أوّلاً : العلاقات مع الأناجيل الإزائية.
(أ) إن المشاكل المتعلّقة بالكتابات اليوحناويّة (آخر ما كُتب في العهد الجديد) وُلدت من المقابلة بين يو والإزائيين. فالإزائيون يتوقّفون عند خبر منوّع لمعجزات يسوع الظاهرة وترداد كلماته المأثورة وأمثاله المزخرفة. أما اهتمامات يو، فهي غير هذه الاهتمامات. فهو لا يحتفظ إلا بالقليل من المعجزات الواردة عند الازائيين، ثمّ يورد معجزات أشد إدهاشا. ثم لا نجد مقابلة كرونولوجية (هذا اذا افترضنا اننا نستطيع التحدّث عن الكرونولوجيا في الأناجيل) من أجل مجمل الأخبار (مثلاً : يوحنا المعمدان ويسوع : يو 3 :24. ذُكرت ثلاثة أعياد فصح عند يوحنا وعيد فصح واحد عند الإزائيين)، ولا من أجل التفاصيل (يو 2 :13؛ 12 :1؛ 19 :14). ويختلف أيضًا الإطار الجغرافي. حين نقرأ الأناجيل الإزائية، نحسّ أن يسوع مارس رسالته خاصة في الجليل، وقام برحلة واحدة (كانت الأولى والأخيرة) إلى اليهودية. يتوسّع لو في نشاط يسوع في اليهودية أكثر ممّا يفعل مت ومر. أما يو فيقدّم عددًا أكبر من الأخبار عن نشاط يسوع في اليهوديّة. والاختلافات ظاهرة أيضا في كلمات يسوع. ففي الإزائيين تتوجّه هذه الكلمات إلى أناس متنوّعين (فريسيّين، صادوقيّين، كتبة، الشعب...). عند يو يتوجّه يسوع إلى اليهود "الأشرار" (قلّ ما يذكر يو رؤساء الشعب) الذين لا يؤمنون، أو هو يتكلّم في الخفية مع نيقوديمس أو السامريّة... ولكن هذه الحوارات تصبح في النهاية مونولوجًا (لا حوارًا بين اثنين) يختفي فيه المحاور دون أن يترك اثرًا، بينما تتوجّه كلمة يسوع إلى القارئ. وفي النهاية نتساءل : هل يسوع هو الذي يتكلم؟ هل هو الانجيلي يقدم لنا افكاره؟
في الازائيين يتحدث يسوع عن مجيء ملكوت الله وعن الموقف الداخلي الذي يتطلّبه هذا الملكوت من الانسان. هو يناقش مع رؤساء الشعب عن البر الحقيقي وبرهم الخاص، عن ممارسة فرائض الشريعة. في الانجيل الرابع يكشف يسوع مسيحانيته التي يشهد لها يوحنا المعمدان. ويزيل الستار عن المعنى العميق لهذه الرسالة، فيبيّن أصله السماوي وطبيعته. يتحدّث يو عن شخص يسوع ودوره كمخلص من أجل المؤمنين. هو لا يورد مجادلات حول مشاكل أخلاقية. فهناك شريعة واحدة أساسية هي المحبّة المسيحية. اذًا يبدو مضمون كرازة يسوع في يو مختلفًا عمّا في الازائيين. والاختلاف بين أسلوب التعليم واضح. ففكرة السرّ المسيحانيّ لا يطول عهدها عند يو إن كان قد استعمل مرارًا رسمة الغموض الذي يتوضّح شيئًا فشيئًا. على كل حال، تحلّ محل أقوال يسوع وأمثاله، حواراتٌ وخطب طويلة لا تتوافق وعقل الشعب كما نراه في الازائيين. والتباس بعض الكلمات والتلميحات، تزيد الصعوبات لمن يريد أن يفهم أقوال يسوع. ثم نلاحظ أن أسلوب خطب يسوع لا يختلف عن أسلوب الانجيلي (مثل رسائل يوحنا) ولا عن أسلوب يوحنا المعمدان.
(ب) كل هذا يجعلنا نفكر أن الانجيل الرابع هو مؤلَّف لاهوتي. ويظهر هذا الميل اللاهوتي في عوامل نكتفي هنا بالاشارة اليها، ولكننا لا نستطيع أن ننساها إذا أردنا أن ندرك المشكلة اليوحناوية في كل أبعادها. حين نقرأ المطلع (1 :1-18) وخاتمة القسم الأول (12 :37-50) التي تقابله، والخاتمة العامة (20 :21)، نفهم أن الكاتب أراد أن يلقي الضوء على أهميّة يسوع من أجل حياة المؤمنين الدينيّة. فرمزيّة الإنجيل تلاحق الهدف عينه : إن معجزات يسوع هي آيات (علامات) لا تكتفي بالبرهان عن مسيحانيّته، بل تكشف كل مرة وجهة من رسالته (ف 9 : شفاء الاعمى يسوع هو نور العالم). وبعض الأشخاص (السامريّة، التلميذ الحبيب إلى قلب يسوع...) وبعض أسماء المكان (بيت زاتا : يو 5 :2) والإشارات الزمنيّة (يو 13 :30 : وكان الوقت ليلا) وسائر عناصر الخبر (جرة الماء في 4 :28)، كل هذا يفسّره الشرّاح في معنى رمزي. ويُقرّ يوحنا نفسه أنه تذكّر بعض أعمال يسوع وبعض أقوال يسوع بعد القيامة أي حين فهمها فهمًا كاملاً بتأثير من الروح القدس. فإلى أيّ حدّ ينقل الإنجيل الرابع ذكر أعمال يسوع وأقواله؟ هل يجب أن نعتبر كلامه تقريرًا عن نشاط يسوع أم تفسيرًا من قبل الانجيلي؟ نحسّ في بعض المقاطع وكأن يوحنا يحارب ضد اليهود أو ضد تلاميذ يوحنا او ضد كارنتيس (كما يقول ايريناوس). ونحن نعرف أن الحرب تشدِّد على بعض النقاط وتترك الاخرى. فالتعبير عن الايمان ليس هو تعبير الازائيين. إنه، كما يقول النقّاد، يرتبط بتيّارات فكريّة متنوّعة جدا : الهلينية، الفيلونية، الغنوصية، المندائيّة. ويصعب علينا أن نختار بين هذه التيارات لأن الافتراضات عديدة. ومنذ اكتشافات بريّة يهوذا قوبلت مخطوطات قمران مع يو.
(ج) بعد هذه اللمحة السريعة نفهم ان عنوان "الانجيل الروحاني" الذي أعطاه اكلمنضوس الاسكندراني للإنجيل الرابع يثير لدى القارئ الحديث (الذي يهتم بالتاريخ) عدّة مشاكل. وهنا نميّز في المسألة اليوحناوية ثلاث وجهات. الأولى : هل ننسب الإنجيل الرابع (الذي يختلف عن الازائيين) إلى الرسول يوحنا، وهل لهذا الانجيل قيمة تاريخية؟ الثانية : هل المقاطع اللاهوتية في الإنجيل الرابع هي عمل كاتب واحد (كما نقول عن المقاطع الموجودة عند الازائيين. نحن هنا أمام مشكلة التدوين والوحدة الادبية)؟ الثالثة : من أي تيار فكريّ اقترض يوحنا عناصر لاهوته؟
ثانيًا : كاتب الانجيل.
(أ) ان التقليد الثابت الذي يمثّله اكلمنضوس الاسكندراني وترتليانس وقانون موراتوري ينسب الانجيل الرابع إلى الرسول يوحنا. هناك غايوس وغيره حاولوا إنكار صحة هذه النسبة حوالي سنة 200 لأسباب هجوميّة. ولكن في القرن 19 عادت الحرب ضد صحّة نسبة يو إلى يوحنا الرسول. من المستحيل أن يكون إنجيل مختلف عن الإزائيين قد كتبه أحد الاثني عشر. وقالوا : يعود هذا الإنجيل الى المنتصف الثاني من القرن الثاني. وهكذا أزالوا إجماع شهادة التقليد، وواقعاً يقول إن كتّابا كنسيين من بداية القرن الثاني عرفوا به (اغناطيوس الانطاكي، بوليكربوس، يوستينوس، الديداكيه، اكلمنضوس الروماني). وبعد هذا اكتشفت سنة 1935 بردية تبين ان الانجيل الرابع كان معروفا في مصر قبل سنة 150. وقال النقّاد إن يوحنا قُتل مع أخيه يعقوب سنة 44، وإنه بالتالي لم يسكن افسس. ومت 20 :23 (مر 10:39) يشهد بطريقته الخاصة على استشهاد الاخوين. ويقال أن بابياس أعلن، بناء على شهادات سابقة، أن يوحنا اللاهوتي وأخاه يعقوب قتلا على يد اليهود. وهناك سنكسار سوري يحتفل باستشهاد الاخوين في 27 كانون الاول. غير أنّ هذه البراهين لا تزعزع شهادة التقليد عن إقامة يوحنا في أفسس، وعن أن أع 12:2 يتكلم فقط عن موت يعقوب، وعن أن بولس (غل 2 :9) يعرف أن الرسول يوحنا هو حيّ في اورشليم سنة 50. ويستعينون بيوحنا الشيخ الذي يذكره بابياس (كما يقول اوسابيوس) مع الانجيلي يوحنا. حينئذ نسب النقاد إلى هذا الشيخ (الذي نجهل كل شيء عنه) ما نسبه التقليدُ إلى الرسول. ولكن هل يتميّز هذا الشيخ عن الرسول؟
(ب) إن الانجيل الرابع هو تأليف تلميذ مميّز ليسوع، وشاهد عيان للاحداث (1 :14؛ 19 :35؛ رج 21:24). ويبدو أن هذا التلميذ انتمى إلى جماعة الاثني عشر (2 :11، 17، 22؛ 4 :27، 33). ومن جهة ثانية، إن التلميذ الذي يحبّه يسوع هو اسم مستعار يختفي وراءه صاحب الانجيل. هذا التلميذ هو ذاته التلميذ الذي أغفل اسمه في 1 :25-40؛ 18 :6. فالتلميذ الحبيب ينتمي إلى مجموعة الرسل الثلاثة المميّزين. اذا وضعنا بطرس جانباً (13 :23؛ 20 :2)، وإذا عرفنا أن يعقوب مات سنة 44، يبقى يوحنا. وصمتُ الانجيل الرابع المدهش حول ابني زبدى (ما عدا 21:2 وهي من كاتب لاحق)، يُثبت الافتراض أن يوحنا هو مؤلّف يو. فالكاتب ينتمي إلى محيط فلسطين، وهو يعرف الأمكنة والأزمنة والعادات... وهو يفكّر في الارامية، بحيث ظنّ بعض النقّاد أن يو دوّن أصلاً في الارامية. اذًا كل البراهين الجدية تؤول إلى إسناد شهادة التقليد. وقد عاش يوحنا مدة طويلة في أفسس، بحيث إنه يبدو أن هذه المدينة شهدت مولد الانجيل الرابع. قال بعضهم : قد يكون وُلد يو في أنطاكية بسبب قول لمار افرام، وبسبب تأثير الانجيل الرابع على اغناطيوس الانطاكي، وقرابته من موشّحات سليمان (أنطاكية، القرن 2). ولكن يجب أن لاننسى أن الانجيل هو ثمرة كرازة شفهية امتدت على سنوات (قد يكون يوحنا كرز في انطاكية) بحيث نستطيع أن نأخذ بشهادة التقليد والبردية المذكورة أعلاه وصحة نسبة الانجيل إلى يوحنا. على كل حال، دوّن يو بعد دمار اورشليم (سنة 70).
ثالثًا : الوحدة الادبية والتصميم.
(أ) هناك أمور تستوقف انتباهنا. قالوا : عادة الاقدمين غير عاداتنا. أو : كان يوحنا شيخاً، وكتب كتابه على مراحل. أو : تدخّل من بلبل التدوين الاول. أو : كتّاب عديدون دوّنوا يوحنا. أو : هناك طبقات تأليفية ومراجع. فرضيات عديدة تُفتِّت النص. ولكن من الأفضل أن نشدد على وحدته.
(ب) هناك اقتراحات عديدة. ونحن نقدم تصميما نقترحه. لا يهدف الانجيل الرابع إلى إعطاء رسمة كاملة عن حياة يسوع (20 :30ي)، بل بعض لمحات بحيث يَبرز شخصُ يسوع على ضوء الايمان. وليس بصحيح أن يو أراد تصحيح الازائيين الذين كانوا جزءًا من التقليد الشفهي. هدف يوحنا الوحيد هو أن يرسم في بضعة لوحات أهم نقاط نظرته الشخصية والدينية إلى شخص يسوع. ما أراد أن يحارب كارنتيس أو الغنوصيين أو تلاميذ المعمدان أو شيعا أخرى. وإذا كان أظهر تفوّق يسوع على يوحنا المعمدان، فهو يفعل بتأثير من اهتدائه الخاص. وهذا الشيء يسري بالنسبة إلى الجدال مع اليهود والتشكي (نجده في كل انجيله) من الشعب المختار الذي لم يهتدِ إلى المسيح. هدفُ الإنجيل الرابع هو تقوية المسيحيّين الآتين من العالم اليهوديّ، بعد أن رأوا نفوسهم مستَبعدين من المجمع بفعل السلطات اليهوديّة (9 :22؛ 12 :42). فيجب أن يتثبّت إيمانهم بيسوع، مرسل الآب، لكي يواجهوا الجدالات مع إخوتهم الذين ظلّوا أمناء للخطّ اليهوديّ. وهكذا نفهم فهمًا أفضل البراهين المؤسّسة على الكتاب المقدّس : يسوع يحقّق المواعيد المعطاة لابراهيم (8 :31-54). يكمّل مهمّة موسى (5 :44-47). يتمّ في جسده واقع الهيكل (2 :19-22؛ 4 :20-24). يمنح السبت معناه المسيحانيّ (5 :16-17) وأعياد اليهود ملء مدلولها (الفصح، 2 :13، 22؛ 6 :4، 31؛ 19 :14، 36؛ الأسابيع، 5 :1، 25؛ المظال، 7 :2، 37-39؛ 8 :12؛ 9 :7، 27؛ التدشين، 10 :22). ثمّ إنه وُجد في الجماعة اليوحناويّة "أنبياء كذبة" (1يو 4 :1). تجاهلوا هويّة المسيح، ففصلوا ناسوته عن لاهوته (1يو 2:18-23). هم الظاهريّون (كارنتيس) الذين اعتبروا أنّ ابن الله لم يتجسّد، بل تظاهر أنّه أخذ جسدًا. هم الأبيونيّون الذين رأوا في يسوع فقط ذاك النبيّ. نظريّات خطرة للإيمان المسيحيّ ولوحدة الكنيسة. وهذه الجماعة عرفت الاضطهاد من العالم اليهوديّ كما من العالم الوثنيّ، فلا بدّ من دعوة إلى الشجاعة والثبات.
وإليك رسمة يو :
1) المطلع (1 :1-18). توطئة تُنشد طبيعة الكلمة الالهي الذي يسمو على البشر والذي كشف الله للبشر. تُنشد تجسّد الكلمة في يسوع التاريخي. تنشد أهمية هذا التجسد لخلاص البشرية، وشهادة يوحنا المعمدان المهمة في هذا الموضوع.
2) المقدمة (1 :19-51) : شهادة الله، شهادة يوحنا المعمدان، أول اتصال بين التلاميذ ويسوع.
3) القسم الاول : الوحي الخفي (ف 2-12) (أ) الكشف الاول. الآيات تدل على مسيحانية يسوع في موطنه (2 :1-11) وفي اورشليم (2 :13-25). هناك ثلاثة مواقف إيمانية مختلفة : اليهودي نيقوديموس (ف 3)، السامرية (ف 4)، الوثني الذي يؤمن إيماناً صادقاً (4 :46-54). (ب) الأعمال تدلّ على أصل يسوع السماوي وعلى اتصاله الدائم بالآب. هي تمّت في أورشليم (ف 5) وفي موطنه (ف 6). وهذا الكشف يثير نزاعًا مع اليهود : إن تهديد الموت يفرض على يسوع أن يتكلم لغة خفيّة (ف 7-10). (ج) المسيرة إلى الموت (ف 11-12) تبدأ بقيامة لعازر التي تجعل اليهود يحكمون على يسوع بالموت. وخاتمة هذا القسم الاول (12 :37-50) هي تأمّل يوحنا في عمى اليهود الذين لم يؤمنوا بمرسل الاب، مع أنه قدّم لهم البراهين الكافية.
4) القسم االثاني : الوحي الاسمى. تُلقي خطبُ الوداع نورًا قويًّا على معنى رسالة يسوع وموته (ف 13-17). فبعد غسل الارجل، تأتي ثلاث محاولات للانجيلي يعبّر فيها عن توصيات يسوع الاخيرة (الوصية الروحية) : يجب أن نفهمها على ضوء موته وبتأثير الروح القدس. فالمسيح الممجَّد يكشف لأخصّائه وجوده الازلي.
5) النهاية : الآلام (ف 18-19)، الظهورات (ف 20). وهنا يقترب يوحنا من الازائيين. ضمّ يوحنا هذه الاخبارَ إلى انجيله، لأنها تنتمي إلى فن الانجيل الأدبي، ولكنه تعامل معها على طريقتته : فهو يرى الآلام من الزاوية الابولوجية (الدفاعيّة)، وظهورات يسوع تدل على أنه دوماً حاضر وسط أخصّائه. هذا الحضور يختلف عن الحضور الجسدي، ولكنه أهم منه. وينتهي الانجيل مع 20 :30-31.
6) الملحق : مصير يوحنا وبطرس (ف 21). دوَّن هذا الفصل تلميذٌ ليوحنا نشر الإنجيل كلّه.
رابعًا : اللاهوت اليوحناوي وأصالة فكر يوحنا.
(أ) درسَ العلماءُ جذور لاهوت يوحنا، فجاءت آراؤهم متباينة : يرتبط يوحنا بالعالم الهليني (الديانات السرّانية) أو بفيلون (لوغوس، الكلمة) او الهرماسية (الحياة، النور، يهوه، انا هو)، او بالغنوصية (وخاصة المانوية). من السهل أن نقدم الافتراضات، لأن انجيل يوحنا يُفلت من أيدينا حين نحسّ أننا أمسكناه. وقد اكتفينا بتشبيهات سطحيّة لنستنتج وجود تبعية هذا الانجيل لأفكار سبقته. واكتفت المقابلة بالبحث عن أفكار متشابهة دون تحليلها على ضوء الانجيل الرابع بمجمله. ولكن يو ليس معجماً، ولا لائحة كلمات لاهوتية. إنه شهادة مبنية بناء عضوياً. فان اقترض يوحنا أفكاراً من تيارات عصره، فهو لم يتوقّف عند مراجعه. ومن الممكن أن يكون أغنى إيمانه وخبرته المسيحية بأفكار وجدها هنا وهناك. ولهذا قال بعض النقّاد إن رأس يوحنا كان محشوا بعناصر تنتمي إلى تيارات دينية تلفيقية، ونسوا أنه أوّلاً كاتب مسيحي. إن عناصر لاهوت يوحنا هي : إيمان يوحنا اليهودي (مع محبّة للادب الحكمي)، تعلّقه بيوحنا المعمدان وآماله الاسكاتولوجية، دهشته أمام خبرة الحياة الروحية، طبعه الحاد المتعلق بالمبادئ والذي نضج بعد 50 سنة من التأمل.
(ب) واليك رسمة سريعة للاهوت يوحنا. ليست نقطة الانطلاق فكرة التجسد التي تفترض وجودًا سابقًا لكائن الهي تجسّد لاحقا في شكل بشري، بل اكتشاف شخصيّة يسوع الداخلية على ضوء الانسان المنظور. فطبيعة يسوع البشرية تكشف (1 :1، 18) رسالته وأصله والوهيته. وهذا الكشف لا يبدأ مع التجسّد، بل (وفاقا للفكر المسيحي الاول) مع الحياة العلنية بعد اللقاء بالمعمدان. ويصل الى قمته مع موت يسوع (1 :51؛ 3 :13؛ 5 :20؛ 6 :62؛ 8 :28؛ 16 :25-30). فالمثلَّث موت وقيامة وصعود يشكّل قلب لاهوت يوحنا. وكل ما يسبق يشكّل يوم (نهار) يسوع : رسالته العلنية التي هي كشف خفيّ، يثبتها المعمدان والكتب المقدسة وأقوال يسوع وأعماله. وهذا الكشف يدلّ على أنه المسيح ومرسل الاب الذي أعطي رسالة من قبل الاب، الذي جاء من عند الاب، الذي يقول أقوال الآب، وينفّذ اعمال الآب، الذي هو بقرب الآب. بعد اليوم (النهار)، تأتي ساعة موت يسوع وتمجيده مع كل مدلولها الكشفي والخلاصي والاسكاتولوجي. على مستوى الكشف : رجوعه إلى الاب هو البرهان الواضح على أنه جاء من الآب، على أنه صورة الآب الكاملة، والمجد الذي يناله هو مجد الله ابيه الذي كان له قبل خلق العالم. وهذا الكشف هو قمّة كل وحي لأنه نهائيّ. أما الروح فلا يحمل إلينا إلاّ فهم هذا الوحي. على مستوى الخلاص، هذا هو مدلول الساعة : حين يموت يسوع يحيا ملء الحياة، ويعطي حياته للذين يؤمنون به حتى ولو كانوا من الوثنييّن. إن حملَ الله يرفع خطايا العالم. يسوع هو مخلّص العالم. الخبز الذي يعطيه هو جسده (لحمه) المقدم ذبيحة من أجل حياة العالم. إنه الراعي الصالح الذي يبذل حياته من أجل الرعية الكبيرة الواحدة. إنه حبّة الحنطة التي تموت وتعطي ثماراً وافرة... على المستوى الاسكاتولوجي، هذا هو مدلول الساعة : الآن حُكم على العالم (12 :31)، اليوم تمجّد ابن الانسان (13 :31). أي منذ هذا الوقت، دخل يسوع في مجده، وظهر متجلبباً بملء سلطات ابن الانسان (ديّان في آخر الازمنة). الساعة تدلّ على بداية نهاية الزمن. والوحي يضع الانسان أمام اختيار : الذي يؤمن له الحياة، والذي لا يؤمن حُكم عليه. فجدلية انجيل يوحنا هي جدلية الوحي والايمان. وبما أن يوحنا يكتب بعد أن انتشرت المسيحية في العالم، فهو يشدّد على الثبات في الايمان (ليس فقط : احفظوا وصاياي، بل : ابقوا أمناء لتعليمي) الذي يميّز الأزمنة التي تتوسّط البدايات والنهاية (رج الرسائل والرؤيا). وهذا الثبات في الايمان هو القاعدة الاكيدة للمحبّة الاخويّة. لهذا كان الموضوع الرئيسي لرسائل يوحنا هو الايمان والمحبة. كلاهما يربطان المؤمن بشخص المسيح لا بتعليمه فقط. ويتغذّى الايمان والمحبة بالمعمودية والافخارستيا. وإن قبول الايمان وممارسة المحبة يوحّدان الكنيسة، يوحّدان المؤمنين بعضهم مع بعض ومع المسيح. لا شكّ في أن الكنيسة تتضمّن أناسًا ليسوا من شعب اسرائيل، ولكنها الحظيرة الحقة والكرمة الحقة. والمؤمنون هم أبناء ابراهيم وأبناء الله الحقيقيون.
خامسًا : القيمة التاريخية. كل ما قلناه يساعدنا على تقديم حكم معلّل على القيمة التاريخية للانجيل الرابع. ليس إنجيل يوحنا كتابًا تاريخيا بالمعنى الحديث للكلمة. وهو لا يهدف إلى إعطاء تقرير كامل عن الاحداث، ولا نسخة أمينة وحرفيّة عن الحوارات والخطب. هو لا يسعى إلى إعطاء الاخبار إطارًا جغرافيًّا وكرونولوجيا (وهذا أيضا ناقص عند الازائيين). إنه يعطي شهادة ايمان، ولكنها شهادة تعود إلى الاحداث التي هي أكثر من أحداث. فاية قيمة للرمزية إن لم يحملها واقع رآه الرسول بعينيه.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|