إن عبادة الموتى في المعنى الحصري هي عبادة تقدّم للأموات أو لبعض منهم وكأنهم كائنات مؤلهة، وأجداد مكرّمون نستجلب رضاهم أو نتجنّب تأثيرهم الشرير. مثل هذه العبادة تتنافى مع الايمان بالله (خر 20:3)، والنظرة إلى ما بعد الموت كما في شعب اسرائيل، حتّى مشارف العهد الجديد. فالموتى ينزلون إلى الشيول (الجحيم، مثوى الأموات) (تك 37 :35؛ 42 :38؛ عد 16:33، حسب اليهوهي)، إلى مسكن "الظلال" (ر ف ا ي م، إش 26:14؛ 19؛ مز 88:11؛ أم 2:18؛ 21 :26). هناك يعيش الموتى بشكل منقوص (قريب من الرقاد. أقلّ ما يمكن من الحياة والتنفّس)، منفصلين عن الله وعالم الأحياء الذين يمدحونه ويسبحّونه ((مز 6:6؛ مز 30:10؛ 88 :11-13؛ 115 :17). ولكن يجب أن لا ننسى نظرات بعيدة عن الايمان مثل استحضار الموتى وممارسات حداد يشجبها الكتاب (ل(ا 19:27-28؛ ا 21:5؛ تث 14:1؛ 26 :14). إن مجمل عادات الحداد في بني اسرائيل قد وُجدت في كنعان وعند سائر شعوب الشرق الذين مارسوا عبادة الموتى.
1) القبور. احتفظت التوراة بذكرى القبور (المدافن) المشهورة : مدافن الآباء (تك 23 :3-20؛ 25 :9-10؛ 49 :29-32؛ 50 :13، كهنوتي). قبر دبورة، حاضنة رفقة (تك 35 :8 الوهيمي)، مدفن راحيل (تك 35 :19-20، الوهيمي)، قبر مريم (عد 20:1). ولكن لا يذكر مدفن هرون (عد 20:24-28)، ولا مدفن موسى، (عد 27:12-13؛ تث 32:48-50). وذُكر قبر يشوع (يش 24 :30) وبعض القضاة (ق(ض 8:32؛ ض 10:2-5؛ 12 :7، 10، 12، 15؛ 16 :31)، وقبر ابشالوم (2 صم 18 :18) وداود (1مل 2 :10) ونسله (1مل 11 :43). وذُكر قبر نبيّ بيت إيل (1مل 13 :30-31؛ 2مل 23:17-18). نُخطئ إن نحن حسبنا هذه المدافن مواضع عبادة. ورغم العادة المتبّعة (تك 35 :14)، إن النصب (م ص ب هـ) الذي جعله يعقوب على قبر راحيل (تك 35 :20)، يدلّ على موضع القبر بجانب الرامة (1صم 10:2؛ إر 31:15) أو بيت لحم (تك 35 :19؛ 48 :7). ذاك كان الوضع أيضًا بالنسبة إلى أبشالوم (2صم 18:18) تذكّرًا لاسمه. ونقول الشيء عينه عن "السنديانة" (البلوطة) التي بها ارتبط ذكرُ دبورة (تك 35 :8)، فما ارتبطت أبدًا بمعبد بيت إيل، وهكذا اختلفت عن المذبح (تك 12 :8؛ 35 :7) وعن النصب (تك 28 :18، 22؛ 31 :13؛ 35 :14). ومع أن يش 24 :32، بدا مهتمًا بإعطاء يوسف مدفنًا "تحت الأرض"، نظن أنهم كانوا يتذكّرونه دومًا في معبد شكيم (تك 33 :18-20؛ يش 24:25-27). ولكن لا شيء يتيح لنا القول إن يوسف تلقى هناك عبادة. لا هو ولا دبورة في بيت إيل. ونقول الشيء عينه عن الآباء الذين يقول الكهنوتي إنهم دُفنوا في مدفن المكفيلة تجاه ممرا، وهو مذبح بناه ابراهيم (تك 13 :18)، ولا نجد عنه حديثًا خارج سفر التكوين، ولكنه أشتهر جدًا في الحقبة البعد البيبليّة. فقد نرى هنا امتدادًا لتقليد طويل، حاولت التوراة أن لا تتحدّث عنه ليبقى مجهولاً، فما حدّدت موقع المكفيلة. كل هذا يعكس شجبًا ضمنيًا لمعبد ذات عبادة تلفيقيّة. ولكن لا يبدو أنه كانت هناك عبادة للموتى، لا في هذا الموضع ولا على مشارف المدينة.
2) تقدمات جنائزية. إن التقدمات التي توضع في القبور والتي صارت قليلة إلى أن صارت تقدمات رمزيّة، تدلّ على حياة الموتى بعد الموت وعاطفة احترام تجاههم. والتوراة لا تشير مرارًا إلى هذه التقدمات. فخبز الحداد (إر 16:7؛ هو 9 :4) والناس (حز 24:17، 22) وكأس العزاء (إر 16:7)، كل هذا يقدّم لأهل الميت. وذبائح الموتى (مز 106:28) التي مارسها شعب اسرائيل في بعل فغور (عد 25:2)، قد تدلّ على ذبائح للآلهة الكاذبة. ذاك هو الوضع الذي نراه في تث 26:14. أما كتاب الطقوس الكنعانيّة فيبقى في عالم الفرضيّات، والاهتمام بالمحافظة على العشر من كل تدنيس، يحتفظ بقيمته كتفسير. مقابل هذا، تبدو أوضح التأكيدات متأخّرة جدًا (طو 4 :17؛ سي 7 :33)، ولا تتضمّن أبدًا فكرة عبادة الموتى (سي 38:16-23). والذبيحة من أجل موتى الحرب المكابيّة (2مك 12:38-46)، يتجلّى في سياق يفترض الايمان بالقيامة.
3) طقوس الحداد. شارك شعب اسرائيل الشعوب الشرقيّة في نظرته إلى طقوس الحداد (البكاء، تمزيق الثياب، انتزاع شعر الرأس واللحية، تخديش الوجه والجسد، لبس المسح) التي كانت قديمة جدًا بحيث يصعب علينا البحث عن أصولها. هي تظهر في التوراة كما في أوغاريت (راس شمرا)، فتعبّر عن حزن الأحياء ويأسهم (تك 37 :34؛ (2صم 1:11؛ 2صم 3:31؛ أي 1 :20؛ رج سي 38 :16-23 الذي يطلب الاعتدال) وتشكّل موضوع الأقوال النبويّة المعروفة عن الشقاء الذي يحلّ بالبلاد أو بالاشخاص (إش 3:24؛ 15 :2-3؛ (إر 2:6؛ إر 7:29؛ 16 :6-7؛ 47 :5؛ 48 :37-38؛ حز 7:18؛ 24 :16-17، 22-23؛ عا 8:10؛ مي 1 :16). نجد معظم هذه الطقوس خارج الحداد للتعبير عن ألم عميق (يش 7 :6؛ عز 9:3؛ إر 41:5) أو عن التوبة (نح 9:1؛ إش 22:13؛ يوء 1 :8-9، 13). لا نستطيع أن نفسّر لماذا حُرم التخديش وحلق الرؤوس (لا 19 :27-28؛ 21 :5 : قواعد للكهنة؛ تث 14:1)، مع أن هذا ذُكر في الأنبياء الذين لم يعلّقوا عليه ((إر 16:7؛ إر 41:5؛ عا 8:10). أما التاريخ الذي يُعطى لسفر التثنية وشرعة القداسة، فيفرض علينا أن نقول إن هذه الشريعة لم تطبَّق. أما لا 19 :27-28؛ تث 14:1، فقد يدلاّن على ممارسات تكريميّة لبعل (1مل 18 :28) أو تموز (حز 8:14). ولكن هذا الشرح لا ينطبق على لا 21 :5 حيث نحن حقًا أمام طقوس حداد. قد نكون هنا أمام إضافة وُضعت في النصّ بعد المنفى، وهي تهتمّ بالتشديد على هويّة "الشعب المقدّس" (تث 14:2) وسط الأمم.
4) نجاسة الجثت. وجاء الاهتمام عينه فألهم قواعد المرجع الكهنوتي حول طهارة تمنع الكهنة المقدّسين (لا 10 :6-7؛ 21 :1-5، 10-11) والنذراء (عد 6:6-9) وجماعة العبادة (عد 5:2؛ حج 2:13) من لمس جثة (حتى لو كانت جثة حيوان طاهر، لا 11 :13-40). كل هذا يصل إلى ذروته مع طقوس الماء الطهور (عد 19، لم تطبّق إلا في 31 :23). هذه القواعد التي تجعل من الجثة النجاسةَ بالذات، تُفهم كنيّة بإزالة عبادة الموتى، لا برهانًا على وجودها. والفكرة القديمة القائلة بأن الموتى لا يشاركون في بركات الله، بل ينتمون منذ الآن إلى عالم اللعنة والانفصال، جعلتهم يعامَلون ككائنات نجسة بحسب الطقوس (هو 9 :4؛ تث 26:14). من أجل هذا كان التشريع البعد منفاوي حول الطاهر والنجس.
5) استحضار الموتى. إن ممارسة استحضار الموتى (شجبها لا 19 :31؛ 20 :6، 27؛ تث 18:11) تكشف فكرة تقول إن للموتى معرفة سامية، ولكنها لا تتيح لنا أن نستنتج وجود عبادة الموتى. فلقب "الوهيم" (الله في صيغة الجمع) (1صم 28:14) الذي تعطيه التوراة ليهوه كما للملائكة ((مز 8:6؛ مز 29:1؛ 89 :7) والبشر الرفيعين (مز 58:2؛ 82 :1، 6) والملك (مز 45:7)، يدلّ على الطابع السري والفوق بشريّ ("عائد" يكشف عن نفسه أنه صموئيل). أما إش 8:19 (نفهمه جواب سخرية من قبل النبيّ أو تأكيدًا على مبدأ)، فلا يتيح لنا أن نعتبر الموتى وكأنهم آلهة. يبقى أن صاحب 1صم 28:3-19 الذي اعتبر استحضار الموتى أمرًا غير مسموح به (آ3)، يقول بإمكانة عودة من الشيول، أقله في ما يخصّ صموئيل (سي 46 :20). وقد وُجدت معتقدات أخرى من هذا النوع (وتحدّث بعضهم في اوغاريت عن "ر ف ي م" الذين تقدّم لهم عبادة للحصول على نسل) تدل على اعتقاد قديم في بني اسرائيل يدل على سلطة الموتى (ولا سيّمَا النخبة منهم) في الانجاب.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|