1) كلام الايمان المسيحيّ. أومن... بيسوع المسيح الذي نزل إلى الجحيم. إنّ قانون الايمان يستند هنا إلى 1بط 3:19؛ 4 :6 فيؤكّد نزول المسيح إلى الجحيم.
نتوقّف هنا عند لفظتين. الأولى : الجحيم أو الاسافل، عالم الموتى. ما نجده في خلفيّة هذه اللفظة، هو النظرة التوراتية والبينعهديّة للفظة "شيول" (في اليونانية : هاديس) : موضع الظل والظلمة حيث يقيم الموتى في البعد عن الله وانتظار (بالرجاء) تجلّيه. واللفظة الثانية : النزول. الفكرة هي فكرة عبور نحو أماكن نجد فيها نفوسنا في وضع "أدنى" من الحياة الحاضرة على الأرض، في ضوء النهار، في مشاركة مع الأحياء، في عهد مع الله المخلّص. لفظتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى. تشير "الجحيم" إلى حالة من الوجود لا يمكن إلّا أن "ننزل" فيها. والذي "يرقد" (والرقاد قريب من الموت) يكون في الشيول.
حين نتكلّم عن أماكن ننزل إليها، هذا يعني أننا نعطي للكون بُعدًا كوسمولوجيًا، والمصير البشري بُعدًا ميتولوجيًا. ولكن ينبغي أن لا نغشّ نفوسنا. فهدف هذه العبارة لا يؤخذ بالمعنى الحرفيّ، وكأن المعلومة التي حصلنا عليها تتوخّى إرضاء "حشرّيتنا" في ما يخصّ مصير الذين تركونا، غابوا عنا. بل إن هذه العبارة تدعونا إلى أن نفكّر بما تؤول إليه حياة البشر. لسنا أمام معرفة حول "موضع آخر". بل أمام دعوة لفهم معنى الوجود التاريخيّ، الحاضر، المائت. لسنا أمام لغة ميتولوجيّة، بل أمام لغة رمزيّة. وإن تضمّنت هذه اللغة عناصر ميتولوجيّة، فهذه العناصر تحمل حقيقة في ذاتها. ويجب أن نفهمها، أن نفسّرها. الهدف الحقيقيّ لهذه العناصر هو تقديم قراءة للوجود البشريّ ولمعناه : بالنظر إلى بُعد أو قُرب بالنسبة إلى الله. أجل، لسنا على مستوى الطوبوغرافيا (تحديد الامكنة) ولا على مستوى الكوسمولوجيا.
بعد التوقّف عند الألفاظ واللغة، نتوقّف عند سياق هذا التعبير، النزول إلى الجحيم. فلسنا أمام أي نزول إلى الجحيم، أمام أي شخص مات "ونزل إلى الجحيم". الموضوع هو يسوع المسيح. وهذا ما يدفعنا إلى إضافة بعض الاعتبارات. فالنزول إلى الجحيم الذي يُنسب إلى يسوع، لا يصوَّر وحده ولا يصوَّر لذاته. هو يصوّر في سياق. فنحن لا نؤكّد فقط أن يسوع المسيح ذهب إلى "الجحيم" ليفعل أو يكون هذا أو ذاك. الموضوع هو الاعتراف بأن الذي "مات وقُبر" وبالتالي "نزل إلى الجحيم"، "قد قام من بين الأموات في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الله، ويعود ليدين الأحياء والأموات". هذا يكفي ليميّز اعتراف الايمان المسيحيّ عن "سطر النزول" لدى الديانات غير المسيحيّة التي تتحدّث عن إله أو نصف إله نزل حيًا إلى الجحيم ليحرّر شخصًا واحدًا فيكشف للموتى كنزًا أو سرًا كانوا يجهلونه. أما الايمان المسيحيّ فهو لا يعلن نزول يسوع المسيح إلى الجحيم إلاّ بعد أن يذكر موتًا في قبر مختوم وقبل أن يعلن القيامة والصعود والجلوس على عرش لدى الله وعودة مجيدة كديّان الأحياء والأموات. كل هذا يحدّد البُعد اللاهوتي للعبارة التي نتوقّف عليها الآن.
2) البعد اللاهوتي للنزول إلى الجحيم. ^ أولاً : منطق التجسّد. حين نقول إن يسوع نزل إلى الجحيم، نؤكّد في الوقت عينه أنه قاسم البشر حالتهم حتى النهاية : ما عاش فقط على الأرض وضْع الفقر والجهل والضعف. ما اكتفى بأن يتألّم ويُنازع، ويموت. بل هو في يوم من الأيام كان مائتًا، حُسب في عداد الأموات في عداد "القاعدين في الظلام وفي ظلال الموت" (لو 1 :79).
في إطار تاريخيّ كانوا ينكرون فيه وجود نفس بشريّة في يسوع المسيح، انطلق بعض آباء الكنيسة (مثلاً، اثناسيوس، اسقف الاسكندريّة الذي حارب ايوليناريوس في ما يتعلّق بالتجسّد) من النزول إلى الجحيم ليؤكّدوا (بالبرهان) أن يسوع المسيح كان له نفس بشريّة حقيقيّة : بما أنه "حصل له شيء" بعد موته وقبل قيامته، فهذا يعني أنه ككل انسان امتلك نفسًا "انفصلت" عن الجسد في فترة زمنيّة تمتدّ من الموت في يوم الجمعة العظيمة حتى القيامة في صباح الفصح. بهذه الطريقة اتّخذ فهم "النزول إلى الجحيم" بُعدًا أونطولوجيًا. أما عصرنا فيأخذ طريقًا أخرى ليُبرز حقيقةَ بشريّة يسوع المسيح. ينطلق من منظار تاريخيّ ووجوديّ. فبقدر ما التأكيد على نزول يسوع المسيح إلى الجحيم يتقاطع مع ديناميّة "الكرستولوجيا النازلة "(نزل من المساء)، نرى في هذا النزول النهاية المنطقيّة لتجسّد الكلمة، والمحطّة الأخيرة لهذا الأمّحاء الذي عاشه ذاك الذي كان "هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له. بل أخلى ذاته واتخذ صورة العبد، صار شبيهًا بالبشر وظهر في صورة الانسان. تواضع، أطاع حتى الموت، الموت على الصليب" (فل 2 :5-8).
ولكن بحسب منطق التجسّد نفسه، لا نستطيع أن نتوقّف عند تأكيد لا يعني سوى حياة يسوع المسيح وحده ومصيره : فالتجسّد هو في جوهره فداء. وكل ما يعترف به الايمان بالنسبة إلى يسوع المسيح، فهو يؤكّد أنه أتمّه "لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا". بما أن النزول إلى الجحيم هو نزول يسوع المسيح، فله في جوهره بُعد سوتيريولوجي، بُعد يجعلنا على مستوى الخلاص.
ثانيًا : البعد الخلاصي. توقّف تقليد الآباء واللاهوتيّين الذين جاؤوا بعدهم عند الوضع الاونطولوجي ليسوع المسيح في الجحيم. ولكن ليس هذا اتجاه العهد الجديد. فالإشارة إلى النزول إلى الجحيم أمر نادر. ثم أن نوعين من المعطيات يفرضان علينا أن نجعل من هذه الإشارة أمرًا نسبيًا. أولاً : لم يتبع الأدب المسيحيّ الأول العالم اليهوديّ المعاصر حين جعل من الجحيم موضعًا عابرًا بين الموت والدينونة الأخيرة (التي تتضمّن القيامة). فالذين يموتون "في الربّ" يدخلون بدون تأخير في علاقات جديدة مع إله خلاصهم (رج أع 7:59؛ لو 23 :43). ثانيًا، كان هذا الأدب حذِرًا بالنسبة إلى اللون الميتولوجيّ لنزول يسوع المسيح إلى الجحيم. وهذا يعني أن هذا النزول حُصر بين الموت على الصليب والقيامة. فما يهمّ قبل كل شيء، هو إعلان البعد الخلاصيّ لحياة يسوع المسيح ومصيره. هذا ما نجد عنه تلخيصًا كاملاً في عبارة مثل هذه : "أسلمه إلى الموت للتكفير عن زلاتنا وأقامه من أجل تبريرنا" (رو 4 :25).
استغلّ كتّاب العهد الجديد فكرة "النزول إلى الجحيم" التي هي موضوع عرفه العالم اليهودي المعاصر، من أجل الحوار، ولكنهم رفضوا أن يجعلوا من هذا النزول حدثًا أو عملاً (له موقعه) يتوسّط الجمعة العظيمة ويوم الفصح. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، أظهروا أنه بُعد باطني في موت يسوع، سوف تتجاوزه القيامة بشكل نهائيّ. لهذا، يجب أن نتكلّم بالاحرى عن صعود من الجحيم، لا عن نزول إلى الجحيم، كما في نصوص العهد الجديد (أع 2:24؛ رو 10 :6؛ أف 4 :8؛ 1بط 3:18-20).
إن الايمان بنزول المسيح إلى الجحيم يحمل بلا شكّ بُعدًا سوتيريولوجيًا. ولكن هذا البُعد هو البُعد الحقيقيّ للموت نفسه الذي لا ينكشف إلاّ في القيامة. وحين نفهم النزول إلى الجحيم بهذا الشكل، نراه يدعونا كي نرى إلى أيّ حدّ نزل يسوع في الموت، أي إلى أي حدّ حازت قيامته الغلبة. وهذا يعني أيضًا أن سرّ فصحه (الذي نراه وحدة لا تفصل بين موته وقيامته) قد قتل الموت وانتصر عليه، وأحيا البشريّة وحرّرها.
استند تقليد لاهوتي مسيحيّ متهوّد إلى 1بط 3:19؛ 4 :6، فجعل المسيح ينزل إلى الشيول ليأخذ منه الموتى الأبرار (في العهد القديم) الذين انتظروا تحريرهم (أو جميع الموتى قبل مجيء يسوع). وبرز تيّار آخر رأى في هذا النزول تعبيرًا عن انتصار المسيح على "القوّات" ( الملائكة الساقطين، الشياطين) الذين يجرّون البشر إلى الخطيئة ويحاولون الاساءة إليهم. والنيّة الأساسيّة في كل الظروف، هي الاعلان في وقت واحد أن يسوع المسيح هو في موته وقيامته مخلّص جميع البشر (هو معهم)، ومخلّصهم (ليخرجهم) من كل حالات المحن والعزلة والتخلّي واليأس التي يمكن أن يعرفوها.
فيسوع حين مات، قد عرف الموت في كل بشاعته، بما فيها وجهة الابتعاد عن الله. وإذ مات راح إلى مقر العزلة والتخلّي والظلمة ("إلهي، إلهي، لماذا تركتني"؟ مر 15 :34). بل هو ذهب إلى أعمق من الجحيم، كما يقول غريغوريوس الكبير. ولكنه لم يبقَ "في سلطة الجحيم" (هاديس) (أع 2:27). إذا كان المسيح قد مات، فلكي يعود إلى الحياة "ليكون ربّ الاحياء والأموات" (رو 14 :9). "فرفعه الله وأعطاه اسمًا فوق كل اسم لتنحني لاسم يسوع كل ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كلّ لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيدًا لله الآب". (فل 2 :9-11). رج عالم الآخرة.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|