1، 14، 15)، على حبّ الشاب والفتاة اللذين يريدان أن يتزوّجا (تك 29:18-20)، على حب الزوجين (تك 24 :67؛ 1صم 1:5)، على الحبّ الابويّ (تك 25 :28)، على المحبّة للصديق (1صم 16:21)، على التفاهم بين ملكين تعاهداً على الوفاء (1مل 5 :15)، على حبّ القريب (لا 19 :18)، على محبّة العبد لسيّده (خر 21:5)، على حماس الشعب لبطل من أبطاله (1صم 18:16، 22، 28). نحن عادة أمام حبّ فاعل تعبّر عنه تصرفاتٌ وأعمال مناسبة. إن أشار الحبّ إلى الحنان، استعمل الكاتب فعل "ر ح م" الذي يدلّ على حبّ الأم (أش 49:15) والأب (مز 310:13) لولدهما. وإن أراد الكاتب أن يبيّن الشعور بعطف عميق تجاه انسان (1صم 18:22)، أو الغرام بفتاة (تك 34 :19)، استعمل فعل " ح ف ص" أو "ح ش ق" (تك 34 :8). كانت وصيّة محبّة القريب (لا 19 :18)تنحصر في الأصل، في أعضاء العشيرة الواحدة. ولكنها فُهمت بشكل أوسع فضمّت اللاجئ الذي يُقيم في اسرائيل (لا 19 :34؛ تث 10:19). في الممارسة، كانت الشريعة تمنع الانسان ان يفعل للغير ما لا يريد هو أن يحتمله. بل كانت تخلق واجب إعانة القريب في الحاجة (طو 4:15-16)، ولا سيّما من خلال الصدقة.
ثانيًا : محبّة البشر لله. نعبّر عن محبّتنا لله في ذات الألفاظ التي تُستعمل للحديث عن محبّة البشر بعضهم لبعض. هذا الحبّ يُذكر مرات كثيرة في نص قض 5 :31 (هو نصّ قديم)، ويلعب دورًا جوهريًا في تث حيث نجد وصيّة محبّة الله (تث 6:5؛ (رج 10:12؛ رج 11:1؛ 30 :6). هذا الحبّ تجاه الله يتجاوب مع حبّ الله لشعبه وينبثق من العهد. استعاد تث لغة المعاهدات في الشرق، فسمّى حبًّا علاقات الصداقة التي يجب أن تسود بين المتعاقدين المتعاهدين (1مل 5 :15). لهذا يتضمّن الحبّ تجاه الله بالضرورة، خدمة الله (تث 10:12؛ 11 :13) وواجب ممارسة بنود العهد (تث 11:13، 22؛ 19 :90)، وحين يقول التقيّ حبّه لله (مز 18:2؛ 31 :24)، فهو يعلن صدقه وأمانته. وفي خطّ العهد، هو يميل إلى أن يعلن حبّه لشريعة الله (مز 119).
ثالثاً : محبّة الله لشعبه. إن حبّ الله لشعبه قد تنظّم في إطار العهد (تث 7:7-8) الذي يشكّل أساسه الوعدُ للآباء والخروجُ من مصر ((تث 4:37؛ تث 7:13؛ 10 :15). واستعارات الحبّ الابويّ (أم 3:12)، والحبّ الاموميّ ((إش 49:15؛ إش 66:13؛ سي 4 :10)، والحبّ الزواجيّ (هو 2؛ إر 2-3؛ 31 :2-6؛ حز 16؛ 23)، تعطيه سمة من الحنان تترافق مع الفكرة القائلة بأن الله يعاقب شعبه كما يعاقب الواحد ابنه اللاجدير بمحبّته ((تث 8:5؛ تث 32:1؛ إش 30:9) والزوج زوجته الزانية التي خانته (هو 2 :4، 8-15). غير أن يهوه لا يستعيد حبّه. بل بالحبّ يؤدّب ابنه (أم 3:11-12). وإن هو "طلّق" شعبه فلوقت محدود (هو 14 :5؛ إش 54:5-8).
رابعًا : حبّ الله للغرباء. حب الله للغريب ولا سيّما "الغريب الذي يرزقه طعامًا وكسوة" (تث 10:18)، يرتبط بمفهوم الله المحامي عن الضعفاء والبؤساء. في هذا المعنى نفهم أيضًا حنان الرب للأمم التي اقتُلعت من أرضها : فإن استعدّت، في وقت البناء الآتي، لكي تقدّم له شعائر العبادة، فهي تستطيع أن تقيم وسط شعبه (إر 12:15-17). أما حبّ الله من أجل الخلائق بشكل عام (مز 451:9؛ سي 18 :13 : حك 11 :24)، فلا يُذكر إلاّ في وقت متأخّر. وبشكل موضوع عمله الخلاّق.
خامسًا : حب الله للبشر. نادرًا ما يُذكر حب الله لكل شخص بمفرده. غير أن الرب يحبّ البارّ (مز 461:8؛ أم 15:9؛ رج 3:12)، ويتحنّن على مؤمنيه ((مز 25:6؛ مز 40:12؛ 51 :3؛ 69 :17؛ 119 :77). ولكن حين يقال أن الرب يحبّ سليمان (2صم 12:14-35؛ 1مل 10 :9؛ 2أخ 9:8؛ نح 13:26) أو كورش (إش 48:14)، فهذا يُفهم في إطار الايديولوجيا الملكيّة في الشرق القديم، حيث عطف الله على الملك المالك يجعل ممارسة سلطانه شرعيّة ويكفل هذه الممارسة.
2) العالم اليهوديّ. ^ أولاً : الحبّ بين البشر. إن حب القريب واجب من الواجبات الاساسيّة لدى الاسيانيين، حيث "يُفرض على كل واحد أن يحبّ أخاه مثل نفسه وأن يسند يد البائس والفقير والغريب، وأن يطلب كل واحد الراحة لأخيه" (وثص 6 :20-7 :1؛ رج 19:18). بل على أعضاء الجماعة أن يكوّنوا صندوقًا من المحبّة والتعاضد، بأجرة يومين كل شهر (وثص 14:12-16). وإذا عدنا إلى العالم اليهودي الارثوذكسي، نسمع رابي مئير (القرن 2ب.م.)، تلميذ رابي عقبية، وهو يورد الوصايا الواحدة بعد الأخرى : "لا تنتقم ولا تحقد (لا 19 :18). لا يكن في قلبك بغض لأخيك (لا 19 :17). أحبّ قريبك مثل نفسك (لا 19 :18). وليحيَ أخوك معك" (المشناة، ندريم 9 :4). وجمع فيلون الاسكندراني جميع فرائض العهد القديم التي تتحدّث عن حبّ الانسان لأخيه في مقاله "الفضائل" (51-52). فالأخ (أو القريب) الذي نعود إليه، ليس انسانًا محدّدًا، بل شخص نتعامل معه في الحياة الواقعيّة. إذن، يختلف مدلول القريب بالنظر إلى المحيط. ففي نظر الاسيانيين المنعزلين في جماعتهم، القريب هو العضو في الجماعة أو الذي يتعاطف مع الجماعة. والآخرون هم أناس أشرار يجب أن نبغضهم (نج 9:2). وكان العالم اليهودي الارثوذكسي يرفض الاتصال بالامم الوثنية : لهذا فقد اعتبر القريب، إبن الدين والوطن، أو المهتدي الجديد. مقابل هذا، كان العالم اليهودي الهلنستي (ولا سيّما في الاسكندرية) يتصل كل يوم باليونانيّين : لهذا كان القريب كل مواطن في المدينة التي نقيم فيها. هذا ما نفهمه من جواب الحكمة للملك بطليموس الثاني في رسالة ارستيس (207). "بما أنك لا تتمنّى أن يضايقك شرّ، بل أن تشارك في كل خير، هكذا تفعل مع عبيدك ومع الخطأة".
ثانيًا : محبّة الله للانسان. تظهر محبّة الله بشكل خاص نحو الذين يمارسون المحبّة تجاه الفقراء (سي 3 :30-4 :16). وهذا ما يوضح أهميّة المحبة (أو الصدقة). في توسّع مدراشي (ترجوم يوناتان المزعوم) حول تك 4 :8، قال هابيل لقايين : "الكون خُلق بحبّ". غير أن اسرائيل هو موضوع محبّة خاصة. حسب تك ربّا (98 :3) سأل يعقوب أولاده وهو على فراش الموت : "إله اسرائيل الذي هو في السماء، أما هو أبوكم"؟
ثالثًا : محبّة الانسان لله. اعتُبر حبُّ الانسان لله أسمى من مخافة الله. فحسب سفري تث 32 "تميّز الشريعة بين ذاك الذي يعمل بحب وذاك الذي يعمل بمخافة... فأجر الاول ضعفان بل أربعة أضعاف أجر الثاني". وحسب رابي عقيبة، التعبير الاسمى لحبّنا لله هو الاستشهاد : "تحبّ الربّ إلهك من كل قلبك وكل نفسك... ولو وجب عليك أن تبذل حياتك" (بابل، بركوت 61ب). وفي مدائح قمران يقول المرتّل لله : "أحببتك طوعًا، من كل قلبي ومن كل نفسي" (مد 15:10؛ رج 14:16).
3) العهد الجديد. أولاً : الأناجيل الازائية. حسب الأناجيل الازائية (مت 22:36-40؛ مر 12:28-31؛ لو 10:25-28) حبّ (أغابي) الله والقريب كما يعظ به يسوع، يُجمل كلَّ الشريعة والأنبياء (رج مت 7:12؛ لو 6 :31). وكما في العهد القديم (تث 6:4-5)، حبّ الله هو حبٌّ مطلق (مت 6:24؛ لو 16 :13). وحبّ القريب يسير بنا حتّى محبّة الاعداء (مت 5:44؛ لو 6 :27). لهذا، نبدأ فنصالح القريب قبل أن نقدّم قرباننا على المذبح (مت 5:23-24). وموقف الله تجاهنا يرتبط بموقفنا تجاه القريب (مت 6:14-15؛ مر 11:25؛ رج سي 28 :1-5). إذن، يجب أن نتصرّف كالآب السماويّ الذي لا يستبعد أحدًا من حبّه (مت 5:44-48؛ لو 6:27-28). هذا يعني أيضًا أن لا حدود لمغفرة الخطايا (مت 18:22؛ لو 17 :4).
ثانيًا : الرسائل البولسيّة. يرى بولس أن المحبّة فضيلة تفوق الايمان والرجاء. يَبطل الإيمانُ والرجاء (1كور 13 :12)، أما المحبّة فهي أبديّة (1كور 13 :8)، هي تفوق جميع المواهب التي تصبح بلاها بدون فائدة للخلاص (1كور 13:1-3). المحبّة عطيّة من الله يفيضها الله في قلب المختارين (رو 9 :1- 16) مع الروح الذي يقوم فيهم بعمل التقديس (رو 5 :5؛ 1كور 6 :11؛ رج، 2تس 2:13؛ تي 3 :5)، ويوجّه القلوب نحو محبّة الله (2تس 3:5) ومحبّة القريب (رو 15 :30). فمحبّة القريب هي ملخّص الشريعة (رو 13 :8؛ غل 5 :14). فالله أحبّنا (2تس 2:16) بحيث جعل المسيح يموت لأجلنا (رو 5 :8؛ 8 :32؛ رج تي 3 :4)، هذا المسيح الذي قبِل الصليب والموت.
ثالثًا : رسالة القديس يعقوب. في يع 2:8-9، المحبّة هي جوهر الشريعة كما في رو 13 :8؛ غل 5 :14. ويصل الحبّ إلى الجميع دون اعتبار الاشخاص، وهذا الحبّ نعبّر عنه بأعمال المحبّة (يع 2:1-16) ولا سيّما تجاه الفقراء الذين اختارهم الله واعدًا إياهم بالخلاص المهيَّأ للذين يحبّونه (2 :5-6).
رابعًا : الكتابات اليوحناوية. المحبة هي العنصر المركزي في التعليم اليوحناويّ. فالله نفسه هو محبّة (1يو 4 :8، 16). الآب يحبّ الابن (يو 3 :35؛ 10، 17). والابن يحبّ الآب ويعمل بما يوصيه الآب (يو 14 :31). والحبّ الحقيقيّ يقوم في حفظ الوصايا. لهذا، نحن نعرف من يحبّ الابن، إذا سلك سلوكًا موافقًا لفرائضه وكلمته (يو 14 :21، 23؛ 15 :10). ويجب قبل كل شيء أن نمارس المحبّة الأخويّة (يو 13 :34؛ 15 :12، 17؛ 1يو 3 :11، 16 :4 :7؛ 11)، لا بالقول والكلام، بل بالأعمال (1يو 3 :18). ومحبّةُ القريب ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمحبّة الله (1يو 3:14-22). ومن لا يحبّ أخاه لا يحبّ الله (1يو 4:20-21). وبالمحبّة يُعرف ذاك الذي هو مولود من الله (1يو 4 :7-8، 11-13). فمن هو من الله (يو 8 :47)، وارتبط بروح الحقّ (1يو 4 :6)، يخصّ حظيرة الابن (يو 10 :18، 26) ويحمل في ذاته المحبّة التي بها يحب الآبُ الابن (يو 17 :26). فالمحبّة لا تصدر عن مبادرة بشرية : فالله هو الذي أحبّ أخصّاءه وأرسل إليهم ابنه (1يو 4 :10)، والابن أحبّهم إلى الغاية (يو 13 :1) باذلاً حياته لأجلهم (يو 10 :11، 15)، وهذا هو أكبر برهان هلى حبّه لهم (يو 15 :13؛ 1يو 3 :16).
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|