تذكر التوراة (1و2صم؛ 1و2مل؛ 1و2أخ؛ أم؛ مز) مرارًا الملوك (م ل ك في العبرية) الذين وجّهوا تاريخ اسرائيل، منذ بداية حقبة القضاة حتى سقوط السامرة (722 ق.م.) وأورشليم (587 ق.م.)، ولكنها لا تحدّد وضعه. فالمؤرّخ يجد نفسه أمام عدد من النصوص التي تنتمي إلى فنون أدبيّة مختلفة، بعضها يتوافق مع الملكية، والبعض الآخر ينتقد السلالة الداودية. لهذا تبدو هذه النصوص صعبة. فالملكيّة نظام أجنبي أخذت به اسرائيل في حقبة متأخّرة (1صم 8:5). فاللجوء إلى "الايديولوجيا الملكيّة" في الشرق الاوسط بدا أمرًا لا جدال فيه. هذا مع العلم أن الملكية لم تكن يومًا من صنف واحد. لم يأخذ بها شعب اسرائيل كما وجدها لدى الشعوب المجاورة. وقد حاولت إحدى المدارس أن تعيد بناء نموذج "ملكيّة مقدّسة"، وهو نموذج مشترك في كل الشرق القديم (إذن، في اسرائيل أيضًا).
نحن لا ننكر الفائدة التي نجنيها من العودة إلى النصوص التي ترد من خارج البيبليا. فالأبحاث المعاصرة تهتمّ أول ما تهتم بالمعطيات البيبليّة، وتحاول أن تمسك من الداخل بطبيعة الملكية الاسرائيلية وتاريخها النظميّ واللاهوتي. تأسّست هذه الدراسات على مقاربة نقديّة للنصوص، وحاولت أن تتلّمس طريقها فيها. فتاريخ الأسفار الاشتراعيّة في 1و2صم، 1و2مل، يبدو معقّدًا. كما يصعب علينا أن نحدّد دور مختلف المدوِّنيين الاشتراعيين، وما هو سابق للاشتراعيّ، وما هو نبويّ، وما هو تقليدي، وما هو تاريخي. إن المزامير الملكية (2؛ 18؛ 20؛ 21؛ 45؛ 72؛ 89؛ 101؛ 132؛ رج 2صم 23 :1-7) التي يعتبرها بعضهم مسيحانيّة في المعنى الحصري للكلمة، يبقى تاريخُ تأليفها مجهولاً أو موضعَ جدال. ولا نستطيع أن نميّز ما هو "أسلوب البلاط الملكي" وما هو "إيديولوجيا ملكيّة". نتوقّف هنا عند طرح السؤال، ونحصر كلامنا في وجهة من "اللاهوت البيبلي". كما نتوقّف عند بعض الألقاب الملكيّة التي تتيح لنا أن نحدّد موقع الملك بالنسبة إلى الرب وشعبه.
1) مختار الله (تث 17:15). اختار الرب شاول (1صم 10:24) وداود (1صم 16:8، 9، 12؛ 2صم 6:21؛ 1مل 8 :16؛ مز 78:70؛ 89 :4) لكي يكون الرئيس (ن ج ي د، (1صم 9:16؛ 1صم 10:1؛ (2صم 5:2؛ 2صم 6:21؛ 7 :8؛ 1مل 8 :16) والراعي (2صم 5:2) في شعب اسرائيل. وهذا الاختيار الالهي الذي سيختفي ذكرُه مع التسلسل في السلالة المالكة، قد تدشّن حين عيّن داود سليمان ملكًا (1مل 1 :32-40). وسيظهر أيضًا في مملكة الشمال حيث يهوه يصنع الملوك ويعزلهم (1مل 14 :7-17؛ 16 :1-4؛ 21 :20-24؛ 2مل 9 :7-10؛ هو 8 :4؛ 13 :11) بواسطة أنبيائه (1مل 11 :29-39؛ 19 :16؛ 21 :17-19؛ 2مل 9:1-10). حين نشدد على هذه الاختلافات في إطار النظام الملكيّ (ملكية مواهبيّة، ملكيّة سلاليّة)، لا نريد أن نُخفّف (في حديثنا عن الملكيّة السلاليّة الداوديّة) أهميّة الاختيار الالهيّ. فالرب قد اختار داود وبيته ((2صم 7:8-16؛ 2صم 23:5؛ مز 89:30-38؛ 132 :1-12). وهذا الاختيار يتجدّد، على ما يبدو، في كل مرة يعتلي ملكٌ العرشَ الداودي (1مل 2 :15؛ 1أخ 28:5-7؛ مز 2:6-7). وهذا الاختيار الالهيّ يؤكّده هتافُ الشعب (1صم 10:24؛ 1مل 1 :34، 40؛ 2مل 11 :12) الذي لا يتوضّح دورُه دائمًا، ولكنه يظهر في أكثر من مرّة ككافل للشرعيّة الداوديّة (2مل 11 :13-20؛ 14 :21؛ 21 :24؛ 23 :30). لقد اختار يهوه ملك اسرائيل ((1صم 8:7؛ 1صم 12:12؛ (1أخ 28:5؛ 1أخ 29:11؛ 2أخ 9:8؛ 13 :8) لـ "يجلس على عرش إسرائيل مملكة الرب" (1أخ 28:5؛ 29 :23). فالملك تابع الرب وخادمه (أو : عبده، 2صم 7). فعليه أن يقوم بمهمّته في مخافة الله (2صم 23:3) والأمانة لمشيئته (تث 17:18-20؛ 1صم 12:14-15، 24-25؛ 15 :22-23؛ 2صم 7:14؛ 1مل 2 :3-4؛ مز 89:29-34؛ 132 :12).
2) ممسوح (أو مسيح) الرب. في العبرية : م ش ي ح. في السبعينية : خرستوس. مع أننا لا نملك معلومات كثيرة حول طقس تنصيب الملك (1مل 1 :32-48؛ 2مل 11:12-20)، إلاّ أنه يبدو أن المسحة بالزيت كانت العنصر الجوهريّ. مسح صموئيلُ شاول (1صم 9:16؛ 10 :1)، ثم داود (1صم 16:13) الذي سيمسحه يهوذا (2صم 2:4) ثم اسرائيل (2صم 5:1-3). لا يُذكر بعد ذلك سوى مسحة ابشالوم بيد المتشيّعين له (2صم 19:11). ومسحة سليمان (1مل 1 :34-39) وياهو (2مل 9 :3، 6، 12) ويوآش (2مل 11 :12) ويوآحاز (2مل 23 :30). ولكن جميع ملوك يهوذا واسرائيل مُسحوا بالزيت. ومهما يكن من أصل المسحة والطابع الديموقراطي الأول الذي يُنسب إليها مرارًا (2صم 2:4؛ 5 :3)، فهي تبدو طقسًا مقدّسًا (1مل 1 :34-40) يجعل الاختيار الالهي فاعلاً، ويترافق مع عطيّة الروح، ويجعل من الملك شخصًا مكرّسًا يرتبط ارتباطًا بالله فلا يحقّ لأحد أن يمسّه (1صم 24:7، 11؛ 26 :9، 11، 16، 23؛ 2صم 1:14، 16؛ 19 :21) : هو "مسيح الرب" (1صم 12:3، 5؛ 16 :6)، من سلالة داود في أغلب الأحيان. وقد أنشدته النصوص الشعريّة (1صم 2:10؛ 2صم 23:1؛ مز 2:2؛ 18 :15 2صم 22:51؛ مز 20:7؛ 89 :39، 52؛ 132 :10 2أخ 6:42؛ مز 132:17؛ مرا 4:20).
3) إبن يهوه. نجد هذا اللقب في مزمورين (2 :7؛ 110 :3 حسب السبعينية وبعض المخطوطات الماسوريّة). يعتبرهما البعضُ مزمورين مسيحانيين وإن كانا في الأصل قد أنشِدا في جلوس الملك على العرش. لا شيء يتيح لنا أن نستنتج أننا أمام تأليه الملك، وهو أمر لا يُعقل في اسرائيل مع الايمان بيهوه الاله الشخصي، الوحيد والمتسامي. ونقول الشيء عينه عن لقب "إله" (الوهيم) الذي يُعطى للملك (مز 45:7)، الذي تطبّقه التوراة على يهوه كما على كائنات في البلاط السماويّ (مز 29:1؛ 89 :7)، وعلى الوجهاء في القوم (مز 58:2؛ 82 :1، 6). لا شكّ في أن الملك ليس رجلاً كسائر الرجال. ولكنه ليس الله (2مل 5 :7؛ حز 28:2، 9). والأنبياء الذين ندّدوا مرارًا بخطايا الملوك، لم يوبخّوهم يومًا لأنهم اعتبروا نفوسهم آلهة. وعبارة مز 2:7؛ 110 :3 قد تستلهم صورة الولادة الالهية للملوك المصريين (بعد أن تنزع عنها سطرتها)، كما تفسَّر بعبارة التبنّي التي نجدها في شرعة حمورابي (170) : أنت ابني. وذلك في خطّ نبوءة ناتان (2صم 7:4). قطع الرب عهدًا مع داود (2صم 23:5؛ مز 89:29، 35) فتبنّى سلالته، فتضمّن كل صعود على العرش تجديدًا لهذا التبنيّ.
4) كاهن حسب ملكسيصادق. يصعب علينا أن نفسّر هذه الإشارة إلى كهنوت الملك، وهي فريدة في العهد القديم (مز 10:4). فالفرضيّة التي جعلت من مز 110 حوارًا بين داود وصادوق، ليست مقنعة : أعلن صادوق أن داود ملك في أورشليم (آ1-3). وأجاب داود بأن صادوق هو كاهن المدينة (آ4). ومع أن الكلام عن "الملوك الكهنة" أمر معروف في الشرق القديم، فهذا لا يكفي لكي نتحدّث عن الوضع عينه في اسرائيل. لا شكّ في أنّ التوراة ذكرت مرارًا الدور العبادي لملوك تدخّلوا في تنظيم العبادة وإصلاحها (2صم 24:25؛ 1مل 6-9؛ 12 :26-33؛ 2مل 23؛ 1أخ 13؛ 15-16؛ 21-29؛ 2أخ 2-8؛ 15؛ 29-31؛ 34-35)، وقاموا ببعض الأعمال الكهنوتيّة في المعنى الحصري للكلمة (1صم 13:9-10؛ 2صم 6:13، 18؛ 24 :25؛ 2مل 16:12-13). وسوف ننتظر زوال الملكيّة لنميّز بين ذبائح "الرئيس" (حز 45 :17-46 : 15) وتقدمتهم المحفوظة للكهنة (حز 46:2)، أو نشجب تقدمة البخور على يد عزيا (2أخ 26:16-21). ولكن هذه التدخّلات العباديّة (تنظيم العبادة، تسمية الكهنة)، لا تتجاوز امتيازات ملك في ديانة الدولة، لا تفرض كهنوت الملك ولا تفسَّر تفسيرًا كافيًا بطابعه "كمسيح الربّ". فالمسحة التي تصنع الملك، لا تكوّنه كاهنًا في المعنى الحصريّ (تث 33:8-10؛ لا 8-10 . لم يكن الكاهن يُمسح في الحقبة الملكية)، بل تجعل منه شخصًا مكرّسًا يستطيع في بعض الظروف أن يتصرّف كالرئيس الدينيّ في شعبه. هذا ما يقوله مز 110 الذي اهتمّ أولّ ما اهتمّ بتعظيم الملكيّة الداوديّة في أورشليم، فدلّ على أنها ليست أدنى من التي سبقتها، ملكيّة ملكيصادق (تك 14 :18).
5) مخلّص شعبه. حسب النظرة المعروفة في الشرق القديم، يُعتبر ملكُ اسرائيل (كيهوه الملك، إش 33 :22) كمخلّص شعبه. لقد تحوّلت الآمال نحو الملك الذي يخلّص شعبه من الأعداء ((1صم 8:20؛ 1صم 9:16؛ (2صم 3:18؛ 2صم 19:10؛ 2مل 13 :5)، الذين يدعونه لينجيّهم من الضيق (2مل 6 :26). الملك هو الحكيم الذي يُطلب منه العدل والانصاف (2صم 14:4-17؛ 2مل 3:16-28). على صورة يهوه الذي تأسّس عرشه على الحقّ والعدل (مز 89:15؛ 97 :2)، على الملك أن يؤمّن الحقّ والعدالة (2أخ 9:8؛ (مز 45:7-8؛ مز 72:1-14؛ (أم 16:12؛ أم 25:5؛ 29 :4، 14؛ إش 9:6؛ 11 :2-4؛ (إر 21:11؛ إر 22:3؛ 23 :5) ولا سيّما من أجل الضعفاء والمحتاجين. به يرتبط السلام والازدهار في البلاد (مز 72:7-8، 16)، ترتبط حياة شعبه (مر 4:20). ستخيب هذه الآمال مراراً (إر 22:13-19)، ولكنها ستبقى حيّة بعد زوال الملكية في المسيحانيّة.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|