أولاً : نظرة عامة. مدينة هلينيّة واقعة في آخر نقطة في غربيّ الدلتا المصريّ تجاه جزيرة فاروس على قطعة أرض ضيّقة تفصل البحر المتوسّط عن بحيرة مريوط. أسّسها اسكندر الكبير سنة 332-331، فصارت مركز اتّصال بين الشرق والغرب وعاصمة البطالسة وملتقى العلوم الهلينيّة واليهوديّة (مكتبات، ترجمة العهد القديم المسمّاة سبعينيّة، ترجمة ابن سيراخ. تدوين سفر الحكمة وأسفار أخرى منحولة). نشير هنا إلى أن مكسر أمواج طوله 1300 متر (هبتاستاديون، أي 7600 قدم) فصل حوضي المرفأ اللذين هما من البحر جزيرة أوستوس في الغرب وفي الشرق المرفأ الكبير حيث حلّت سفن البطالسة الحربيّة. والمنارة المشهورة، التي بُنيت سنة 297 ق.م. على طرف الجزيرة، كانت صنع سوستراتيس إبن كنيدوس (في آسية الصغيرى). ارتفعت 12 مترًا، فاعتبرها الأقدمون إحدى عجائب العالم السبع. كان الاسكندر قد سلّم تصميم المدينة إلى المهندس المكدوني داينوكراتيس الذي أخذ برسمة ملعب سباق الخيل مع شوارع مستقيمة، فامتدت ثلاثة أحياء من الغرب إلى الشرق : راكوتيس الذي أقام فيه المصريون، حول سيرابيوم حيث سيرتفع في نهاية القرن الثالث عمود بومبيوس. ثم بروخايون الذي هو حيّ غنيّ خاص باليونانيين. وأخيرًا، الحيّ اليهوديّ، حيث عاش بنو اسرائيل بعد أن تنظموا في مجموعة إثنيّة. كان لهم مجمع مشهور بجماله وكبره. غير أن المباني الرئيسية وُجدت في بروخايون : هيكل بوسيدون، القريب من المرفأ الكبير. المتحف والمكتبة اللذين خلقهما بطليموس الأول سوتر من أجل العالم الشامل. ومدفن الاسكندر كما قال الأقدمون. لا نستطيع اليوم أن نرى المنارة ولا المتحف ولا موقع المكتبة، ولكننا نستطيع أن نزور سيرابيوم أي هيكل الاله سيرابيس، الذي بُني ليوحِّد بين اليونانيين والمصريين في عبادة واحدة. كان سكّان الاسكندريّة مزيجًا من أمم مختلفة. وكان اليهود عديدين (يجعلهم فيلون مليونًا مع بعض المبالغة). عاشوا في حيّ محفوظ لهم كما عاشوا خارج ذلك الحيّ. لا يذكر العهد القديم اسكندريّة (نو أمون؟) ويشير إليها العهد الجديد على أنّها المكان الذي وُلد فيه أبلوس (أع 18:24) ومرفأ اتّصال السفينة التي ستقود بولس إلى ميرة في إيطالية (أع 27:6) بتلك التي ستنقله من مالطة في إيطالية (أع 28:11-13). كان للاسكندرانيّين مع المحرّرين والقيرينيّين مجمع في أورشليم، وسيجادلون استفانوس (أع 6:9) قبل موته رجمًا.
ثانيًا : الحياة الاقتصاديّة. ما زالت الاسكندريّة تنمو خلال الحقبة اليونانيّة والرومانيّة. في عهد بطليموس الثاني والثالث، أصبحت حاضرة غنيّة جدًّا بما فيها من أعمال تجاريّة. وحسب ديودورس الصقلي (1752 :15) كانت المدينة تعدّ في أيامه (أي 58 ق.م.) 300000 رجلاً من الأحرار و 600000 من العبيد والمرتزقة. وهكذا كانت تصل إلى المليون فتضاهي رومة بعدد سكانها. اعتمد اقتصادها على الحياكة وصناعة الورق، والمصاغ والفخاريات. ولكن غناها الأساسيّ كان التجارة. وشارك اليهود في حياة المدينة ولا سيّمَا في جباية الضرائب على المرفأ (فلافيوس يوسيفوس، العاديات 20 :147)، كما في تنظيم رحلات البواخر. هنا نشير إلى أنّ المشناة اعتبرت أنّ بعض البضائع التي تنقلها بعض السفن الاسكندرانيّة ليست بنجسة (كلائيم 15 :1؛ أهلوت 8 :1). فأصحابها هم من اليهود. وكانت الاسكندريّة أيضاً مرفأ هامًا. أما روح التجارة التي نجدها عند أهل الاسكندريّة فنكتشفها في سؤال طرحه الاسكندرانيّون على رابي يشوع حول تقدمة يقوم بها أبرصان، واحد غني وآخر فقير (مش نجعيم 14 :13). كما نكتشفها في هذه العبارة التي تلفّظ بها طبيب يهوديّ اسمه "توداس" أو "تيودورس" : "لا تترك البقرة ولا الخنزيرة الاسكندريّة دون أن يُقطع ثديها لئلا تضع" (مش، بكوروت 4 :4). وقد قال كيرلس الاسكندراني في "تفسير إشعيا" (18 :1-2) عن أبناء بلدته : "العمل العاديّ لأهل هذه المدينة هو أن يصعدوا النهر وينزلوه، أن يستسلموا إلى التصدير والاستيراد، وأن ينعموا بما ربحوا في تجارتهم".
ثالثًا : الحياة الثقافيّة. منذ القرن الثالث ق.م. كانت الاسكندريّة موضع الثقافة الهلنستيّة مع مكتبتها ومتحفها حيث كان يعلّم أشهر علماء اليونان. وفي الوقت عينه تفتّح الفكرُ اليهوديّ في محيط تشرّب الحضارة اليونانيّة وتكلّم اليونانيّة. ففي الاسكندريّة نُقلت السبعينيّة بين القرن الثالث والقرن الأول ق.م. ودوّنت الكتب العديدة مثل سفر الحكمة، المكابيّين الثالث، المكابيّين الرابع، رسالة أرستيس، ومؤلّفات فيلون. ولا ننسَ أن أبلوس اليهوديّ الاسكندراني، قد وصفه سفر الأعمال بأنه رجل فصيح اللسان قدير في شرح الكتب المقدّسة (18 :24). أما الفن الاسكندراني فأثّر على التصوير الروماني كما على الفسيفساء. وأثّر على مجمع دورا اوروبوس، وعلى الفنّ المسيحيّ القديم. والمكتبة التي كانت تضمّ سنة 50 ق.م. سبعمئة ألف مجلّد، قد أحرقت سنة 47 ق.م. خلال الحرب بين بومبيوس ويوليوس قيصر. أعاد تكوينها انطونيوس، فجاء بمئتي ألف مجلّد وضعها في "سيرابيوم". ولكن اختفت هذه المكتبة الجديدة سنة 389، حين أمر تيودوسيوس الأول، امبراطور بيزنطية، بإغلاق هيكل سيرابيس.
رابعًا : يهود اسكندرانيّون في أورشليم. عاشت في أورشليم جماعة هامة من يهود الاسكندرية. تذكر توسفتا (مجلوت 3 :6) مجمعهم فتقول : "اشترى اليعازر بن صادوق مجمع الاسكندرانيّين في أورشليم". وتحدّث أع 6:9 عن جدالهم مع استفانوس. لا شكّ في أن أعضاء هذا المجمع كانوا يتكلّمون اليونانيّة. فاحتلّ عدد منهم مراكز مرموقة في أيام هيرودس. هناك بوئاثيوس، وابنه سمعان الذي عيّن رئيس كهنة (يوسيفوس، العاديات 15 :319-322؛ 17 :316). وهناك أخواه يوآعازر واليعازر (العاديات 17 :164، 339؛ 18 :3). ونكانور الذي قدّم الأبواب المسّماة "أبواب نكانور" في هيكل أورشليم (مش شقليم 6 :3؛ سوطه 1 :5؛ مدّوت 1 :4؛ 2 :3، 6؛ نجعيم 14 :8)، بعد أن جلبها في السفينة من الاسكندريّة إلى يافا (توسفتا، يوما 2 :4؛ تل بابل، يوما 38 أ ). وقد وُجد مدفنه على جبل سكوبوس (في أورشليم) مع عظامه، ومدوّنة يونانيّة تقول : "عظام أبناء نكانور الاسكندراني الذي صنع الأبواب". وعظيم الكهنة حناميل الذي عيّنه هيرودس كان مصريًّا (مش، فره 3 :5). ونقول الشيء عينه عن "بيت فيابي" (أصله من مصر) الذي خرج منه ثلاثة رؤساء كهنة : يشوع في زمن هيرودس (العاديات 15 :122). اسماعيل الأول الذي عُيّن سنة 15 ب.م. (العاديات 18 :34) واسماعيل الثاني الذي صار رئيس كهنة سنة 59 ب.م. (العاديات 20 :179؛ مش سوطه 9 :15؛ فره 3 :5). وكان الاسكندرانيّون يأتون للحجّ إلى أورشليم كما يقول حكماء ورد اسمهم في المشناة (حله 4 :10) : "حمل أهل الاسكندريّة تقادمهم من كعك الاسكندريّة ولكنّهم لم يقبلوها"، لأن الدقيق الذي صُنع منه لم يكن من الأرض المقدّسة. وماهى كيرلكس الاسكندراني (376-414) الذي كان اسقف المدينة منذ سنة 412. بين نو والاسكندرية (الآباء اليونان 70 :441 أب). إن قراءة النصوص البيليّة قراءة مُحدثة تعكس أيضًا هجمة زنوبيا، ملكة تدمر، كالصاعقة، حين احتلت جيوشها الاسكندرية سنة 269 ق.م.، ودمّرت ما دمّرت. وفي سنة 618، احتلّ الفرس الساسانيون المدينة، قبل أن يستعيدها الامبراطور هرقليوس سنة 629. وفي سنة 642، احتلها العرب، فانحطت تجاه روزبت أو إشيد.
خامسًا : العالم اليهوديّ الاسكندراني. في الحقبة الرومانيّة، أقام اليهود في حيَّين من أحياء المدينة الخمسة، وكان لهم عدد من المجامع. حاولوا بسبب عددهم وتأثيرهم أن ينالوا كلّ الحقوق الوطنيّة، شأنهم شأن اليونان، فغضب عليهم السكان اليونان، ونتج عن ذلك قلاقل في المدينة سنة 38 ب.م. وسنة موت كاليغولا (41 ب.م.) ثار اليهود في الاسكندريّة على الرومان حين علموا بالتمرّد الذي حصل في أورشليم. فسحق طيباريوس الاسكندر الذي كان والي الاسكندريّة، هذا التمرّد، وقتل خمسين ألفًا من يهود الاسكندريّة (يوسيفوس، الحرب اليهودية 2 :497). وكان تمرّد آخر سنة 115-117، انتهى بحرق الحيّ اليهوديّ. عند ذاك ترك المدينة عدد كبير من اليهود. لهذا سُمّيت الاسكندريّة في الأدب اليهوديّ "ثيبة" (هو في الأصل الاسم العبريّ لمدينة طيبة، إر 46:25؛ نا 3:8 : نوأمون أو الاسكندريّة). قال الربّ. "سوف أنتقم من النزاعات في الاسكندريّة... سوف أفني زمرة الاسكندريّة... فيكون سور الاسكندريّة مشقّقًا ويدمّر" (ترجوم يوناتان حول حز 30 :14-16).
الموسوعة المسيحية العربية الإلكترونية
|