في ظِلالِ الكلمة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
"يا لَعُمقِ غِنَى اللهِ وحِكمَتِهِ وعِلمِهِ. ما أبعَدَ أحكامَهُ عنِ الفَحص وطُرُقَهُ عن الإستِقصاء. لأنْ من عرفَ فِكرَ الرَّبِّ أو من صارَ لهُ مُشيراً. أو من سبقَ فأعطاهُ فيُكافَأ. لأنَّ منهُ وبِهِ ولهُ كُلَّ الأشياء. لهُ المجدُ إلى الأبد. آمِين. (رومية 11: 33- 36) هذه هي بركةُ التمجيد التي بها يختُمُ بُولُس هذا المقطَع التعليمي اللاهُوتِيّ المجيد. في مقطَعِ التمجيدِ هذا، يُعلِنُ بُولُس أنَّ اللهَ هُوَ مصدَرُ كُلِّ الأَشياء، والقُوَّة الكامِنة وراءَ كُلِّ الأشياء، وأنَّ مجدَهُ هُوَ القصدُ من كُلِّ الأشياء. إنَّهُ يَستَخدِمُ هاتَين الكَلِمَتَين "كُلّ الأشياء" غالِباً معاً، ولكنَّهُ لا يستخدِمُها أبداً بِخِفَّة (رُومية 8: 28؛ 2كُورنثُوس 9: 8). فإلامَ يُشيرُ بُولُس بالتحديد عندما يضَعُ هاتَين الكلمتَين معاً في هذا مقطَعِ التمجيدِ هذا. لقد سبقَ وإقتَرَحتُ عليكُم أن تقسُمُوا إصحاحات هذه الرسالة الستة عشر إلى أربَعةِ أقسام، بينما تُحاوِلُونَ برُوحِ الصلاة أن تُمَيِّزُوا حُجَّةَ هذه الرِّسالة. أمَّا الآن فأطلُبُ منكُم أن تنسُوا قضِيَّة الإصحاحات والأعداد، وأن تُحاوِلُوا أن تفهَمُوا حُجَّةَ بُولُس الرسُول الأساسيَّة في هذه الرسالة. فالإصحاحاتُ والأعداد لم يتمّ إضافتُها إلى الأسفارِ المقدَّسة حتَى القَرن الثالِث عشر. أحياناً، قد تُشَوِّشُنا تقسيماتُ السفر إلى إصحاحات عن إدراكِ المنطِق المُوحى في سفرٍ مُعَيَّن من أسفارِ الكتابِ المقدَّس. بدأَ بُولُس بالتحضِير لإستِخدامِهِ للكلمتَين "كُلّ الأشياء" في مقطَعِ التمجِيد هذا، عندما إنتَهى من إخبارِنا عن هذه المَبادِئ الرُّوحِيَّة الأربَعة (8: 13). ثُمَّ أعطى لَمحَةً عن كيفَ يَصِلُ بنا اللهُ إلى الخلاص. إنَّ النقطة التي شدَّدَ عليها هُنا هِي أنَّ اللهَ هُوَ المُحرِّك الأوَّل خلفَ كُلِّ الأشياء التي تحدُثُ لنا خِلالَ عمليَّةِ الخلاص. كتبَ يقُول: "لأنَّ الذين سبقَ فعرَفَهُم سبقَ فَعَيَّنَهُم ليَكُونُوا مُشابِهِين صُورَةَ إبنِهِ ليكُونَ هُوَ بِكراً بينَ إخوةٍ كَثيرين. والذي سبقَ فعَيَّنَهُم فهؤُلاء دعاهُم أيضاً. والذين دعاهُم فهؤُلاء برَّرَهُم أيضاً. والذين برَّرَهُم فهؤُلاء مجَّدَهُم أيضاً." (رُومية 8: 29، 30). ثُمَّ يَصِلُ بنا هذا المقطَعُ إلى تمجيدٍ عظيم للهِ نفسِه. أعلنَ بُولُس الرسُول أنَّ اللهَ هُوَ في أولئكَ الذينَ قبِلُوهُ. واللهُ هُوَ معَ أولئكَ الذين يمشُونَ في الطاعَةِ، واللهُ هُوَ لأجلِ أولئِكَ المدعُوِّينَ بحَسَبِ خُطَّتِهِ. وإن كانَ اللهُ فينا، معنا، ولَنا، فمن علينا، ومن سيفصِلُنا عن محبَّتِهِ؟ ثُمَّ يختُمُ بُولُس هذا الإصحاحِ الثامِن بمقطَعِ التمجيد الذي يُجيبُ على هذه الأسئِلة. أُنقُلوا هذه الأفكار المُوحاة والمُلهِمة معَكُم إلى الإصحاحِ التاسِع، حيثُ سيُوسِّعُ بُولُس كلمةً إستَخدَمها في المقطَعِ الذي إستشهَدنا بهِ أعلاهُ. هذه الكلمة هي، "مُعَيَّنِينَ سابِقاً". إنَّ توسيعَ بُولُس لهذا المفهوم الذي يُسمَّى "الإختِيار" يجعَلُ من هذا الإصحاح أحدَ أصعَبِ وأغنى إصحاحات الكتاب المقدَّس. لقد كانَ الإيضاحُ الذي إستَخدَمَهُ بُولُس هُوَ التوأمَان – عيسُو ويعقُوب – في رَحِمِ أُمِّهِما. فقبلَ أن يفعَلَ أيُّ طفلٍ منهُما خيراً أم شرَّاً، قالَ اللهُ، "أحببتُ يعقُوب وأبغضتُ عيسُو،" "والكَبيرُ يُستَعبَدُ للصغير." (رومية 9: 12، 13). لقد كانَ لدى الله خُطَّة ومَصيرٌ لكُلٍّ منهُما قبلَ أن يُولَدا. لقد إقتَرحَ أحدُ أفضَلِ المُفسِّرين بأنَّ هذا التعليم ينبَغي أن يُحفَظَ كَسِرِّ عائِلة بينَ المُؤمنين. فعلينا أن لا نتوقَّعَ من أُولئكَ الذي لم يأتُوا بعد إلى الإيمان ولم يقبَلوا الرُّوحَ القدُس أن يفهَمُوا ويقبَلوا هذا التعليم. لا بَل إنَّ هذا التعليم صعبٌ على الكثير من المُؤمنين، لأنَّهُ يجعَلُ اللهَ يبدُو وكأنَّهُ غير عادِل، خاصَّةً بالنسبَةِ لِغَيرِ المُختارين. عندما يكتَشِفُ الكثيرُ من المُؤمنِين هذا التعليم أوَّلاً في كلمةِ الله، غالِباً ما تكُونُ ردَّةُ فعلِهم الأساسيَّة أنَّهُ لا يُمكِنُ أن يكُونَ هذا صحيحاً. إن جوابَ الرسُول على هذا النوع من التفكير هو أنَّهُ يضعُ أمامنا التحدِّي لنقرَأَ العهدَ القديم. أحد أقصَرِ الأشعار التي سبقَ لي وقرأتُها هُو: "ما أغرَبَ أن يختارَ اللهُ اليهود." بمعنىً ما، يُعتَبَرُ العهدُ القديمُ بأكمَلِهِ إيضاحاً عن هذا التعليم عن الإختِيار. فمِن بَينِ كُلِّ أُمَمِ التاريخِ القديم، إختارَ اللهُ آنذاكَ بني إسرائيل. وكما أشرتُ سابِقاً، فإنَّ هذه الإصحاحات الثلاثة (9- 11) تُشيرُ أيضاً إلى نقيضِ الإختِيار، لأنَّ شعبَ إسرائيل إختارَ في الماضي، ولا يزالُ يختارُ اليوم، أن لا يكُونَ مُختاراً بل مرفُوضاً، وذلكَ لرفضِهِ المسيح. يُخبِرنا اللهُ من خِلالِ النبيّ إشعياء أنَّهُ علينا أن لا نُحاوِلَ أن نفهَمَ أفكارَهُ وطُرُقَهُ. فهُوَ يُنَبِّهُنا أنَّ طريقَةَ تفكيرِهِ وعملِهِ مُختَلِفَةٌ تماماً عن طَرِيقَةِ تفكرينا وعمَلِنا، كما ترتَفِعُ السماواتُ عنِ الأرض. (إشعياء 55: 8، 9). وبينما يُقدِّمُ بُولُس هذا التعليم، يتحدَّانا ببِضعَةِ أسئِلة مثل: "بَل من أنتَ أيُّها الإنسانُ الذي [تسألُ الله لماذا خَلَقَ من نفسِ جبلَةِ الطين مُوسى وفِرعون]؟ ألعلَّ الجبلَةَ تقُولُ لجابِلِها لماذا صنعتَني هكذا؟" (رومية 9: 20، 21). إنَّهُ يُقدِّمُ أيضاً التفسير أنَّ الإختِيار ليسَ القضيَّةَ الأساسيَّة. فإن كُنَّا مُختارينَ للخلاص، فالقَضِيَّةُ الحقيقيَّة هي أنَّنا مُخَلَّصينَ بالنِّعمَة، وليسَ لأيِّ إنجازٍ حقَّقناهُ نتيجةً لِمجهُوداتِنا (رومية 9: 11). إنَّ مقطَعَ التمجيد الذي بدأتُ معَهُ هذا الفصل، والذي بهِ يختُمُ بُولُس تصريحَهُ العقائِديّ لهذه التحفة اللاهُوتيَّة، هو الطريقة الوحيدة التي بها نستطيعُ أن نتجاوَبَ معَ كُلِّ ما شاركنا بهِ بُولُس، بما في ذلكَ تعلمي الإختِيار. يُذكِّرُنا بُولُس هُنا في هذا المقطع التمجيديّ أنَّ اللهَ لم يحتَجْ أحداً منَّا ليكُونَ لهُ مُشيراً، عندما قرَّرَ كيفَ سيعمَلُ كُلَّ ما قصدَهُ بُولُس عندما كانَ يُخبِرُنا عن كونِ اللهِ مصدَر كُلِّ شيء، والقُوَّة الكامِنة وراءَ كُلِّ شيء، والهدف المقصُود من كُلِّ شيء.
|