في ظِلالِ الكلمة
القضاة 7

أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن

نص : ALB - INJEEL   |   صوت : MISLR - ABAUD   |   فيديو : BIB - COMM

أدوات الدراسة : السبعينيه - الكتاب المقدس - ترجمة كتاب الحياة - الترجمة المشتركة - القاموس اليوناني - مكتبة الأخوة - في ظِلالِ الكلمة - الخزانة من الكتاب المقدس


الآن، وبعدَ أن كنا ننظرُ إلى عظة موسى العَظيمة عن النعمة في الإصحاح التاسِع، أصبَحنا جاهِزِينَ لنَتأمَّلَ بِعِظَتِهِ عن تجاوُبِنا مع نعمة الله في الإصحاح العاشر. "فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الربُّ إلهُكَ إلا أن تتَّقيَ الربَّ إلهَك لتسلُكَ في كُلِّ طُرُقِهِ وتُحبَّهُ وتعبُدَ الربَّ إلهك من كلِّ قلبكَ ومن كُلِّ نفسك. وتحفظَ وصايا الرب وفرائضَهُ التي أنا أُوصيكَ بها اليومَ لخَيرِك. هوذا للربِّ إلهِكَ السماواتُ وسماءُ السماوات والأرضُ وكُلُّ ما فيها. ولكن الرب إنما التصقَ بآبائكَ ليُحبِّهُم فاختارَ من بعدِهم نسلَهُم الذي هو أنتُم فوقَ جميعِ الشعوب كما في هذا اليوم. فاختِنوا غُرلةَ قُلوبِكم ولا تُصلِّبوا رقابَكُم بعد."

التشديدُ هُنا هو كيفَ ستتجاوبُ مع نعمةِ الله؟ ونعمةُ الله تعني أن اللهَ يُحبُّنا، حتَّى عندما نفشَلُ أو نسقُط فلا يُوجَدُ شَيءٌ يُمكِنُنا أن نعمَلَهُ، الذي بنَتِيجتِهِ يُمكِنُنا أن نكسَبَ محبَّةَ اللهِ، لأنَّ محبَّتَهُ لا تُكتَسَبُ ولا تُفقَدُ بناءً على أدائِنا.

لا يُوجَدُ شَيءٌ نعمَلُهُ يُمكِنُهُ أن يُوقِفَ اللهَ عن محبَّتِهِ لنا. فمحبَّةُ الله ليست مشروطةً. فمَحَبَّةُ اللهِ غَيرُ المَشرُوطَة تُغَذِّي رحمَتَهُ ونعمَتَهُ. هذا ما تعنيهِ كلمة "نعمة." فالنِّعمَةُ هي بمثابَةِ سَيفٍ ذي حَدَّين، وهي تقطَعُ منَ الجِهَتَين. أوَّلاً، إنَّها تجعَلُ التَّصريحَ القائِلَ أنَّ محبَّةَ اللهِ وبَرَكَتَهُ ليسَت مبنِيَّةً على حُسنِ أدائِنا. فعندما نفهَمُ معنى النِّعمة، الرَّحمة، والمحبَّة، كما تُعَبِّرُ عن شخصِيَّةِ وطبيعَةِ الله، سوفَ نُدرِكُ أنَّهُ ليسَ علينا أن نسعى لنكتَسِبَ محبَّةَ اللهِ. فهُوَ سيُحِبُّنا على أيَّةِ حال، بسببِ جوهَرِ رحمَتِهِ ونعمَتِهِ ومحبَّتِهِ.

فليسَ بإمكانِكَ أن تخسَرَ رحمَةَ اللهِ ونعمَتَهُ ولا محبَّتَهُ بسببِ أدائكَ السَّلبِيّ. فاللهُ لا يُحِبُّكَ لأنَّكَ صَالِحٌ، ولن يتوقَّفَ عن محبَّتِكَ إذا كُنتَ سَيِّئاً. فاللهُ يُحِبُّكَ، ويسُوعُ يُحِبُّكَ عندما تَكُونُ صالِحاً، وعندما تعمَلُ ما يُفتَرَضُ بكَ أن تعمَلَهُ. ويسُوعُ يُحِبُّكَ أيضاً عندما تَكُونُ سَيِّئاً، رُغمَ أنَّ هذا يُحزِنُهُ كثيراً. يسُوعُ يُحِبُّكَ على أيَّةِ حال. هذه هي رسالَةُ الكتابِ المُقدَّس بكامِلِهِ، وهذه هي رسالَةُ سفرِ التَّثنيَة.

كيفَ تتجاوبُ مع رحمَةِ ونعمَةِ ومحبَّةِ الله؟ أو بكلماتٍ أُخرى، "بأيِّ مِقدارٍ تُحِبُّ اللهَ؟" قالَت إمرأَةٌ تَقِيَّةٌ عاشَت في قَرنٍ آخر، "أُفَضِّلُ أن أذهَبَ إلى الجَحيم على أن أُحزِنَ الرُّوحَ القُدُسَ مرَّةً أُخرى." علينا أن نرغب بمحبة هذا الإله الذي يُحبُّنا على أيَّةِ حال، وعلينا أن لا نُحزِنَ اللهَ أبداً لأنَّهُ يُحِبُّنا. وهذا يدفعنا لنطهِّرَ حياتَنا من كل ما لا يُرضيه، ومن ثم لِنَخدُمَهُ ونُعبِّرَ عن شُكرنا له بعرفان الجميل وبالعبادة.

بعدَ أن يُخبرَنا الرسولُ بولس الكثيرَ عن نعمة الله وعن خلاصِنا، يقولُ لنا في 2كورنثوس 6: 1 "نطلُب أن لا تقبلوا نعمة الله باطِلاً." فإن كان مُجرَّد النطق باسمه باطلاً خطية، فكم بالأولى تكون خطية قبول نعمة الله بالباطل. فإن كان اللهُ يُحبُّنا ويُغدِقُ كلَّ بركاتِهِ علينا بنعمَتِهِ، فإن أخذنَا كل هذه النِّعمة باطِلاً، فبدون أن نفعلَ أي شيءٍ حيالَها، يُحسَبُ هذا علينا خطيَّةً مثل النُّطقِ بإسمِ اللهِ بالباطِل. إنَّ عِظَةَ مُوسى العظيمة في تثنية الإصحاح العاشر هي تحذيرٌ لنا على عدم قبولِ نعمةِ اللهِ بالباطِل.

يتبعُ هذا عِظَةٌ حولَ موضوع الإرتداد (الإصحاح 13). ويعني الإرتداد، "الإبتعاد عن وضعٍ سبقَ واتخذتَهُ مع الله." قالَ مُوسى لِشعبِ اللهِ آنذاك، "إذا حاولَ ابنُكَ، ابنتُكَ، زوجتُكَ، قريبُكَ، أو صديقُكَ أن يُبعِدَكَ عن الله، أسلِم هؤلاء للموت وللقتل. لا تُشفِق عليهم. إذا ارتدَّت مدينةٌ عن الله، اذهبْ ودمِّر هذه المدينة إلى الأرض واقتُلْ كلَّ من فيها." يبدو هذا في مُنتَهى القساوَة، ولكن إذا دَرَستُم نتائجَ الإرتداد، والسبي البابِلي والأشوري، سوفَ ترون لماذا كان اللهُ يتكلَّمُ بهذه القساوة عندما أظهَرَ لمُوسى كيفَ ينبَغي أن يتعاملَ معَ مُشكِلَةِ الإرتِداد.

ألقَى مُوسى عظةً أُخرى تتعلَّقُ بالعُشُور في تثنية 14: 22- 28. وكلمةُ عُشر تعني عشرة بالمائة. تُعلِّمُ هذه العظة أنهُ علينا أن نُعطِيَ اللهَ عُشرَ كلّ ما لنا. إن القصدَ من العُشور هو أن تُعلِّمَنا أن نضعَ اللهَ أوَّلاً في حياتِنا باستمرار. فاللهُ لا يحتاجُ 10% من مدخولنا. لقد أمرَ اللهُ بِتقديمِ العُشُر، لأنَّ تقديمَ العُشُورِ هي طريقَةٌ تُعطِيَنا قياساً لتعهُّدِنا أو التزامِنا تجاهَ الله. فالحقيقَةُ الهامَّةُ التي يُعَلِّمُنا إيَّاها اللهُ عنِ تقديمِ العُشُور، نتعلَّمُها عندما نفهَمُ أنَّ العُشورَ كانت العُشرَ الأوَّل مِمَّا كانَ شعبُ اللهِ يُحَصِّلُهُ بينما كانَ اللهُ يَسُدُّ إحتياجاتِهم. فاللهُ يعرِفُ ما إذا كانَ الأوَّلَ في حياتِنا أم لا، ولكنَّنا أحياناً نحنُ لا نعرِفُ ذلكَ. لهذا أمرَنا اللهُ أن نُظهِرَ أنَّهُ أوَّلُ أولَويَّاتِنا، بِتَقديمِنا لهُ العُشرَ الأوَّلَ من محصُولِنا.

اللهُ يُريدُ العُشرَ الأوَّل. فعندما دخلَ الشعبُ أرضَ كنعان، أول مدينة دخلوها كانت أريحا. وكان ينبغي تكريسُ كل غنائم أريحا لله، لأنها أول مدينة يحتلُّونَها. هُناكَ كَلِمتانِ تُلَخِّصانِ جوهَرَ أسفارِ وإصحاحاتِ وأعدادِ الكتابِ المُقدَّس، ألا وهُما: اللهُ أوَّلاً. إنَّ وضعَ اللهِ أوَّلاً ليسَ بالأمرِ السَّهل، ولكنَّ وضعَ اللهِ أوَّلاً ليسَ بالأمرِ المُعقَّد. نحنُ نُعَقِّدُ البَسيطَ ونُبَسِّطُ المُعقَّد. نحنُ نُعَقِّدُ ما يعنيهِ أن نضعَ اللهَ أوَّلاً، لأنَّنا لا نُريدُ أن نضعَ اللهَ أوَّلاً. إنَّ تقديمَ العُشُورِ يَجعَلُنا واقِعيِّينَ معَ نُفُوسِنا، ولنَقيسَ مقدارَ وضعِنا اللهَ أوَّلاً في حياتِنا.

في الإصحاح الخامِس عشَر من سفرِ التَّثنِيَة، يُعطينا مُوسى عظةً رائِعَةً عن أهمِّيَّةِ العمل الصالح أو الإحسان تجاهَ الفُقراء. هُناكَ تَشديدٌ قَوِيٌّ جدَّاً على العملِ الصَّالِحِ في نامُوسِ مُوسى وفي العهدِ القَديم. فمُوسى يُوصِي بعدَّةِ طُرُقٍ يُمكِنُ من خلالِها تَوزيعُ عُشُورِ شَعبِ الله. فينبَغي أن تُعطى أجزاءٌ منها للاوِيِّين – الذي يُعتَبَرُ الأساسَ الكِتابِيَّ لدفعِ أجرٍ لِرِجالِ الدِّين. وينبَغي دفعُ أجزاءٌ للمُتَغَرِّبِينَ في الأرض الذين يُعانُونَ ويتألَّمُون. ولقد أُمِرَ بنُو إسرائِيل بأن يُعطُوا الأرامِلَ والأيتام بينَهُم.

عندما تكلَّمَ مُوسى معَ شَعبِ اللهِ المُختارِ عن مَوضُوعِ العملِ الصَّالِح، قالَ لهُم، "أنتُم شعبٌ عنيدٌ وصُلبُ الرقبَة." لقد حذَّرَهُم مُوسى منَ التَّذَمُّرِ من مُشارَكَةِ مالهم معَ المُحتاجِين (تثنية 15: 1- 11). ولقد وعظَ قائِلاً أنَّهُ سيُوجَدُ دائماً فُقَراءُ بينَهُم، ومن هُنا كانت تنبُعُ أهَمِّيَّةُ هذهِ الوَصِيَّة.

لقد كان موسى نبيَّاً، وهكذا فهوَ تنبَّأَ بكلمةِ الله عندما أعلَنَ كلمةَ الله. لم يكُن لشعبِ إسرائيل مَلِكٌ بعد. ولم يكُنْ سيُصبِح عندهم ملك حتى بعد مرور حوالي خمسائة عام من تاريخِ مُوسى. سوفَ نقرأُ تفاصِيلَ تتويجِهم لأوَّلِ مَلِكٍ، عندما سندرُسُ معاً سِفرَ صَمُوئيل الأوَّل. ولكنَّ موسى قالَ لِبَني إسرائيل أنَّ اللهَ سوفَ يمنَحُهم مَلِكاً يوماً ما. ولكنَّ موسى أعطاهُم وَصِيَّةً نَبَويَّةً في أسفارِ النُّامُوس المُوحى بها، أنَّهُ عندما سيحصَلُونَ على مُلُوكٍ، ينبَغي على كُلِّ مَلِكٍ أن ينسخَ هذه النواميس من الكتاب الذي يحفظُهُ اللاويون الكهنة. وعليهِ أن يقرأَها كل يوم في حياتِه لكي يتعلَّمَ أن يحترمَ الربَّ إلهَهُ بإطاعةِ وصاياهُ. إن هذه القراءة المُستمرَّة من كلمةِ الله سوفَ تُجنِّبُهُ من أن يظنَّ أنهُ أفضلُ من باقي المواطِنين. وسوفَ تُجنِّبُهُ أيضاً من الإبتعادِ عن نواميسِ الله في أصغرِ الأُمور، وسوفَ تضمنُ لهُ مُلكاً طويلاً راسِخاً.

أعطانا داود في مَزمُورِهِ الأوَّل، صُورَةً عن الرجل المُبارَك من الله، لأنَّهُ يؤمِنُ بكلمةِ الله، ويحبُّها ويتلذَّذُ بها ويتأمَّلُ بها نهاراً وليلاً. ثُمَّ يُعَدِّدُ كُلَّ البَرَكاتِ التي يتمتَّعُ بها هذا الرَّجُل لكَونِهِ يتلَذَّذُ بكلمةِ اللهِ ويسلُكُ بالمَشُورَةِ التي يَجِدُها في نامُوسِهِ. وبما أنَّ داوُد كانَ الملكَ الثَّانِي في إسرائيل، كانَ عليهِ أن يُطِيعَ هذه الوصِيَّة النَّبَويَّة التي أعطاها مُوسى. إنَّ بَركاتِ الرَّجُلِ المُبارَك الذي يُشيرُ إليهِ داوُد في المَزمُورِ الأوَّل، هِيَ بِمثابَةِ سيرَةِ حياة داوُد الرُّوحيَّة. الأسبابُ التي يُعطيها مُوسى لتقديمهِ هذه النَّصيحة تحقَّقَت حرفِيَّاً في حياةِ داوُد.

في الإصحاح الثامِن عشر نجدُ عِظَةً قَوِيَّةً عن موضوع السحر والتنجيم. فاللهُ لا يُسرُّ بقارئي الكفِّ والوُسَطَاء الروحانيين مثلاً. تَقُولُ هذه العِظَة:

"لا يُوجدُ فيكَ..من يَعرِف عِرافَةً ولا عائفٌ ولا مُتفائلٌ ولا ساحِر. ولا من يرقي رُقيةً ولا من يسألُ جاناً أو تابِعَةً ولا من يستشيرُ الموتى. لأن كلَّ من يفعلُ ذلكَ مكروهٌ عندَ الرب. وبسبب هذه الأرجاس الربُّ إلهُكَ طارِدُهُم من أمامِك. تكونُ كامِلاً لدى الرب إلهك. إن هؤلاء الأُمَم الذين تخلفُهُم يسمعون للعائفين والعرَّافين. وأما أنتَ فلم يسمَح لكَ الربُّ إلهُكَ هكذا." (تَثنِيَة 18: 9- 14)

قالَ أحدُهُم أنَّ ما بينَ السماءِ والأرض أكثرَ مما يحلُمُ الإنسان. لاحِظُوا أن الكتاب المقدَّس لا يُكذِّب هذه الأُمور، ولا يُنكِرُ وجودَها، بل يُحظِّرُ التعاطي بها. والسببُ الذي من أجلِهِ يُحظِّرُ الكتابُ المقدَّسُ التعاطي بهذه الأُمور، هو أنَّ مصدرها ليسَ من الله. هُناكَ أرواحٌ في المجالِ الروحي ليست مُقدَّسة ولا من الله. فعندما تتورَّطُ في العِرافَةِ والشعوذةِ والسحر وما شابَه، فأنتَ تتعاملُ مع أرواحٍ ليست من الله. لهذا، ومن خلالِ مُوسى، حظَّرَ اللهُ شعبَهُ بِصَرَامةٍ من التورُّطِ في التعامُلِ مع المجال الروحي السلبي. إنَّ الفِكرَةَ الجوهَريَّة التي ينَقُلُها اللهُ من خلالِ مُوسى، هي أنَّ لدَينا الرُّوح القُدُس ليَقُودَنا إلى مجالِ الأرواحِ السماوِيَّة. لهذا، فمِنَ الخَطِيَّةِ أن نسأَلَ أُولئكَ الذين يتعامَلُونَ معَ الأرواحِ السَّلبِيَّةِ لتَقُودَنا، تُرشِدَنا، أو تمنَحَنا أيَّ نَوعٍ من أنواعِ القُوَّةِ الرٌُّوحيَّة.

توجدُ عظةٌ عظيمةٌ في الإصحاح الثامن عشر من سفر التثنية عن النبي المسياوي. تُعتَبَرُ هذه إحدى أعظم نُبوَّات موسى. قال موسى، "يُقيمُ لك الربُّ إلهُكَ نبيَّاً من وسطِكَ من إخوتِكَ مثلي. لهُ تسمعون. حسبَ كُلِّ ما طلبتَ من الرب إلهكَ في حوريب يومَ الإجتماعِ قائلاً لا أعودُ أسمعُ صوتَ الربِّ إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة أيضاً لئلا أموت. قالَ لي الرب!ُ قد أحسنوا في ما تكلِّموا. أُقيمُ لهُم نبياً من وسطِ إخوتِهم مثلَكَ وأجعلُ كلامي في فمِهِ فيُكلِّمُهُم بكلِّ ما أُوصيهِ به." (تَثنِيَة 18: 15- 17) ولقد أخبَرَ مُوسى أُمَّةَ إسرائيل أنَّ اللهَ سَمِعَ صَلاتَهُم وأنَّهُ سيُرسِلُ نَبِيَّاً إلى العالم، وسيتكلَّمُ من خلالِهِ.

فأعطاهُمُ اللهُ كلمةً مكتوبةً، ولكن اللهَ أرادَ أن يتكلَّمَ مع شعبِهِ بطريقةٍ أعمَق من الكلمةِ المكتوبَة. فلقد تكلَّمَ اللهُ لشعبِهِ برحمتِهِ ومحبَّتِهِ من خِلالِ نبيّ. وكان هذا النبي هو المسيَّا الذي سيكُونُ نبيَّاً، كاهِناً، وملكاً. بالطبعِ كان هذا هو يسوعُ المسيح.

وهُناكَ عظاتٌ رائعةٌ في الإصحاح التاسع عشر عن حُكمِ الإعدام. إن التشديد في سفر التثنية هو ليسَ على المُجرِم، ولا على ضرورةِ الشفقة عليهِ. في أقوالِ مُوسى المُوحَى بها منَ اللهِ حولَ مَوضُوع حُكم الإعدام، نَجِدُ تَشديداً على ضحايا هذا المُجرِم. يُخبِرُنا هذا السِّفرُ الكِتابِيُّ أنَّ حُكمَ الإعدامِ سيُطَهِّرُ شعبَ إسرائيل القَديم منَ الشَّرّ.

في الإصحاح عشرين، نجدُ عظةً عظيمةً عن الإيمان. وسيُطَبِّقُ جِدعَون هذا المقطع، عندما سيَقُودُ جَيشاً ضِدَّ المِديانِيِّين الذين ضايَقُوا شعبَ إسرائيل القَديم (قُضاة 7: 1- 7).

"إذا خرجتَ للحربِ على عدوِّكَ ورأيتَ خيلاً ومَركَباتٍ وقوماً أكثر منكَ فلا تخفْ منهُم لأنَّ معك الربَّ إلهَك الذي أصعدَكَ من أرضِ مصر... الإيمانُ هُوَ حاجَتُكَ عندما تُهاجِمُ هؤُلاء الأعداء الذين هُم أعظَم منكَ." (تَثنِيَة 20: 6- 8)

لقد التقينا بعبارة "نعمة" تُقدَّمُ مراراً وتكراراً في سفرِ التثنية. أيضاً نلتقي بِمَفهُومٍ آخر هُوَ مفهُومُ الفِداء. إن قانون الولي الذي يفدي في تثنية 25، هُوَ صورةٌ جميلةٌ عن مُخلِّصنا يسوع المسيح. أول ما نلتقي مع مفهوم الفداء، نجدُهُ كقانونٍ لتنظيم الأعمال في لاويين، وكقانون لتنظيمِ العائلات في تثنية. فإذا فهمنا هذا العبارات الناموسية المُسمَّاة "فداء"، فسوفَ نفهم المفهوم الروحي أو اللاهوتي للفداء عندما يُطَبِّقُ العهدُ القَديمُ والعهدُ الجَديدُ هذا المَفهُومَ على مَوتِ يسوع المسيح على الصَّليب. هذا المقطع الصغير في تثنية 25، الذي يُعطينا قانُونَ الوَلِيِّ الفادِي، هوَ مفتاحٌ يُوجِدُ معنىً وتطبيقاً لسفرِ راعُوث.

في خاتمةِ كُلٍّ من سفرِ التَّثنِيَة، اللاوِيِّينَ ويشُوع، سوفَ تجد حضَّاً على طاعة كلمة الله، كما في خاتمة لاويين ويشوع. هذا هو تشديدُ سفر التثنية. أعظم المواعظ التي سمعَها العالمُ مُطلَقاً، موجودةٌ في الإصحاحات الأخيرة من سفر التثنية حيثُ وعدَ موسى ببركةِ الله على الشعبِ العِبري إذا أطاعوا كلمةَ الله، وبلعنةِ الله عليهم إذا لم يُطيعوا كلمةَ الله. ختمَ موسى الوعظ الدِّيناميكيّ بالقَول، "وضعتُ أمامكَ الحياةَ والموت. فاخترْ الحياة لِكَي تحيا أنتَ وأولادُكَ." (تَثنِيَة 30: 19)

جدعون هو الأكثرُ أهميَّةً وتميُّزاً بين جميعِ هؤلاءِ القضاة. وسوفَ نُرَكِّزُ على حياةِ جِدعَون، لأنَّنا نتعلَّمُ من سيرة حياةِ جدعون أكثَر مما نتعلَّمُهُ عن سِيَرِ حياةِ باقي القضاة. مثلاً، إن كانت لديكَ نظرَة مُتواضِعة جدَّاً عن نفسِكَ، فَكِّرْ بما قالَهُ جِدعَون عن نفسِه: "عَشيرَتي هي الذُّلَّى، وأنا الأصغَرُ في بَيتِ أبي." عاشَ جِدعَونُ تحتَ سَيطَرَةِ المديانيِّين القاسِيَة على إسرائيل. وكانَ الكثيرُ منَ بني إسرائيل قد قُتِلُوا في الحربِ معَ المِديانِيِّين، الذين كانُوا يُتلِفُونَ مزرُوعاتِ شعبِ اللهِ، تاركينَ إيَّاهُم يتضوَّرُونَ جُوعاً بِلا غِذاءٍ.

بعدَ سبع سنوات من وقوعِهم تحتَ سيطرةِ المديانيين، بدأَ بنو إسرائيل يصرخون للربِّ طلباً للعَون. فدعا اللهُ رجلاً أصبح لهم مُخلِّصاً ومُنقِذاً. وكان هذا الرجل جدعون.

نقرأُ أن ملاكَ الربِّ جاءَ وجلسَ تحتَ البُطمةِ التي كانت في عَفرة التي لِيوآش. وابنُهُ جدعون كان يخبِطُ حِنطةً في المعصرة لكي يُهرِّبَها من المديانيين. فظهرَ لهُ ملاكُ الربِّ وقالَ له، "الربُّ معكَ يا جبَّارَ البأس." فقالَ له جدعون، "أسألُكَ يا سيِّدي إذا كان الربّ معنا فلماذا أصابتنا كُلُّ هذه وأينَ كُلُّ عجائبِهِ التي أخبرنا بها آباؤنا؟"(قُضاة6: 12- 14)

لقد مرَّت سنواتٌ كثيرة منذُ عُبورِ البحرِ الأحمر، فأرادَ جِدعَونُ أن يعرِفَ إن كانَ اللهُ لا يزالُ يُعطي لِشعبِهِ مُعجِزاتٍ كتلكَ التي أنجَزها في أيَّامِ مُوسى. فقالَ ملاكُ الرَّبِّ لِجِدعَون أنَّهُ إذا أرادَ أن يكتَشِفَ المُعجِزَةَ التي كانَ اللهُ سيستَخدِمُها ليُخَلِّصَ بني إسرائيل من المِديانِيِّين، فعلَيهِ أن ينظُرَ إلى نفسِهِ في المرآة. فاللهُ يُسَرُّ بأن يأخُذَ الأصغَرَ والأضعَفَ، من العَشيرَةِ الذُّلَّى، وأن يستَخدِمَ شخصاً إعتِيادِيَّاً ليُنجِزَ مُعجِزَةً غيرَ إعتِيادِيَّةٍ وخارِقَةً للطَّبيعة، بعدَ أن يكُونَ اللهُ قد خطَّطَ لإنقاذِ شعبِهِ من خلالِها.

من المهم جداً عندما يدعوكَ اللهُ لتعملَ عملاً من أجلِهِ، أن تذهبَ لهذا العمل بقناعةٍ أن اللهَ أرسلكَ وأنَّهُ معك. وعليكَ أيضاً أن تتعلَّمَ بعضَ الأسرارِ الرُّوحيَّة التي تعلَّمها هؤُلاء القُضاةُ ومُنقِذُونَ آخرُونَ عِظامٌ مثل مُوسى. وهذه الأسرارُ الرُّوحِيَّةُ هي: ليسَ المُهِمُّ مَنْ أنتَ وما أنتَ؛ بل المُهِمُّ من هُوَ اللهُ وما هُوَ الله. وليسَ المُهِمُّ ماذا تستَطيعُ أن تعمَلَهُ؛ بل المُهِمُّ هُوَ ما يستَطيعُ اللهُ أن يعمَلَهُ. وليسَ المُهِمُّ ماذا تُريدُ؛ بل ما يُريدُهُ اللهُ. وعندما تحدُثُ المُعجِزاتُ، سوفَ تنظُرُ إلى الوَرَاء وتَقُولُ، "لم يَكُنِ المُهِمُّ ما عَمِلتُهُ أنا، بل ما عَمِلَهُ اللهُ، لأنَّهُ هُوَ أرسَلَني، وهُوَ كانَ معي."

اللهُ لا يبحثُ عن قدِّيسينَ خارقين. بل هو غالباً ما يبحثُ عن الأصغر بين الأضعف، لأن هذا الأصغر بينَ الأضعف هو أكثرُ إستعداداً لتعلُّمِ الأسرار الروحية التي كان على موسى أن يتعلَّمَها، وكان على غيرِه من القادةِ العظام أن يتعلَّموها. فكيفَ يُمكِنُ لأشخاصٍ يظنُّون أنفُسَهم قِدِّيسينَ خارِقِين، كيف يُمكِنُ لهم أن يتعلَّموا هكذا أسرار؟ فإن كانوا أبطالاً خارقين، فسوفَ يَثِقُونَ بقُدراتِهم الخارقة قبلَ أن يَثِقُوا بالله. ولكن إن كانوا الأصغر بين الأضعف، فعندها يستطيعُ اللهُ أن يجعلهم يثقون به. كان هذا هو النوع من القادة الذي دعاهم اللهُ في سفرِ القضاة.

عندما دعا اللهُ جدعون ليهزمَ المديانيين، كان هُناكَ مئاتُ الآلاف منهم. فكانوا كالجرادِ في الكثرة، وكالرملِ الذي على شاطئ البحر. ولهذا أرادَ اللهُ أن يبنيَ إيماناً في هذا الرجل جدعون. فاللهُ يُريدُ أن يعملَ أمرين عندما يُحاول أن يمنحَ إنساناً هبةَ الإيمان. أولاً، يريدُ اللهُ أن يُزكِّيَ إيمان الرجل بالإمتحان. وثانياً، يُريدُ اللهُ أن يُبرهِنَ أو يُزكِّيَ نفسَهُ للرجل، وبذلكَ يُزكِّيَ إيمانَهُ به. لاحظ كيفَ يُثبِّتُ اللهُ إيمانَ الأشخاص الذين يدعوهم ليعملوا أُموراً تتطلَّبُ الكثير من الإيمان. نقرأُ في مزمور 37: 23 "من الربِّ تثبَّتَتْ خَطَوَاتُ الرَّجُل."

جميعنا يَعرفُ عن إختبارِ جدعون مع جزَّة الصوف. فلقد دعا اللهُ جِدعَون ليكونَ المُخلِّصَ من المديانيين. لقد إحتاجَ جدعَونُ أن يتأكَّدَ أنَّ اللهَ كانَ يدعُوهُ، فطلبَ منَ اللهِ أن يُؤَكِّدَ دعَوَتَهُ لهُ. فوضَعَ خلالَ الليلِ جَزَّةَ صُوفٍ في الهَواءِ الطَّلقِ، وقالَ للهِ أنَّهُ إذا وجدَ التُّربَةَ المُحيطَةً بجَزَّةِ الصُّوفِ ناشِفَةً، أمَّا الجزَّة فرَطِبَةً، فسوفَ يعرِفُ عندها أنَّ اللهَ كانَ يدعُوهُ لِيَكُونَ المُنقِذ. وعندما إستَيقَظَ جدعَون في الصَّباحِ التَّالِي، كانتِ الأرضُ ناشِفَةً، ولكنَّهُ عندما عصرَ جزَّةَ الصُّوف، خرجَ منها إناءٌ مَليءٌ بالماء. ولكَونِهِ بَقِيَ غيرَ مُتأكِّدٍ، طلبَ في اللَّيلَةِ التَّالِيَة من الرَّبِّ أن يدَعَ تُربَةَ الأرضِ تكُونُ رَطِبَةً حوالي جزَّةِ الصُّوف، أمَّا الجزَّةُ بِحَدِّ ذاتِها فطلبَ منَ الرَّبِّ أن يجعَلَها تَكُونُ ناشِفَةً. وفي الصَّباحِ التَّالِي، كانت تُربَةِ الأرضِ المُحيطة بجزَّةِ الصُّوفِ رَطِبَةً، أمَّا الجزَّةُ بِحدِّ ذاتِها فكانت ناشِفَةً جدَّاً.

بما أنَّ اللهَ دعا جِدعَون ليعملَ عملاً عظيماً، لهذا عمِلَ لهُ اللهُ بِحَسَبِ طَلَبِهِ. ولكن يتوجَّبُ علينا أن نحذَرَ عندما نطلُبُ منَ اللهِ أن يُبَرهِنَ نفسَهُ لنا. هُناكَ فَرقٌ دَقيقٌ بين أن نضعَ الجزَّةَ خارجاً، كما نُسمِّي طلب مُعجِزة لمعرفة إرادة الله، وبين تجربة الله. عندما جُرِّبَ الربُّ يسوع من الشيطان في البريَّة، كانت إحدى التجارب أن يذهبَ إلى أعلى موقِعٍ في الهيكل ويطرحَ نفسَهُ إلى أسفل. وإذا جاءَتِ الملائِكَةُ وأنقَذَتْهُ، فسيَعرِفُ الجميعُ أنَّهُ كانَ إبنَ اللهِ. ولكنَّ يسُوعَ قالَ، "مكتوب، لا تُجرِّب الربَّ إلهك." فكما ترون، ينبَغي أن نأتَي إلى الله بِالإيمان. تُوجَدُ أوقاتٌ سيمتَحِنُنا فيها اللهُ. ولكن ليسَ لنا نحنُ الحق بأن نمتحنَ اللهَ أو نُجرِّبَه.

عندما تبدأُ رحلتَكَ الرُّوحِيَّة، فالأمرُ يُشبِهُ قُبولَكَ في جامعة الله للإيمان. فليسَ لديكَ الحق أن تمتحنَ الله، بل اللهُ لهُ الحقُّ أن يمتحنَك. اللهُ سوفَ يُعطيكَ إمتحانات يوميَّة، وشهريَّة، وفصليَّة، ونهائية. اللهُ يستطيعُ أن يمتحنَكَ ساعةَ يشاء، فهذا حقُّهُ وإمتيازُه. وأما أنتَ فليسَ لديك أيُّ حقٍّ في إمتحانِ الله. فاللهُ يعرفُ إن كانَ لديكَ إيمانٌ في قلبِكَ وإن كنتَ تحتاجُ فقط للتأكيد. ويبدو أن اللهَ سوفَ يستجيبُ في هذا الأمر، الذي يختلفُ عن إمتحان أو تجربة الله، والتشكيك فيه لعدَمِ إيمانِكَ أو ثِقَتِكَ بهِ.

لقد ثبَّتَ اللهُ إيمان جدعون بطريقةٍ أُخرى. فمُباشرةً قبلَ أن يُهاجِموا المِديانيين الذين خيَّموا في وادٍ حيثُ كان الظلامُ قاتِماً، قالَ اللهُ لجدعون أن ينزِلَ ويتسلَّلَ إلى محلَّةِ المديانيين. فنزلَ جدعون مُتسلِّلاً إلى محلَّةِ المديانيين. ووصلَ إلى جانبِ خيمةٍ كان فيها جُنديان مِديَانِيَّان، وكان أحدُهُما يُخبِرُ حُلماً للآخر قائلاً، "هوذا قد حلمتُ حُلماً وإذا رغيفُ خُبزِ شعيرٍ يتدحرجُ في محلَّةِ المديانيين وجاءَ إلى الخيمةِ وضربَها فسقطت. أتساءلُ ما هو تفسيرُ هذا الحُلم؟" فأجابَهُ رفيقُهُ الجُندي، "أنا أعرفُ تفسيرَ الحلم. ما هذا إلا سيفُ جدعون وجيش إسرائيل القويّ الذي هو في أعلى التلَّة. حُلمُكَ هو أن شعبَ إسرائيل سوفَ يأتي ويسحقُ كل الأُمم المُتحالِفة مع المديانيين." (قُضاة 7: 12- 14)

عندما سمِعَ جدعون ذلك، وقفَ هناكَ في الظلام وأحنى رأسَهُ وسجدَ وعبدَ الله، ثُمَّ رجعَ من ذلكَ الإختبار وأخبرَ شعبَهُ قائلاً، "قوموا، لأن اللهَ قد دفعَ المديانيين في يدِكُم." هل يُعِدُّكَ اللهُ لِلقِيامِ بعمَلِ إيمانٍ؟ وهل يُمكِنُ أنَّ اللهَ يُريدُ أن يعمَلَ عَملاً عظيماً من خلالِكَ، ولكنَّكَ لستَ قريباً منهُ بشكلٍ كافٍ لتعرِفَ ذلكَ؟

قبل أن يستخدمَ اللهُ جدعون في هَزمِ المديانيين، نرى أن اللهَ أثبتَ نفسَه لجدعون بِطُرُقٍ عجيبةٍ مُتعدِّدة، ونَرى أنَّ اللهَ قد ثَبَّتَ إيمانَ جدعَون. أعظَمُ تَحَدٍّ لإيمانِ جِدعَون، كانَ عندما طلبَ اللهُ منهُ أن يُقدِّمَ ثَورَ والِدِهِ ذبيحَةً. كان والِدُ جدعون واحداً من الشعب المُرتَدّ. وكان عِندَه مذبحٌ قد بناهُ لبعل، أحد الألهة الوثنية. فقالَ اللهُ لجدعون، "أُريدُكَ أن تأخذَ أفضلَ ثورٍ عند والدِكَ، (أي بِلُغَةِ اليوم: أن تأخُذَ التَّراكتُور الباهِظ الثَّمن الذي يَخُصُّ والدك)، وأن تربط ذلك الثور بالمذبح، وتهدم المذبح. ثم خُذ هذا الصنم الخشبي الذي لوالدكَ وحطِّمهُ إلى قطعٍ صغيرة وأضرم بهِ النار. ثم قدِّم الثور ذبيحةً على نار الصنم المُحطَّم وليكن هذا الثورُ ذبيحةَ مُحرَقَةٍ لله."

لقد كان ذلكَ تحدِّياً كبيراً. فمراتٍ كثيرة في الأناجيل قالَ يسوعُ، "إن لم تكونوا مُستعدِّين أن تضعوني أوَّلاً قبل والديكم، فأنتُم لا تستحقُّونني." وهكذا فيسوع يضعُ أمامنا التحدِّي أن نضعَهُ أَوَّلاً قبلَ أبينا وأُمِّنا. وهُنا نجدُ مثالاً نموذجيَّاً عن هذا التحدِّي، عندما طَلَبَ اللهُ من جدعون أن يُحطِّمَ ويُنجِّسَ صنمَ والده.

لقد أطاعَ جدعون حرفِيَّاً ما أمَرَهُ بِه الله. وفي الصباحِ التالي، عندما استيقظَ أهلُ المدينةِ ورأوا ماذا حدثَ لمذبحِهِم ولصَنمِهم، قالوا "من فعلَ هذا؟" فجاءَ الجوابُ، "جدعون فعل هذا." فأرادوا أن يقتلوا جدعون لأنهُ أهانَ إلهَهُم بعل. وبما أنَّ والِدَ جدعَونَ أحَبَّهُ، قالَ لأهلِ مدينتِهِ، "أنتم الذين تستحقُّون أن تُقتَلوا بسبب إهانةِ بعل؛ فإن كان بعلُ إلهاً، دعوهُ يُدافِع عن نفسِه." وهكذا أُعطِيَ جدعون إسماً جديداً بهذه المُناسبة، وهو "يَرُبَّعل،" الذي يعني، "فليُدافِعْ بعل عن نفسِه."

ثم جاءَ الإمتحانُ الكبير عندما طلبَ اللهُ من جدعون أن يُغربِلَ جيشَه. لقد قادَ جدعون جيشاً قِوامُهُ 32 ألفاً ليُحاربَ بهم المديانيين. وبينما كانوا في طريقِهم إلى المعركة، قال الله، "يا جدعون، معكَ الكثير من الرجال." لَمِ يُرِدِ اللهُ أن يَظُنَّ جِدعَونُ أنَّ إنتِصارَهُ كان بِسَببِ العدد الكبير للرِّجالِ الذين كانُوا في جَيشِهِ. فأمرَهُ اللهُ أن يَصرِفَ الخائِفينَ ليَرجِعُوا إلى بُيُوتِهم.

تذكَّرْ أن موسى كتبَ في سفرِ التَّثنِيَة النَّامُوسَ الذي قالَ في تثنية 20، "عندما تذهبُ للحربِ ضدَّ عدوٍّ أعظمَ منك، فعِّلْ إيمانكَ بأن تقفَ وتقولَ للشعبِ، "إن كان أحدٌ منكُم مخطوباً ولم يتزوَّج بعد، فقد يُقتَلُ في هذه المعركة ويأخذُ رجلٌ آخر خطيبتَك. وهذا خطأ. فارجِعْ إلى بيتِك الآن. إن كان أحدٌ قد غرسَ كرماً ولم يقطف باكورتَهُ بعد، فقد يأتي آخر ويقطفُ باكورةَ كرمكَ إذا قُتِلتَ في المعركة. فارجعْ إذاً إلى بيتِك. فنحنُ لا نحتاجُ إليك." (تثنية 20: 1- 8). فعندما تحدَّى جِدعَون الخائِفينَ بأن يَرجِعُوا، رجعَ عِشرُونَ ألفَ رَجُلٍ إلى منازِلِهم.

فتابعَ جِدعَون سيرَهُ ومعهُ عشرة آلاف رجل، فقالَ الله، "يا جدعون، لا يزالُ معك الكثير من الرجال. فإذا ربِحتَ هذه المعركة ومعكَ عشرة آلاف رجل، سوفَ تظنُّ أنكَ انتصرتَ بسبب عدد الرجال الذين معك. لذلك، عندما تصلُ إلى النهر، سيكون الشعبُ عطشاناً من السير. فالآن أولئكَ الذين يَنحَنُون على رُكَبِهم للشُرب فَيَلغُون المياهِ بِلِسانِهم من النهر كما يلغُ الكلبُ، قُل لهم أن يقفوا على هذه الناحية من النهر. ولكن أولئكَ الذين يتشوَّقون ليُحارِبوا المديانيين لدرجةِ أنهم يأخذون المياهَ بكفِّهم ويلغونها بينما يسيرون في النهر، فأوقفهم على الناحية الأُخرى من النهر." فكان عددُ الذين جَثُوا على رُكَبِهم للشرب وولغوا المياه بلسانهم تسعة آلاف وسبعمائة رجل. فقالَ الله، "قلْ لهم أن يرجعوا إلى بيوتِهم، فنحنُ لسنا بحاجةٍ إليهم. بالثلاث مئة رجل الذين ولغوا المياه بكفِّهم، سأُخلِّصُكُم وأدفعُ المديانيين ليدِكم." (قُضاة 7: 5- 7)

وكان هذا أقلَّ من واحد بالمئة من العدد الإجمالي الذي إبتدأ معهُ جدعون. الله لا يستخدمُ الأكثريَّة المُستهتِرة بل الأقلية المُلتزمة. هذا هو الدرس الذي نتعلَّمُهُ عندما نرى هذا الجيش يتقلَّص من إثنين وثلاثين ألف رَجُلٍ، إلى ثلاثمائة رَجُل.

ولقد إمتحنُ اللهُ إيمانَ جدعون بطريقةٍ أُخرى أيضاً، من خلال خطَّةِ المعركة التي هُزِمَ بها المديانيُّون. لقد تطلَّبَ إنتصارُ جدعون إيماناً عظيماً، شجاعةً كبيرةً، وخُطَّةً رائعة.كان المديانيُّون قد خيَّموا في وادٍ مُظلمٍ جداً، لدرجةٍ لم يكُن بإمكانِك أن ترى إصبَعَكَ أمام عينيك. فقالَ اللهُ لجدعون أن يقسِمَ الثلاثمائة رجل إلى ثلاث فِرَق، كلُّ فرقة من مئة رجل، وأن يجعلَهم إلى الشمال، الشرق، والغرب من جيشِ المديانيين. لقد أُعطِيَ جدعون تعليماتٍ حاسمةً نقلها بحذافيرها لرجالِه.

وهنا نجدُ درساً عظيماً في القيادة. قالَ جدعون، "أُنظُرُوا إليَّ،... إتبَعُونِي... كما أفعلُ أنا، إفعَلُوا أنتُم أيضاً." (قُضاة 7: 17) هذه هي القيادة الحقيقيَّة. فكانَ جميعُ هؤلاء الرجال مُلتزمين تجاهَ اللهِ وتجاهَ جدعَون. في يُسراهُم حملَ كُلُّ واحدٍ منهم جَرَّةً خزفيَّةً داخلها مِشعلٌ. وفي يُمناهُم حملَ كُلُّ واحدٍ منهم بوقاً. وعندما أعطاهم جدعون الإشارة، كسَّروا الجِرار التي كانت تُغطِّي المشاعِل، وهكذا أظهروا مئةَ مِشعل. ومن ثمَّ بوَّقوا بأبواقِهِم المئة. ثم صرخوا، "سيفٌ للربِّ ولجدعون." تكرَّرَ حدوثُ هذا في ثلاثة مواقِع.

إفترضْ أنكَ كُنتَ مديانيَّاً، تنامُ على الأرض في عتمةِ الظلام، فماذا ستظنُّ إذا إستيقظتَ فجأةً وسمعتَ ضجَّةَ تحطيم مائة جرةٍ ثم رأيتَ مائة مشعلٍ وسمعتَ مائة بوقٍ تُنفَخُ ومائةَ رجلٍ يصرخون شمالي مُخيَّمِك؟ وإذا بهذا يتكرَّرُ إلى الشرقِ وإلى الغرب؟ فسوفَ تظنُّ على الأرجح أن جيشَ جدعون قد حَاصركَ.

ولقد ظنَّ المديانيون أنهم مُحاصَرون. وتذكَّر أن الظلامَ كان حالِكاً. فأُصيبوا بالهلع، وتحتَ جناحِ الظلام راحوا يقتُلون بعضُهم بعضاً. وطردهم رجالُ جدعون من الوادي، كما تُقادُ قُطعانُ الماشية. وعندها رجعَ الرجالُ الذين تركوا جيشَ جدعون قبلاً، وإنخرطوا في المعركة. فعندما تنجحُ المعركةُ، ليسَ صعباً تجنيد الناس للحرب. فأولئكَ الذين رجعوا لبيوتِهم عادوا إلى المعركة وقضوا على جيشِ المديانيين وعلى جميعِ حُلَفَائِهِم.

إن إخضاعَ المديانيين قد تمَّ وصفُهُ هُنا في واحد من أجملِ الأعداد في العهد القديم. يقولُ هذا العدد، "ووقفوا كُلُّ واحدٍ في موقِعِه حول محلَّة المديانيين فركَضَ كلُّ جيش المديانيين وصرخوا وهربوا." (قُضاة 7: 21) فلَو أنَّ نِسبَةً مُعَيَّنَةً من الثلاثمائة لم يكشِفُوا مشاعِلَهُم وينفِخُوا بأبواقِهم ويهتِفُوا في الوقتِ المُعَيَّن، لفَشِلَت خُطَّةُ المعرَكَة بكامِلِها، ولكانَ جَيشُ بني إسرائيل قد تمَّ ذبحُهم بالكامِل على يدِ المِديانِيِّين.

نجدُ هُنا صورةً عن كنيسة يسوع المسيح اليوم. فالمسيحُ المُقامُ لا يُريدُ الأكثريَّةَ الكسولة غير المُبالية والفاتِرة. بل هو يحتاجُ إلى أقليةٍ مُلتزِمةٍ منَ التَّلاميذ المُكَرَّسِين، الذين سيقفون كُلُّ واحدٍ في موقِعِه. إذا إستطاعَ اللهُ أن يجعلَ كلَّ واحدٍ منا يقفُ في موقِعِه وأن يُمارِسَ المواهبَ الروحية التي أعطاهُ إيَّاها الله، مهما كان الموقِع الذي تضعُنا فيهِ هذه المواهِب، فإذا كان لدينا ولاءٌ وإلتزامٌ بيسوع المسيح مئة بالمئة، عندها نستطيعُ أن نطردَ كلَّ قوَّات الجحيم.

تَذَكَّرُوا أنَّ العددَ المِفتاحِيَّ الذي يكشِفُ الحقيقَةَ في أسفارِ العهدِ القَديم التَّاريخيَّة، نَجِدُهُ في العهدِ الجديد. يطلُبُ مِنَّا الرَّسُولُ بُولُس أن نبحَثَ عنِ النَّماذِج والتَّحذيرات عندما نقرَأُ التَّاريخَ العِبريّ (1كُورنثُوس 10: 11) ففي سفرِ القُضاة، تتمحوَرُ التحذِيراتُ حولَ عواقِب الإرتداد الخَطيرة والمُريعة.

أمَّا النماذِجُ فيُمكِنُنا أن نَجِدَها في حياةِ القُضاة. وهُناكَ قُضاةٌ آخرونَ أمثال شمشُون الذي شَكَّلَ تحذيراً يُتفادَة ونمُوذَجاً يُقتَدَى في آنٍ. علينا أن نبحَثَ عنِ الإثنَينِ في حياتِهِ. كُلُّ نماذج هؤلاء القُضاة تُمَثِّلُ لنا الحقيقَةَ الدينامِيكيَّةَ أنَّ اللهَ يُسَرُّ بإستخدامِ أشخاصٍ إعتِيادِيِّين جِدَّاً، ليَعمَلَ من خلالِهم أُمُوراً غير إعتِيادِيَّة، لأجلِ مجدِهِ. عندما نُدرِكُ هذه الحقيقة، علينا أن نُدرِكَ أنَّ أعظَمَ أهلِيَّةٍ لدَينا هي توَفُّرُنا لنعمَلَ أيَّ أمرٍ يدعُونَا اللهُ لهُ.


تابِع بَنْد - بشارة بَيَان

God Rules.NET
Search 100+ volumes of books at one time.