1) الألفاظ. في العبرية نجد "أ م ن" ومشتقاته. في المجهول (انأمن) يعني تأكّد. وفي الرباعي المزيد (هـ ا م ن) يعني : وثق، آمن. والاسم هو "ا م ت " (130 مرة في التوراة. يقابلها في السبعينية "أليتايا"، الحقيقة). أو : "ا م و ن هـ " (50 مرة. في السبعينية : بستيس الثقة، الأيمان. في العبرية : أمانة). وهناك "آمين" الذي يرجع إلى ذات الجذر العبريّ. ونجد لفظة أخرى "ب ط ح" (وثق) بشكل خاص عند الأنبياء و "ح س هـ" (لجأ). في اليونانية، الاسم هو "بستيس". والفعل "بستاوو" يلتقيان مع "أ م ن" العبريّة. هذه اللفظة تبيّن العلاقات الأوليّة التي تميّز في العمق ارتباط الانسان بالله والله بالانسان. هل من أماس للجذر "أ م ن" خارج العبريّة؟ ربّما. ولكن يجب أن نعلم أن الجذر العبريّ والجذر اليوناني أضفيا على الكلمة معنى جديدًا. نشير هنا إلى التعارض على مستوى الاشتقاق بين "أمن" العبرية و "بستاوو" اليونانتية. تدل "أمن" على ما هو ثابت، متين، أكيد، وأهل للثقة، ثم ما نستطيع أن نثق به، نتوكّل عليه. أما "بستاوو" فيعود إلى جذر يدلّ على ما هو مربوط، على ما يرتبط، ونحن نجده في فعل"بايتو" وثق. يشير الجذر العبريّ أولا إلى الثبات واستمراريّة موضوع الإيمان. أما اليونانيّ فيدلّ على ذاك الذي يؤمن. الغرض ثابت، أكيد (رج فعل أمن في العربية). أما الانسان فأمين (بستوس).
2) اللاهوت. ^ أولاً : النبتاتوكس والأسفار التاريخيّة.
إذا كنا لا نعثر مرارًا على الجذر "أ م ن" في بداية التوراة (نجد الفعل ثلاث مرات فقط في تك)، نلاحظ مع ذلك أننا نجده مرتبطاً بما يُسمّى الأوقات المؤسِّسة لشعب إسرائيل : الوعد لابراهيم (تك 15 :6). العهد (الاشتراعي) الذي قُطع مع موسى وشعبه (تث 7:7-9). والوعد لابراهيم وسليمان (2صم 7:18؛ 1مل 8 :28؛ رج إش 7:9؛ 28 :16). هذه الأحداث المؤسِّسة الثلاثة تدلّ أولاً على مبادرة إلهيّة لا ترتبط بصفات الشخص المختار. فالاختيار غير الانتقاء. والإيمان يظهر حين يكتشف الشخص أنه معنيّ بهذا الحدث.
(أ) الوعد لابراهيم (تك 15 :6). هي المرة الأولى التي فيها يظهر "أ م ن" في التوراة : فالإيمان لا يُوجد قبل ابراهيم في نظر أسفار الشريعة. وفي العهد الجديد، ظنّ كاتب عب بعد أن رأى المكانة الجوهريّة للإيمان في تاريخ الخلاص، أنه يجب أن نعود بالإيمان إلى البدايات (وحتى إلى بداية العالم، عب 11 :3) لكي نجدها لدى الأشخاص "المؤسِّسين" : الآباء (عب 11:1-29)، بل هابيل وأخنوخ ونوح، لأنه "بغير الإيمان يستحيل إرضاء الله" (11 :6). هذا مع العلم أن إيمان هابيل (الذي قدّم ذبيحة أكمل من ذبيحة قايين)، وإيمان أخنوخ (الذي أرضى الله)، وإيمان نوح (الذي سمع للوحي الإلهي)، يختلف بعض الشيء عن إيمان ابراهيم بما فيه من تجرّد أمام الله : أطاع حتّى عندما لم يفهم.
أشارت عب إلى أن الإيمان رافق موقف أشخاص من كانوا مفتاح تاريخ الخلاص. وبيّنت أن هذا الإيمان وُجد قبل أن "يتجسد" في شخص ابراهيم. وذكّرتنا أن إيمان إبراهيم بدأ منذ الانطلاق من أور، ساعة "انطلق دون أن يعرف" أين تحطّ به الرحال. ونوّهت عب، شأنها شأن رو 4 :20، أن في أصل الإيمان وعدًا (في اليونانية : ابانغاليا، رو 4 :13، 20؛ عب 11:9) مستحيلاً يتعدّى كل امكانيّات البشر (أن يرث أرضاً مع أن لا ذريّة له)، وعدًا شاملاً (تك 15 :5، 18؛ 17 :5؛ رو 4 :17؛ عب 11:12 : كنجوم السماء وكالرمل على شاطئ البحر) يرتبط به كيان الانسان ومصيره.
لم يكن هناك شيء واضح. بل إن ابراهيم وثق بهذا الوعد وانطلق في مغامرة هي مغامرة الإيمان. والإيمان منذ تك 15 :6 يتميّز بالاختيار الذي هو وعد من الرب، وعد عظيم وصغير في الوقت عينه، كما يتميّز بالانفتاح على المستقبل، أي على تاريخ لاحق مع هدف يصل إليه. وبثقة عمياء بهذا الوعد، وبالتخلّي عن كل ثقة بالنفس للاتكال على كلمة الله وحدها. ونلاحظ أيضاً أن الإيمان هو أيضاً رجاء (عب 11:1). رجاء جنونيّ سوف يتجسّد في اسحق قريبًا. وسيقرّب بولس أيضاً بين الإيمان (بستيس) والرجاء (إلبيس) (رو 8:24-25).
أما تك 15 :6 (آمن ابرام بالربّ) فتطرح سؤالين. أولاً، إن الترجمة العاديّة لعبادة "آمن ابرام بالرب" تجعل المعنى باهتًا، وتزيل قوّة فعل "آمن". وفي النهاية، يصبح ابرام انسانًا يقول بوجود إله يدير العالم (آمن بالله)، أو مؤمنًا ساذجًا بالربّ (وثق بالربّ). نستطيع أن نضع جانبًا حرف الجرّ "الباء" فنقول : صدّق الربَّ. صدّق كلمة الرب، رج رو 4 :18 مع رجاء يعارض كل رجاء. فالوعد، في نظر الإيمان، يتجاوز كل التجاوز ما نستطيع أن نراه وننتظره. بل هو يناقض ما نراه وما ننتظره. هذا ما يتعلّق بالشقّ الأول من الآية. ثانيًا، نصل إلى الشقّ الثاني "... فحسب له ذلك برًا" نحن هنا أمام "لغز" من وجهات عديدة. ولن نبحث عن الحلّ، بل نفهم في خطى بولس الرسول أننا أمام "عقدة" لاهوتيّه يرتبط فيها "الإيمان" و "البرّ". حين نتذكّر أن لفظة "برّ" تُشير إلى تاريخ الخلاص، نفهم أن ابراهيم قد ضُمّ إلى تاريخ الخلاص بإيمانه. ولكن هذا الإيمان هو منذ الآن إيمان فيه يستسلم الانسان كله إلى ذاك الذي يدعوه. فالإيمان هو الباب الذي يفتحه الله للبشر لكي يدخلوا في مسيرة تصميمه الخلاصيّ. و "المبرّرون" يكونون أناسًا لا ينظرون إلى ذواتهم، بل يجعلون ارتكازهم على وعد الله (نشير إلى أننا لا نجد كلمة "عهد" في هذا الخبر إلاّ في تك 15 :18).
(ب) العهد الاشتراعيّ (تث 7:7-9). نلاحظ أن "أ م ن" نادر جدًا قبل تث الذي يبدو في الأصل (1 :32؛ 9 :23؛ رج 28:66) خبر لاإيمان اسرائيل (عنصر رئيسيّ في تاريخ الخلاص) تجاه أمانة الله المستمرة والتي ستتغلّب في النهاية على هذا اللايمان. كما نلاحظ أمرين في خطبة موسى. من جهة، ما أراد الرب أن يكون في اسرائيل (وذلك عكس الأصنام التي تُرى) سوى "صوت" في اسرائيل (تث 4:12؛ يتعارض الإيمان والرؤية، ويتوافق الإيمان والكلمة). ومن جهة ثانية، هذا الصوت الذي ذكر المواعيد (المعطاة للآباء، ووحي حوريب مع عطيّة الوصايا 5 :1-22)، أعلن : "إسمعوا يا بني اسرائيل" (6 :4). هذا هو "شماع يسرايل" وفيه يتحدّث الله عن نفسه (6 :10-11، 21-23؛ 7 :1-2) فيصف ما سوف يفعل، أو ما الذي فعل، أو ما هو في الحقيقة. هو محرّر إسرائيل ومخلّصه. وقد أراد أن يكون "شماع" اعتراف الإيمان في اسرائيل (6 :10-25). وكل هذا يجد ذروته في 7 :7-9 حين تُعلن مجانيّة الاختيار بما فيه من لامعقول، كما تعلن استحالةُ المحافظة على الاختيار. فالشعب لا يستطيع أن يستند إلى نفسه، لأنه الأصغر وسط الأمم. ثم يُذكر في "شماع" خلاص يهوه التاريخيّ ومحبّته لشعبه بحسب المواعيد المعطاة للآباء (آ8). فالاختيار يدلّ هنا أكثر ممّا في موضع آخر، على طابع المفارقة : عقد الله عهدًا (7 :9) مع "أقلّ الشعوب" (رج آ7؛ رج مي 5 :1؛ 1صم 16:7-13؛ 1كور 1 :27، 29؛ 15 :8، 9). وهذا الاختيار يهيّئ الخلاص المقدَّم للجميع. أما الانتقاء فهو خلاص النخبة. حينئذ يقول الله عن نفسه إنه الإله الأمين (في العبرية : ن ا م ن، رج مر 11 :22)، عكس سائر الآلهة. وكل ما سبق وكل ما يلي (ف 9-10) سيدلّ على عدم أمانة اسرائيل.
هذا يعني هنا أن يهوه أتمّ ويُتمّ مواعيده، أنه الاله الامين (بستوس السبعينية) لكلمته، لعهده، وللذين عقد معهم هذا العهد. فلا يبقى لاسرائيل إلاّ أن يكون أمينًا، متكلاً فقط على كلمة الربّ. ولكن يصعب علينا أن نترك جانبًا المعنى البديهيّ للفظة "واثق" : الله يثق بوعده. ومناخ العهد يفترض ثقة متبادلة. وفي أي حال، نجد في كل هذا الإطار المواعيد (والاختيار والحبّ) والعهد مع الذي هو أقلّ الشعوب. نجد التاريخ السابق والتاريخ الآتي. وإذا كان فاعل فعل "آمن" هو الله، فلكي نتذكّر أنه وحده يلتزم بمواعيد ويؤمن بها، وأنه يحبّ لكي يدعو حلفاءه إلى أمانة مماثلة. فالانسان لا يستطيع أن يُصبح "أمينًا" الاّ إذا "آمن" أن الرب هو وحده "الأمين" الحقيقيّ. ويرتسم أيضاً أمامنا اعتراف إيمان أصيل في اسرائيل : "يهوه، إله الوعد والعهد هو أمين". بعد هذه سيأتي حدث العجل الذهبيّ الذي يعتبره تث "صنمًا" (9 :16)، ويراه هرون (خر 32:4-5) طريقة تصوّر الربّ الذي أخرج اسرائيل من مصر : هو إيمان صار منظورًا مع إله نمسكه بأيدينا.
(ج) الوعد المعطى لداود (2صم 7:13-16). استعمل الجذر "ا م ن" عمدًا في 2صم 7:13-16 : "أثبت عرش ملكه إلى الأبد. أنا أكون له أبًا... وأما رحمتي فلا أنزعها (ح س د) عنه... يكون بيتك (سلالة داود) وملكك ثابتين (أ م ن) على الدوام". نحن ههنا أمام تلاعب على الألفاظ. فبيت داود سيكون ثابتًا ومستمرًا بسبب وعد لا عودة عنه (ح س د). مقابل هذا، يستند هذا البيت إلى الله وحده (رج 1صم 25:28؛ 2صم 23:5 حيث الوعد المعطى لداود هو عهد أبدي). نجد ذلك في صلاة سليمان (1مل 8 :26). ليكن قولك (وعدك) الذي كلّمت به أبي ثابتًا (أ م ن). ليس الوعد مطلقًا آتيًا، وليس الإيمان شيئًا مشدودًا بين ماضٍ كامل ومستقبل يكون في الآخرة. ليس الإيمان لزمان آخر ومكان آخر. فهو يحتفظ بطريقته بجزء من الماضي، ويمسك بباكورة ما يأتي (عب 11:1-2). وهناك أيضاً وعد بسلالة ثابتة ليربعام، على مثال سلالة داود (1مل 11 :38. نلاحظ التحديد في آ39). لا شكّ في أنه دوّن كتابة في وقت متأخّر، فهذا ما يدلّ على إيمانه لأنه لم يعد آنذاك في اسرائيل من ملك داودي.
ثانيًا : الأنبياء. (أ) إشعيا. عُرف بتعلّقه الواعي بالوعد المعطى لسلالة داود كما لصهيون، فاستعمل فعل "أ م ن" في سياق مسيحانيّ (يراه اشعيا قريبًا). في إش 7:9-17 (تدخّل أشعيا لدى آحاز)، عرف اسرائيل الصعوبات، فطُلب منه أن يؤمن إيمانًا ثابتًا بتدخّل يهوه إذا أراد أن يبقى على قيد الحياة "إن لم تؤمنوا، لن تأمنوا". إن كنتم لا تؤمنون فلا تجدون الامان). وتوجّه هذا الكلام إلى آحاز الذي بدت ثقته ضعيفة بالوعد (الذي هو وارث له) والمواعيد التي يعطيها الله له الآن بواسطة النبيّ : فالآية (التي لفتت النظر وكانت صعبة في وضع سارة) ستكون الطفل، عمانوئيل (7 :14) الذي سيجلب على اسرائيل (وعلى سلالة داود) أيامًا لم يُر مثلها من قبل (آ17).
وهكذا نجد عند إشعيا هذه الأقطاب الثلاثة. وعد يعطيه يهوه (رغم الظواهر، بل ضدّ هذه الظواهر) لتاريخ يسير مسيرته، وهو سيتحقّق بثقة الانسان بالرب وبالتخلّي عن أية طمأنينة أخرى. فالوعد الذي يدلّ في الوقت عينه (على أمانة الربّ للمواعيد السابقة) هو العون الوحيد والمرجع الوحيد. ولن يؤمن اسرائيل إلاّ بقدر ما يتخلّى عن الثقة بنفسه وبحيلته السياسيّة.
(ب) يونان. انطلق أهل نينوى من خطبة لا يرد فيها اسم الله ولا اسم يهوه، فقرروا أن يؤمنوا بالوهيم، بالإله. وتُرجم هذا الإيمان الديني بتبدّل تام في عوائدهم وأعمالهم السيّئة. نظر الرب بعين الرضى إلى هذا الإيمان الوثني فبدّل هو أيضاً تصرّفه. يدلّ هذا المقطع أن الله متساهل تجاه مؤمنين في ديانات أخرى، حين يكون المؤمنون مؤمنين حقيقيين (2مل 5 :18-19).
ثالثًا : المزامير. (أ) بمراحم الرب أرنّم (مز 89). يدلّ مز 89 على الصراع بين إيمان اسرائيل بوعد الله الذي لا عودة عنه (آ1-38)، وتوقّف هذا الوعد في زمن المنفى وما بعده (آ4، 39-52). ويمضي الشاعر بعيدًا في هذا العتب على الله (آ48، 50)، وكأن اسرائيل يستعيد إيمانه بوعد الربّ حين يصنع كل شيء لكي يمرّغ هذا الوعد في التراب ويمرّغ نفسه أيضاً. ويطرح هذا المزمور سؤالاً : هل نستطيع أن نصدّق الله، أن نؤمن به؟ سيدرك اسرائيل أنه إن تقبل موعدًا يتفوّق بثباته على نظام الكون ومسيرة الكواكب (آ4، 6، 10، 37، 38)، فقد لا يحتفظ به إلى الأبد بسبب ضعفه وخياناته فليستعد إسرائيل إيمانه (إمونه، آ2، 3، 6، 25، 34، 50، لا تستعمل لفظة "إ م ت" بل فعل "أ م ن" في آ29، 38). وتسطع المفارقة في هذا المزمور بين آ35 (لا أنقض عهدي) و آ40 (نقضتَ العهد).
(ب) أصغوا يا شعبي إلى شريعتي (مز 78). اعترفوا للرب لأنه صالح (مز 610). يلاحظ هذان المزموران في تصويرهما لتاريخ الخلاص، أو بالاحرى في وصفهما لما في اسرائيل من لا إيمان، أنه إن وثق بنو اسرائيل بكلمة الله حين عبروا البحر الأحمر، فقد "طارت" هذه الثقة أمام الصعوبة والطريق المسدودة (610 :12؛ 78 :22؛ 32 :7). هم ما وثقوا بالعهد. سنجد في هذين المزمورين 37 مرة لفظة "إ م و ن هـ".
رابعًا : الأسفار الحكميّة. كل ما اكتشفناه حتى الآن (وحتّى سفر يونان) يُبرز اصالة إيمان اسرائيل. وتبدو هذه الأصالة بشكل أوضح حين نصل عند الأسفار الحكميّة التي تحاول أن تكتشف قاسمًا مشتركًا مع مختلف الحكمات في هذا الشرق.
(أ) سفر الجامعة. لا يتضمّن جا شيئًا يتفرّع من "أ م ن"، لا من بعيد ولا من قريب. كل ما نجده هو لفظة "إم ت" في 12 :10. جعلها الكاتب في نهاية السفر لتدلّ على أنه عرفها. ولكنه لم يستعملها لأنه اعتبرها غير مفيدة.
(ب) سفر الأمثال. ترد "إمرت" 12 مرة في أم، لتدلّ على اللسان الذي يمكن الركون إليه. أو هي ترتبط مع "ح س د" لتدلّ أننا نستطيع أن نثق بحكم الملك العادل إن هو حكم ورافق حكمه "إمت" (29 :14).
(ج) سفر أيوب. يستعمل "أ م ن" في أي مع النافية، ما عدا تساؤل فيه ما فيه من سخرية (39 :12). نحسّ، كما في زمن إشعيا، أن الحكمة التي تتضمّن الفطنة، والبعد عن المخاطرة، والحساب السياسيّ، والاطمئنان، لا تتوافق مع الإيمان (رج أش 5:21؛ 19 :11-12؛ 29 :14). يرى النبيّ أن يهوه هو وحده الحكيم. فلا نثق إلاّ به (أش 31:1-2؛ إر 8:8-9؛ 18 :18).
خامسًا : الأسفار القانونيّة الثانية والعالم اليهوديّ. لقد تصالح الإيمان والحكمة (سي 1 :27)، لأن الإيمان "تحكّم"، ارتدى الحكمة. وبقدر ما يتحوّل تاريخ الخلاص إلى كتابة فيتجمّد داخل تفاسير محجّرة، يصبح الإيمان طاعة لكتابة، لشريعة : في يه 14 :10، قام إيمان العموني أحيور على الختان والانضمام إلى الجماعة اليهوديّة. لقد تجمّد تاريخ الخلاص في التذكّر وتحوّل إلى عالم جلياني يقع خارج الزمن. وبانتظار هذه النهاية، يُصبح الإيمان محافظة على أعمال التقوى (سي 32 :23). قد وصلنا هنا إلى أمانة الانسان تجاه نفسه، وهذا أمر رائع، ولكنه يتعارض مع إيمان ابراهيم.
هي ثقة كبيرة بالله (سي 2 :6، 8، 10، 13) بحيث تصبح مخافة الرب بشكل صورة باهتة على مثال الطاعة للشريعة. وهكذا لا ينطلق الانسان في مغامرة مع الله كما فعل ابراهيم. واللافت هو أن هذا الإيمان سيصبح ثقة ويصبح فضيلة بين سائر الفضائل. ففي مديح الآباء كما في ابن سيراخ، تقدّس موسى وصموئيل بأمانتهما (بستيس، سي 45 :4؛ 46 :15). ويقول النصّ عن ابراهيم إنه "عند الامتحان وُجد أمينًا" (44 :20). اجتمع الإيمان مع الطابع البطولي الذي فيه تخلّى ابراهيم عن اسحق. وإشعيا العظيم بدأ أمينًا في رؤاه (48 :22). وهكذا صار الإيمان أمانة وثقة. وغاب الوعد والمخاطرة، وإن ظلّ مدلول العهد حيًا (سي 44 :11-12، 45). وإن كان ابراهيم نموذجًا، فما وُجد أحد مثله (سي 44 :19-20؛ رج 1مك 2 :52). ثم إن أمانة ابراهيم تتواصل مع برّ الله. وهذا سيكون واضحًا في قمران حيث الامانة (والثقة) تشارك في الخلاص. "نال ابراهيم الخلاص بأمانته". أي بفضيلته.
وكما غاب مدلول الوعد، غابت ديناميّة الإيمان التاريخيّة، غاب اليقين بأننا ندخل في مشروع إلهي يفرض علينا اليوم أن نجد جوابًا نقدّمه. وهكذا نصل إلى 2مك 3 :12 حيث الإيمان صار إيمانًا بالهيكل وبأن لا شيء يقدر عليه (ما تعلّموا شيئًا من المنفى).
سادسًا : الأناجيل الازائية. (أ) وجود اللفظة. ما هو غريب هو أن الازائيين لم يستعملوا "إيمان"، "آمن" إلاّ قبل الصلب والقيامة (ما عدا مر 16:13، 14، 16، 17؛ رج يو 20 :8، 25، 27، 29). لا شكّ في أن لو اكتشف أمام المصلوب بداية الإيمان مع اللصّ (23 :40)، ومر 15 :39 لدى قائد المئة. ويجعل متّى هذا الإيمان لدى الحرس (27 :54). ولكننا لا نجد حديثًا عن "الإيمان"، بل عن "المخافة". إذن من الواضح أن الإيمان الذي يتحدّث عنه الإزائيون ليس ملء الإيمان بالمسيح المصلوب والقائم من الموت، بل هو الإيمان الذي ينتظر. هو إيمان استباقي، ولكنه لم يدرك كل شيء.
(ب) الإيمان والمعجزات. ذكر الشرّاح المعجزات (سيمايا في اليونانيّة) الكثيرة (عند الازائيين) التي يرافقها الإيمان أو كلمة يسوع حول الإيمان (مر 2:5؛ 5 :34-36؛ 9 :23-24؛ مت 8:10؛ 15 :28...). نجد بنية ثابتة (تلقي ضوءً ا على الإيمان) لأخبار المعجزات هذه. (1) وجود شخص يعيش على هامش المجتمع، أو مريض مرذول، أو ممسوس (يقيم فيه شيطان) : الابرص، النازفة، الغريب، الاعمى، المصاب بداء الصرع، المخلّع. (2) يتوجّه هذا الانسان نحو المسيح، يتجاوز الحدود التي كانت تفصله عن الآخرين، لأنه اعتبر أن رحمة يسوع هي الأقوى، وأن الرب لن يترك الأمور كما كانت (مر 5:7). في هذه المحاولة (بما فيها من خطر، ولا سيّمـا بالنسبة إلى الأبرص)، وفي هذا اليقين بلقاء الرحمة والتفهّم والشفاء، يرى يسوع الإيمان. قد يبدو هذا الإيمان في نظرنا ضعيفًا، سريع العطب، بدائيًا، سحريًا. قد يبدو مجرّد ثقة تجعلنا نبتسم (مر 2:5؛ رج لا 15 :23). ولكن هذا لا يمنع أن تكون هذه العاطفة السابقة للإيمان، هذه الثقة المدهشة والمستعدّة لتجاوز القواعد الاجتماعيّة والدينيّة، إيمانًا حقيقيًا في نظر يسوع بحيث نراه يدلّ على دهشته وإعجابه (مت 8:10؛ 15 :28). لماذا؟ لأنه يستبق الإيمان بالمسيح المائت والقائم من الموت : ذاك هو وضع الكنعانيّة (مت 15:28) التي تطلب المشاركة في الوعد مع احترامها لمفهوم الاختيار (أولويّة شعب اسرائيل). وأظهر لنا إيمان قائد المئة (مت 8:8-9) مجيء الأزمنة المسيحانيّة التي فيها يؤمن جميع الوثنيين (8 :11). إن هذين الشخصين دخلا بطريقتهما في تاريخ الخلاص. ونتذكّر أيضاً أن يسوع رفض التجربة التي تجعل الإيمان يستند إلى المعجزات : فالتجربتان الأولى والثانية (مت 4:1-6) هما "أمران" باجراء معجزة. وفي لو 11 :29، سمّى يسوع الجمع "جيل فاسد" لأنه اجتمع لكي يرى آية، لكي يرى معجزة. فحيث لا أية لا إيمان (يو 2 :24). عندئذ يزول الإيمان هو أيضاً (مر 6:5). لا يريد الجمع أن يؤمن بيسوع، بل أن "يُسحَر" به كما في الدخول المظفّر إلى أورشليم.
(ج) إيمان الرسل. إن حدث قيصريّة فيلبس (مت 16:13-23) له مدلوله. فمع أننا لا نجد لفظة "إيمان"، فنحن نستطيع أن نرى في هذا الحدث إرادة يسوع بأن يساعد تلاميذه لكي يصلوا إلى إيمان يعي "موضوعه". وقد بدأ هذا مع سؤال حياديّ في آ13 : "من هو ابن الانسان في رأي الناس؟ وجاءت أجوبة كلها حرارة، مع بعض التملّق من قبل التلاميذ، فتلّخصت في عبارة كلها إعجاب : يسوع هو عظيم (في تاريخ الخلاص). تحدّثوا عن يسوع في صيغة الغائب المفرد، وعادوا به إلى أشخاص آخرين يشبهّونه بهم. غير أن يسوع لا ينتظر الإعجاب والدهشة. لهذا جاء سؤال آ15 : "ومن أنا في رأيكم أنتم؟" سؤال شخصي يطلب جوابًا شخصيًا، جوابًا فيه نُلزم ذواتنا. كل واحد منا يُنادى باسمه من أجل جواب حقيقيّ ولقاء حقيقيّ. عند ذاك يأتي جواب بطرس الذي سُمِّي وبحقّ أول اعتراف إيمان مسيحيّ : "أنت (يسوع الناصري) المسيح ابن الله الحيّ". ربّما لا يعرف بطرس ما وراء هذا الاعتراف الإيماني (آ23)، ولكن من الواضح أنه ربط حياته بشخص يسوع الناصريّ. لقد انتقل بطرس من الإعجاب أو الصداقة والثقة إلى الإيمان، فاكتشف أن يسوع هو حاضره ومستقبله. وانخرط بطرس في طريق جديدة كل الجدّة، فأعلن إيمانه مستعملاً صيغة المخاطب المفرد : "أنت". فلم يعد من مقايسة بين صاحب الإيمان (بطرس) وموضوع الإيمان الذي هو يسوع المسيح إبن الله.
أوضح يسوع الوضع لبطرس، وجنبّه تفكيرًا يعتبر أن هذا الاكتشاف جاء منه (من اللحم والدم، من الضعف البشري)، فذكّره اختيار الله له، ونبّهه إلى أن الآب هو في أصل هذه التطويبة : هنيئًا لك يا سمعان (آ17). ويرفق يسوع عمل الآب هذا بوعد (آ18-19). ولكن الإيمان لا يستطيع أن يعيش وينمو دون أن يسعى لكي يعرف ذاك الذي به يؤمن. وبدأ يسوع حالاً "يؤثّث" هذا الإيمان المسيحيّ الذي هو ارتباط بشخص يسوع المسيح، فأوضح هويّة هذا المسيح الذي سلّم إليه بطرس حياته (آ21) : "يجب... أن يتألّم... ويموت". تمزّق بطرس بين أفكار تلقّاها حول المسيح، وبين ما يقوله يسوع له الآن، فحاول أن "يخرج" من إيمانه وهو يسعى لكي "يُخرج" يسوع من مسيحانيّته. أراده مسيحًا مظفّرًا، فاستعاد لغة المجرّب. لهذا قال له يسوع : "ابتعد عني يا شيطان". إن مضمون الإيمان هنا، هو مسيحانيّة يسوع المتألّم، وهو يترافق مع تذكّر الاختيار الذي هو أيضاً نداء إلى التواضع (الآب هو الذي يُعطي هذا الإيمان)، وتذكّر الوعد : فالجماعة التي تعلن إيمانها مثل بطرس تنتصر حتّى على مثوى الأموات (آ18).
رأى عدد من الشراح تقاربًا بين حدث قيصريّة فيلبس (تقع بين العالم الوثنيّ والعالم اليهوديّ) و "دعوة" ابراهيم. فكأني ببطرس استعاد إيمان ابراهيم واكتشف مضمونه الحقيقيّ : "يسوع هو المسيح". الوعد هنا يتوازى مع الوعد هناك : الشعوب العديدة مع ابراهيم. وجماعة أقوى من قوى الموت مع بطرس.
(د) الإيمان واللا إيمان. غير أننا نجد بعض المقاطع الصعبة : تلك التي يكتشف فيها يسوع "اللا إيمان" (أو الكفر، أبستيا)، الذي ليس "الشكّ"، بل "الرفض". الشكّ نادر في العهد الجديد (مت 14:31؛ 28 :18). ولكننا لا نستطيع أن نقول الشيء عينه عن اللاإيمانهم (مر 9:19؛ رج 4:40). فما عندهم "حبّ إيمان" (مت 17:20). نلاحظ أول ما نلاحظ في وضع الولد المصاب بالصرع (مر 9:18) الذي قال فيه التلاميذ بفم والد الولد إنهم لم يستطيعوا أن يشفوه، ولم يتحدّثوا عن لاإيمان. أما يسوع فلا مهم على مستوى الإيمان. موقفهم هو موقف لاإيمان حقيقيّ وقام. ظنوا أن الإيمان أمر سحريّ، أنه سلطان وقدرة (اسخيوو، كانت له القدرة، آ18)، وأنهم قد نالوه مرة واحدة وهم يتصرّفون به على هواهم. لقد وضعوا يدهم على الإيمان وحوّلوه إلى مقدرة. لهذا هم "جيل شرير". هم لا يعرفون بعد أن الإيمان عطاء مجاني (هناك تلميح إلى الصوم والصلاة في آ29). حين نظنّ أننا نستطيع أن نفعل بالإيمان كل ما نشاء، فهذا ليس الإيمان بل اللا إيمان. فلا بدّ من الصلاة التي فيها يسلّم الانسان ذاته بكل ما فيها من قوّة وضعف، من أعمال وشقاوات ومكاسب، ليحلّ محلّها الإيمان الذي ينتظره يسوع. يجب على الانسان أن يتخلّى عمّا يكوّنه اما يأتيه من الخارج ويكونّه) وعمّا يفعله (لا 9 :23) لكي يستطيع الله أن يجعل الإيمان في قلب أفرغ من ذاته ويودّ دومًا أن يمتلئ. هناك عبارة "كان له إيمان" ((مت 17:20؛ مت 21:21؛ مر 4 :40...). وعبارة : "أومن قلة إيماني" أو : "عندي إيمان! ساعدني حتى يزيد" (مر 9:24).
أما لاإيمان الجمع فيقوم في أنهم يطلبون معجزات لكي يعفوا نفوسهم من الإيمان. يحسبون الإيمان شيئًا يمتلكونه ولا يريدون أن يؤمنوا. فالإيمان يستبعد الرؤية والعكس بالعكس (يو 20 :29؛ 2كور 5 :7). ونضيف : إن الإيمان الذي التقى به يسوع في عصره، لا يبدو أنه إيمان ابراهيم، إيمانًا مؤسّسًا، إيمانًا مستحيلاً يتعلّق بالوعد وبه وحده لكي ينطلق نحو مستقبل لا شيء يدلّ على واقعه. فالإيمان الذي التقى به يسوع هو اعتقاد بإله اختار اسرائيل فأعطى الطمأنينة لاسرائيل. هذا الإله يكونون أمناء له بواسطة التقدمات والصلوات، ولكنه لا يطلب ما طلبه يوحنا المعمدان. نسوا أنه يريد تبدّلًا تامًا في الحياة. من أجل هذا، وجد يسوع الإيمان الحقيقيّ عند الغرباء الذين تحدّوا حدود الهزء ليأتوا إليه ويرتبطوا بالمسيح في مخطّط الله الخلاصيّ (مت 8:11؛ 15 :27-28؛ 22 :4) حيث يُعرف يسوع كابن داود). لا شكّ في أن "الجمع" ارتبط بالمسيح (ولكن لمدة قصيرة) ولكنه لم يكتشف الجديد في هذا الشخص، كما لم يكتشف المغامرة التي يوجّهه إليها. نظروا إليه كما نظر إليه نيقوديمس : معلّم عظيم (يو 3). فلا بدّ من الصلب والقيامة لكي يجد الإيمانُ أخيرًا مكانته الحقيقيّة. غير أن يسوع لا يحتقر مثل هذا "الإيمان الصغير" شرط أن لا يبقى حيث هو.
(هـ) الإيمان والصلاة. يرتبط الإيمان والصلاة عند الإزائيين. ولكن يجب أن نعرف أن أول صلاة ينصح بها يسوع هي : "أعن قلّة إيماننا" أو : "ساعدني حتى يزيد إيماني" (مر 9:24). نطلب أولاً الإيمان. ثم نعلن ثقتنا بالذي نرفع إليه صلاتنا، وهو أبونا الذي له نقول : "لتكن مشيئتك"! وسيكون الإيمان أيضاً مواجهة مع الله (لو 18 :1-2) ومثابرة حتى "الإزعاج" (لو 11 :5-8) لأنه جعل منا أبناء يستطيعون أن يعلنوا "كرامتهم" كأبناء، وارادتهم بأن يستسلموا بكلّيتهم، مثل يسوع المسيح (مر 14:39) لمشيئة الآب. فصلاة الإيمان ليست صلاة الوثنيين (مت 6:7) التي تحمل فاعليّتها في ذاتها. صلاة الإيمان هي عكس الصلاة السحريّة.
(و) الإيمان ويسوع المسيح. يرى الإزائيّون أن الإيمان ينطلق من ثقة كبيرة (عمياء ومتجرّئة) بشخص يسوع المسيح (فيها المخاطرة) التي ترى فيه رابي صاحب سلطان (اذن، لا تلتجئ إلى سلطة أخرى)، أو إبن داود (لو 8 :38)، إلى إيمان فيه انقطاع عن التضايقات العاديّة. نتخلّى عن ذاتنا ونرى أن يسوع المسيح هو الممكن الوحيد لحياتنا. يترافق هذا الإيمان مع اعتراف إيمانيّ بالمسيح ابن الله وملك اسرائيل. "يتركني" الإيمان ليكون كله في يسوع المسيح الذي يضمّني إلى قصده الخلاصيّ. رج مثَل الوزنات، مثل السيّد الذي سلّم البيت إلى عبيده (مت 24:45؛ 25 :14-15؛ لو 19 :12). مثل الكرمة أو الكرّامين (مر 12 :1-2وز ). مثل التينة العقيمة (لو 13 :6). هنا تعود إلى رو 5 :11؛ 2كور 5 :18-19 والمصالحة. أما ثقة يسوع بالآب فبدت حين استسلم كليًا خلال مروره في ظلام يوم الجمعة العظيمة (مر 15:34) قبل أن يقول لأبيه : "في يديك استودع روحيّ" (لو 23 :46).
سابعًا : إنجيل يوحنا. لا يستعمل يو أبدًا الاسم "الإيمان"، بل فعل "آمن" مع حرف "ايس" (نحو، باتجاه).
(أ) الحوار مع نيقوديموس (يو 3). جاء نيقوديموس يرى يسوع بعد أن أعجب به (آ2). علمَ أن يسوع هو رابي يرافقه الله بحضوره، وهو يستطيع أن يعلّمه لكي يرفعه ويذهب به بعيدًا في معرفة أكمل للتوراة. رأى أن يسوع جاء لكي يجعله يتقدّم في الطريق الذي يمشي عليه من زمن بعيد، أو يرفعه درجة أو درجتين نحو ملكوت الله. يسوع معلّم يجعله أكثر علمًا وأكثر فضيلة. كان نيقوديموس منفتحًا، مستعدًا، مليئًا بالاحترام ليسوع. وهكذا قد يظنّ الناس أن نيقوديموس مؤمن كبير. عندئذ تأتي جملة فجّة : "آمين، آمين (الحق الحق. هذه هي الحقيقة الحقة)، لا يستطيع أحد أن يرى الملكوت إن لم يُولد من فوق" (آ3). هذا يعني رفضاً لموقف نيقوديموس. فجواب يسوع القاسي يقابل رفضه لخلاص متدرّج وتراتبيّ يفهمه نيقوديموس.
ما فهم نيقوديموس هذه الجملة، فرأى في كلام يسوع ولادة جديدة، لا ولادة من فوق (آ4). فالإيمان بيسوع المسيح ليس تكرارًا لما سبق. ولا مسيرة تقودنا إلى الأمام. فنرتفع بعض الشيء أو نقترب. كشف له يسوع أن العلم الكبير والأعمال الحسنة (نيقوديموس هو انسان أمين وسخيّ، رج يو 19 :39) لا تفيد من أجل الدخول إلى الملكوت الجديد. بل هي تضايق المؤمن وتبقيه على مستوى اللحم والدم (آ6). فلا بدّ من معطية جديدة جدًا، لا بدّ من الإيمان (الذي يأتي من الروح) الذي يتيح لنا أن نرى في يسوع شيئًا آخر غير "رابي". إذن، ليس الإيمان ولادة ثانية (جسديّة)، بل ولادة من نوع آخر، لعالم هو عالم حرية الريح والروح. ليس الإيمان مسيرة إلى الأمام وإلى فوق. بل توقفًا عند الصليب. عاد به يسوع إلى الحيّة في البرية. ولكن نيقوديموس لم يفهم حبّ الله العظيم من أجل العالم. فاسرائيل كله، ونيقوديموس، ما كان ينتظر مسيحًا متألمًا.
(ب) إقامة لعازر من الموت (يو 11). في خبر إقامة لعازر وعودته إلى الحياة، نتوقّف عند حوار مرتا مع يسوع (آ21-27). آمنت مرتا (وآمن اليهود مثلها) أن القيامة ستكون في نهاية الأزمنة. أنها حدث تاريخيّ يُقيم في مستقبل مطلق (آ24). أنها حدث نعرف به ولا نعيشه. عند ذاك أعلن يسوع أن القيامة هي الآن، هي حين يكون هو هنا وحين نؤمن به تبدأ الحياة الأبديّة (آ25-26)، الحياة التي تستمرّ رغم الموت (آ25)، بل تجهل الموت (آ26) والدينونة (3 :18). فالقيامة والحياة (الابديّة) هما شخصان في لقاء واحد، هما شخص يسوع الذي هو واقعهما. والمؤمن ينتصر منذ الآن على موته حين يمرّ إلى الحياة الجديدة. حينئذ نفهم سؤال يسوع : "أتؤمنين بهذا"؟ أي أتؤمنين أن قيامة الموتى هي دخولك منذ الآن في الحياة الجديدة؟ فأعلنت مرتا إيمانها بكلمات تشبه كلمات بطرس في مت 16:16 : "نعم يا سيد! أؤمن بأنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم" (آ27). لقد حوّل الإيمان خطبة عادية عن الآخرة إلى مشاركة وجوديّة وحاضرة بالقيامة الآن. في الواقع، يو 11 هو خبر قيامة مرتا التي آمنت بالمسيح فبلغت الآن إلى الحياة الأبديّة.
(ج) الإيمان والآيات. هناك لفظتان متلازمتان : رأى وآمن. أو : آمن وما رأى. أو : رأى وما آمن. (رج 2:23؛ رج 4:48؛ 6 :30 36؛ 8 :1 ي؛ 20 :8، 25؛ رج أيضاً 2 :11؛ 4 :39. وفي 3 :15، 16، يقابل النظرُ إلى الحياة الإيمانَ بالمسيح. يرى يو في بداية رسالة يسوع أن "المرحلة" الأولى في الإيمان كانت رؤية المسيح "الكلمة الذي صار بشرًا" الذي يعرّفنا بذلك الذي لم يره أحد قط (1 :18). وهذا يرتبط بالتجسّد الحقيقي للكلمة (لوغوس)، بأنه جعل خيمته بيننا (يو 1 :14)، فلمسه البشر ورأوه (1يو 1 :1). هنا نشير إلى أهمية فعل "رأى" في يو 1 : رج آ29، 32، 33، 34...
وهناك أيضاً لفظتان : جاء ورأى. أو : جاء ليرى. يجب على الشهود الاولين أن يروا أولاً لكي يستطيعوا في يوم من الأيام أن يعترفوا بذلك الذي رأوه، والذي لن يستطيعوا أن يروه بعد. إذن، الرؤية ضرورية لكي يلد الإيمان في الجيل الأول المسيحيّ. بعد ذلك، "غرس" يسوع بضع آيات، وهكذا يستطيع التلاميذ بعد الفصح القيامة أن يفسّروا بدون خطأ ما رأوا وذاك الذي رأوه.
إذن سيلد الإيمان مع هذه "الآيات" أو هو يستند إليها. غير أن هذه الآيات هي علامات تعيدنا إلى الحدثين اللذين يعطيانها حقيقتها : الصليب والقبر الفارغ. كل شيء يبدأ مع قانا (3 :1-12) أولى الآيات. ولكن يوحنا ينبّهنا سريعًا مع 2:23-24 : "آمن كثير من الناس باسمه عند رؤيتهم العجائب التي كان يجديها. أما يسوع فلم يكن "يؤمن" ( يثق، يطمئن) بهم (فعل بستاوو في الحالتين) لأنه كان يعرفهم كلهم" (أو : يعرف ما فيهم). إن يسوع يعلم أنه إن كانت "الآيات" ضروريّة لتأسيس المسيحيّة، إلاّ أن إيمانًا لا يستند إلاّ إلى الآيات والمعجزات يبقى إيمانًا مهدّدًا بانتظار أن يتحوّل عن هدفه. وستصبح الآيات نادرة في (يو 4 :54؛ 6 :2، 14؛ 10 :41 حيث ينفصل الإيمان عن الآية). مثلاً، آمنوا بما قاله يوحنا المعمدان عن المسيح، "مع أنه لم يصنع آية واحدة" (يو 10 :41) بل بدأوا يؤمنون "بالكلمة" (4 :39-42 6 :68-69؛ 8 :37-38). لا شكّ في أن الجموع ما زالت "تؤمن" بيسوع على أثر آيتين هما إقامة لعازر (11 :45) والدخول المظفّر إلى أورشليم (12 :18). ولكن في 12 :17 بدت المسافة واضحة بين الإيمان والآيات. فالناس لا يؤمنون رغم الآيات، بل بسبب الآيات التي لن تُذكر حتى 20 :30. وهكذا اتّضح أن ما هو عجائبيّ لا يمكن أن يترافق مع الإيمان بيسوع المسيح. وهذا يتأكّد في الجدال الذي يلي شفاء الأعمى منذ مولده (ف 9) : العميان الحقيقيون الذين لا يرون شيئًا هم الذين يظنّون أنهم يرون (آ39-41). أعلن يسوع أن الإيمان يبدأ بالعمى، بوضع لا نرى فيه شيئًا، لا نفهم شيئًا. نبدو فيه ضعفاء وعاجزين مثل ابراهيم (رو 4:19-20).
(د) الظهور لتوما (20 :24-29). في هذا السياق نقرأ خبر توما اللامؤمن، ساعة يتكلّم يسوع عن الكنيسة التي تلد فيعلنها سعيدة (يطوّبها) لأنها ستؤمن مستندة فقط إلى شهادة الرسل (19 :35) لا إلى الآيات. فالإيمان المؤسّس على الكلمة أكثر متانة وحقيقة من الإيمان المؤسّس على المعجزات أو تثبيتات منظورة ووضعيّة قد تجعله يضلّ أو تشوّهه. وحدث توما (لا يتحقق توما من آثار الجراح، بل يتعرّف فقط إلى كلمة المسيح، 20 :6-8، 16؛ 21 :4) يجد ذروته في اعتراف إيمان : "ربي وإلهي" (20 :28).
في خطّ هذا الحدث، نرى بطرس يزور القبر الفارغ : "رأى وآمن" (20 :8). ولكن التلميذ ما رأى سوى الفراغ، بل سوى الغياب. وعليه في هذا الغياب أن يشهد منذ الآن : لم يعد يسوع موجودًا حيث وُضع. إن الإيمان الرسولي بالقيامة يبدأ بتأكيد : "يسوع لم يعد هنا". أو : "هو هنا" ولكننا لم نعد نراه. إنه حاضر ولكن بشكل آخر. ويعيد يوحنا تفسير كل ما سبق ورآه وسمعه. "آمن" أي "فهم كل ما قاله يسوع وعمله". وهكذا يصبح الماضي حاضرًا أكثر ممّا كان حين حصل. لا شكّ في أن هناك المنديل والأكفان (آ5-6) ولكن يوحنا لا يسميها "آيات" (علامات). بل هي "رباط الموت" (مز 18:5-6؛ أع 20:24). هي "ما تبقّى" من موت. تجاوزها يسوع، قهرها، جعلها في المهملات (آ7). وما تكلّم الإنجيليّ أيضاً عن حدث الفصح كأنه آية، ولا عن الجلجلة (ما عدا في 2 :18-19؛ ق لو 11 :30؛ مر 12:39). فالصليب والقيامة ليسا بعدُ "آية" بل واقع حبّ الله بالذات بعد أن رُسم آية بعد آية. يدلاّن على خلاصنا الذي حصل في تاريخ هيّـأه الله قبل إنشاء العالم (1بط 1:19-20). لهذا فالإيمان الذي يُولد بعد الفصح والقيامة لن يكون إيمانًا ضعيفًا، إيمان من "يرى" بعينيه. بل إيمان حيّ وفاعل يتقبّل بلاغ الأحداث الخلاصيّة في ملئها، وإن لم نر هذه الأحداث بل رُويت لنا وكتبت (رج يو 20 :31). من الواضح أن بعض الآيات التي تحيلنا إلى المسيح المصلوب والقائم من الموت تعلن عند يو ( 2 :10-11؛ 6 :51-57) آيات جديدة بها يقدّم يسوع نفسه ويُعلَن لنا ولإيماننا. عنيت بها الأسرار.
ثامنًا : الرسالة إلى العبرانيين. في نظر عب، "الإيمان هو قوام المرجوات (أي ما نرجو ) وبرهان الأمور التي لا نراها" (اللامركبات) (11 :1). ارتبط الإيمان بما لا يُرى (رج يو 20 :29). ولكنه ارتبط بالرجاء (رج 8:24-25). فالرجاء يشدّد على البعد التاريخيّ للإيمان الذي ليس فقط نورًا مشعًا على شخص يسوع المسيح، بل دخولاً في تاريخ لا يُرى بعدُ هدفه المرجو بثبات (يتكلّم الكاتب بشكل خاص عن الإيمان قبل مجيء المسيح)، كما لم يُدرك بعد. في نظر عب 11، الإيمان هو ما جعل أشخاص العهد القديم ينطلقون إلى الأمام، فما سمح أن تكون مسيرتهم عمياء. وهكذا يساعدنا الإيمان لكي نفهم الإطار المسكوني لتاريخ الخلاص (عب 11:2؛ رج رو 8 :19-23. يرتبط الله الخالق بالله المخلّص). منذ الآن ينتصر الإيمان على الموت (11 :5، 19). لسنا بعد أمام الإيمان بيسوع المسيح، بل الإيمان الذي يتوجّه إلى يسوع المسيح أو الإيمان نحو الإيمان بيسوع المسيح. لم يعرف هابيل ولا الذين جاؤوا بعده شيئًا، ومع ذلك فيسوع هو في أصل إيمانهم. يسوع هو هدف إيمانهم. ولكن هذا الإيمان يوافقنا نحن اليوم أيضاً بقدر ما يتماهى مع الثبات في المحنة (12 :4).
تركت عب حيّزًا واسعًا لإيمان إبراهيم، ووسّعت الصورة (الأمنية لما في تك 15 :6) التي قدّمها بولس في رو 4. بالإيمان أجاب ابراهيم على النداء (عب 11:8) فانطلق إلى حيث لا يدري. بالإيمان أقام كغريب في كنعان. وسارة أيضاً مُنحت الإيمان (وقد يكون إيمان ابراهيم). نالت قوّة بها تحمل ولدًا وتلد (11 :11). وإذا كان الآباء قد ماتوا في الإيمان، فبانتظار أرض الموعد التي حيّوها من بعيد (11 :11، 13). وعاد الكاتب إلى إيمان ابراهيم وهو يضحّي بابنه الذي هو مستقبل الوعد ومستقبل الخلاص (11:19. أراد الكاتب أن يعطي شرحًا عقليًا لإيمان ابراهيم). بعد ذلك، نجد هذا الإيمان مرتبطاً بتاريخ الخلاص الذي يحيا منه البشر دون أن يمسكوه، الذي يلامسوه دون أن يستطيعوا أن يضعوا يدهم عليه (آ13). إذا كان المسيح هو الألف والياء، فالإيمان هو الرباط بين الاثنين. الإيمان ثقة ديناميكية في مشروع الله ومسيرة تنطلق إلى الأمام لرجاء يأتي من المسيح ويسير إلى المسيح. وفي ختام هذه اللوحة الرائعة، ترتبط عب الإيمان بالتاريخ الآتي (12:1-4) فتبيّن حضور الماضي (12:1).
تاسعًا: رسالة يعقوب. عند يع، يكون الإيمان "بلا ارتياب" (1:6). فيجب أن نكون أغنياء فيه (2:5). لنا الإيمان. نحن نمتلك الإيمان (2:14) كما نمتلك الأعمال. الإيمان يستطيع في ذاته أن يخلص (2:14). ولكن يمكنه أيضاً أن يكون ميتًا (3:17). يجب إن يُرى الإيمان من خلال الأعمال المنظورة ( 2:18؛ رج مت 5:16؛ ق مت 6:1، 5، 16؛ 1كور 13:4). وهكذا كانت يع أمينة للتقليد اليهوديّ. الإيمان فضيلة، يكون العنصر الرئيسيّ فيها ثقة بالله. وهذه الثقة تقوم بالطاعة له وتتميم الأعمال التي يطلب. نحن هنا بعيدون بعض الشيء عن النظرة البولسيّة ولا سيّمـا في تفسير إيمان ابراهيم (رج آ21) وإيمان راحاب (رج آ25) على أنه ثقة واتكال.
نحن مع يع قريبون من العالم اليهوديّ. ولكن هذا لا يعني أن الكاتب يطلب العودة إلى الممارسات اليهوديّة: "شريعة هي شريعة الحريّة" (1:25؛ 2:12). يتحدّث الكاتب عن الإيمان بالله الواحد ويذهب إلى القول بأن الشياطين أيضاً يؤمنون بالله ويرتعدون (2:19). وفي النهاية، تسخر يع من الذين يُسيئون فهم بولس.
عاشرًا: أعمال الرسل. نرى في أع نتيجة ما بشّر به الرسل. فبعد حدث العنصرة شهدت الكنيسة، بفم بطرس، للمسيح "الذي سُلّم بحسب قصد الله، قُتل، صُلب، ولكن الله نجّاه من قيود الموت" (2:23-24). ونجد شفاء المخلّع (الذي طُرد من المجمع بسبب عاهته) الذي شُفي "بالإيمان باسم يسوع" (3:16). إيمان الرسل أو إيمان المريض (آ16). وكان هذا العمل مناسبة لشهادة ثانية من قبل بطرس الذي ذكر وحدة العهدين(3:13. لم ينسَ ابراهيم)، وأعلن المصلوب الذي قام من الموت (3:15)، ودعا إلى التوبة مرة ثانية (3:19؛ رج 2:38).
وسيُقال لنا مرارًا في أع ان كثيرين آمنوا بعد أن سمعوا "الكلمة" (4:4). أما المعجزات فكانت تحرّك الدهشة فقط. ويترافق الإيمان مع التوبة إزاء هذا الجيل الفاسد (2:40)، الجيل الذي لا يرى في المصلوب ربّ المجد.
حادي عشر: سفر الرؤيا. لا نجد أي استعمال لفعل "آمن" في هذا الكتاب المليء "بالرؤى". ولكننا نجد أربعة استعمالات للفظة "إيمان": "نحفظ الإيمان" (14:12) أو "لا ننكره" (2:13). ويسمّي سفر الرؤيا المسيح "الشاهد الأمين" (1:5)، ذاك الذي نؤمن به حين نشهد له، وحين يعدنا بأنه آتٍ.
ثاني عشر: الرسائل البولسيّة. (أ) الإيمان وسرّ الخلاص. لم يتفجّر مفهوم الإيمان كاملاً عند بولس على طريق الشق. بل هناك مسيرة، هناك تاريخ الإيمان. فصورة المسيح التي كانت عنده من قبل هي صورة التقليد كما في التوراة. هي صورة "مسيح" يهوديّ وممجَّد. هذه الصورة تحطّمت في الطريق إلى دمشق. فالمسيح الذي اكتشفه عندذاك، هو يسوع الناصري الذي يضطهده، يسوع الذي صُلب يعد أن فشل في رسالته على المدى المنظور، فقتلته الشريعة. اكتشف بولس ما اكتشفه بطرس في قيصرية فيلبس: يسوع الناصري هو المسيح. وعلى هذا المسيح أن يتألم ويموت. هذا ما شرحه يسوع لبطرس. ولكن لا بطرس ولا بولس فهما أي تبدلّ يوافق كلّ هذا. فحسب أع 9:22، كانت أول كرازة لبولس تبيانًا لمسيحانية يسوع. هنا لا ننسى أن إيمان بولس، شأنه شأن كل يهودي، ظلّ متعلّقًا بتاريخ، وإن كان هذا التاريخ قد خسر جزءًا من ديناميّته.
بعد أن اهتدى بولس، أدرك أن يسوع ليس مرحلة في هذا التاريخ، شأنه شأن ابراهيم وداود، بل تتمتَه ونهايته (رو 10:4). هو المرحلة التي تلقي بضوئها على سائر المراحل وتفسّرها. هي الحدث المركزي الذي في قلب الآب منذ البدايات، الذي ظلّ حاضرًا. "ومع أننا كنّا خطأ بعد؟" (رو 5:8)، ثبّت الله مشروع حبّه من أجلنا: جاء المسيح وبذل نفسه عنا. فآدم الذي هو المرحلة الأولى، كان رسمة لذلك الآتي (رو 5:14). إذن يسوع هو في نهاية التاريخ وفي قلب التاريخ. وهكذا لن تكون الأمور كما كانت عليه في السابق. يجب أن نعيد تفسير كل شيء. لقد تبدّلت العلامة كما تبدّل المدلول: (1) في نظام الخلق حيث صار العجز قوّة واللامعقول حكمة الله (1كور 1:18-2:5). (2). وفي تاريخ الخلاص نفسه، حيث تحوّل ما كان صالحًا إلى ما هو أفضل، حيث حلّ محل الشريعة المقدسة والعادلة والصالحة والمجيدة، اعلانُ بشارة يسوع المليئة بالمجد (2كور 3:6-18؛ رو 7:1-6). وهكذا صار اللاهوت (تيولوجيا) عند بولس كلامًا عن يسوع المسيح (كرستولوجيا).
وتاريخ الخلاص الذي سمّاه بولس "برّ الله"، وجب عليه، بحسب قراءة أولى للتوراة، أن يمرّ باعتراف اسرائيل كله بيسوع على أنه المسيح. ولكن في الواقع، رفض اليهود أن يروا في يسوع ذاك الذي وُعدوا به. فأمام هذا المسيح بما في انتظاره من مفارقة، انغلق اسرائيل على نفسه. وإيمان بولس الملتصق بتاريخ، أجبر على إدخال هذا الوضع في مخطّط الله لكي يراه في خطّ برّ الله (رو9:11). ولكن لا شكّ في أن هذا الفشل سيصبح منطلقًا لانتصار الله (رو 11:11-12، 15، 29-32؛ رج 2كور 12:9-10) ومجد برّه من أجل خلاص المسكونة كلها (11:32).
(ب) الإيمان والشريعة. في خطوات بولس الأول، كان الإيمان مع الشريعة (توره في المعنى الحصري). في البدء، ظلّ بولس ذاك اليهوديّ الممارس للشريعة ممارسة وثيقة (غل 3:4-8). هذا ما سيتيح له أن يفهم "الضعفاء"، أي المسيحيين الذين لم يصلوا بعد إلى ملء الإيمان والحريّة المسيحيّة (رو 14:1-15:9). ومن جهة ثانية سيكون بلا هوادة تجاه الذين وصلوا إلى الأمام ثم عادوا إلى الوراء، سواء كان بطرس (غل 2:11-14) أو الجماعة ككلّ (غل 3:1-2). فلا مجال للعودة إلى الوراء (رو 6:2؛ 7:4). لقد أحسّ بولس، لا على المستوى السيكولوجي، بل على المستوى الوجودي، بصراع بين الشريعة والمسيح. أو يموت المسيح أو تموت الشريعة. يجب أن تموت الشريعة مع أنها صالحة ومقدّسة (رو 7:12) لأنها تدفعه إلى العمل الصالح الذي لا يستطيع أن يقوم به. حينئذ فهم بولس أن يسوع المسيح جعل منا أبناء مع الابن (رو 8:14-17) فجعل ملك الرب يسوع يحلّ محل مُلك الشريعة. لقد جاءت الحياة في الإيمان محلّ الشريعة، بعد أن قادنا الروح (رو 1:16-17؛ غل 5:16-18، 25) والمحبّة (1كور 13؛ رو 13:8-9). لا يعارض المسيحيّ الشريعة، بل يتمّمها بالأعمال التي يقوم بها (غل 3:13-14، 22). ويعيد الرسول تفسير الشريعة تفسيرًا كرستولوجيًا.
(ج) الحياة بالإيمان. لا يستطيع الانسان بعد الآن إلاّ أن يعيش بالإيمان (رو 1:17؛ غل 3:11؛ رج حب 2:4). هذا الإيمان وُجد في العهد القديم ومنذ بداية تاريخ الخلاص. منذ بداية شعب الله وولادة اسحق. هنا نكتشف إيمان ابراهيم الذي كان في الشعب اليهوديّ أمانة وثقة، فصار عند بولس استسلامًا تامًا لله. وهكذا نصل إلى الإيمان الذي يرتبط بالرجاء والتاريخ، الذي يرتبط أيضاً بالمحبّة وبالحياة الاخلاقيّة.
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|