في ظِلالِ الكلمة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
الصفحة 1 من 2 معَ العِلمِ أنَّ هذه الدراسة ليسَت دِراسةَ أكاديميَّة بل هي دِراسةٌ تأمُّليَّة تعبُّديَّة لأسفارِ الكِتابِ المقدَّس، ولكن هُناكَ خلفِيَّةٌ تاريخيَّة ينبغي أن تكونَ مُطِّلعاً عليها لكي تُحسِنَ تقدير وفهم رسالة سفر دانيال. فغالِباً ما يستخدِمُ الكتابُ المقدَّس حُكمَ المُلوك والقَياصِرة لكي يُؤرِّخَ أحداثاً تاريخيَّةً، كما نرى في الأعدادِ الإفتِتاحيَّة من قصَّةِ الميلاد، التي نَراها في الإصحاحِ الثاني من إنجيلِ لُوقا. خِلالَ الأحداث التي تتكلَمُ عنها الإصحاحاتُ الأربعة الأولى من سفرِ دانيال، كانَ نبُوخذنصَّر ملكَ الأمبراطُوريَّة البابِليَّة العالميَّة. في الإصحاحِ الخامِس من سفرِ دانيال، نقرأُ أن إبنَ نبوخذنصَّر، أي بِلطشاصَّر، أصبَحَ الملك. وفي الأعدادِ الخِتامية من الإصحاحِ الخامِس والأعدادِ الأُولى من الإصحاحِ السادِس من سفرِ دانيال، نقرأُ أنَّ الفُرُس إحتَلُّوا بابِل وأصبَحَ داريُوس المادّي هو الملك. بهذه الطريقة نعرِفُ أنَّ الإصحاحات الستَّة الأولى في سفرِ دانيال تُغطِّي سبعينَ سنةً من التاريخِ البابِلي. إن الإطارَ التاريخي للأحداث التي يُغطِّيها مُحتوى الكِتاب المقدَّس، يمتدُّ عبرَ الأمبراطُوريَّات العالمية التالية: مصر، أشُّور، بابِل، فارِس، اليونان، وروما. هُناكَ أمبراطُوريَّتانِ عالميَّتان تتلاصقانِ في سفرِ دانيال – الأمبراطُوريَّة البابِلية التي دامَت سبعينَ سنةً، والأمبراطُوريَّة الفارِسيَّة، بِوِلاياتِها المائة والسبعة والعشرين لمادي وفارِس، والتي تُشكِّلُ الإطارَ التاريخي لسفرِ أستير. في إحدى نُبوَّاتِهِ، يُشيرُ دانيالُ إلى أربع قُوى عالميَّة: بابل، فارِس، اليونان، وروما. لِكَي نفهَمَ الظُّروف التارِيخِيَّة لِسفرِ دانيال، ولكي نُقدِّرَ بِشكلٍ خاص أُبَّهَةَ ومجد نبوخذنصَّر، من المُهِم أن نعرِفَ كيفَ كانت مدينةُ بابِل. فأصغِ لهذا الوصف لمدينةِ بابِل الذي كتبَهُ أحدُ مُؤرِّخي العهدِ القديم: "كانت المدينةُ تحوي أكثَر من مليوني نسمة، وكانت جنائِنُ بابِل المُعلَّقَة واحدةً من عجائب الدُّنيا السبع في العالمِ القديم. ويُخبِرُنا المُؤرِّخُونَ القُدَامَى أنَّ السورَ الذي كانَ يُحيطُ بالمدينة كانَ طولُهُ تقريباً مائة كيلومتر، إذ شكَّلَ كُلُّ ضِلعٍ منهُ حوالي 25 كيلومتراً. وكانَ ارتفاعُ هذا السور حوالي مائة وعشرة أمتار، وكانت سماكةُ الجِدار حوالي 30 متراً. وكانَ أساسُهُ تحتَ الأرض بعُمق 13 متراً، لكي لا يتمكَّن العدوَّ من حفرِ خندَقٍ تحتَهُ. وكان يُحيطُ بالمدينةِ داخِلَ السور شُعاعُ فراغٍ عرضُهُ حوالي 400 متراً، يتوسَّطُ ما بينَ السور والمدينة. ومن خارِج كانَ السورُ محمِيَّاً بِخنادِق مملوءة بالمياه. وكانَ يوجدُ على السور مائتان وخمسونَ بُرجاً للحِراسَة. "كانت المدينةُ مقسومةً إلى قِسمَين مُتساوِيَين بفعلِ مُرورِ نهرِ الفُراتِ في وسطِها. وكانَ يحجُزُ ضِفافَ النهرِ جِدارٌ مُرتَفِعٌ من الحجارةِ، معَ خمسةٍ وعشرينَ بوَّابةً لتصِلَ بينَ الطُرُقات والسُفُن. وكان يُوجَدُ جِسرٌ طُولُهُ كيلومتر واحد وعرضُهُ أحدَ عشرَ متراً، بالإضافةِ إلى جُسورٍ مُتحرِّكَةٍ تُرفَعُ في الليل. وكان هُناكَ نفقٌ تحتَ النهرِ، بعرضِ سبعةِ أمتار وارتفاع أكثر من أربعة أمتار. ففي أزمِنةِ الحرب الغابِرة، كانت بابِل قلعةً حصينة. مدينةُ بابِل في أيَّامِ دانيال، لم تكُن فقط المدينةَ الأولى في العالم، بل كانت أيضاً القُوَّة الأمبراطُوريَّة العُظمَى التي حَكمَت في العالم حتَّى ذلكَ الوقت. هذه الأمبراطُوريَّة لم تستَمِرَّ إلا سبعينَ سنةً. ولقد عايشها دانيالُ من نهضَتِها إلى زوالِها. وكانَ دانيالُ صديقاً ومُستشاراً للمَلِك. لقد كانَ نبوخذنصَّر عبقريَّاً، وهو الذي بنى الأمبراطُورِيَّة البابليَّة التي دامت 70 سنةً، وحَكمَ هو فيها 45 سنةً. كانت قُوَّةُ أو سُلطَةُ نبوخذنصَّر مُطلَقةً. في الإصحاح الخامِس من سفرِ دانيال، نقرأُ عنهُ، "أيَّاً شاءَ قتَل وأيَّاً شاءَ استَحيا" (19). يصعُبُ علينا اليوم أن نُقدِّرَ السُلطَةَ المُطلقة لحُكمٍ دِكتاتُورِيّ، أو لحاكِمٍ تُوتاليتاري مثل نبوخذنصَّر. عندما تأخُذُ فكرةً عن تاريخِ هذا الرجُل نبوخذنصَّر، تُدرِكُ أنَّ مُعجِزَةً عظيمَةً تمَّ وصفُها عندما يذكُرُ السفرُ إعتِرافَ نبُوخذنصَّر بالإيمانِ بإلهِ دانيال. إنَّ اكتشافَ وتفسيرَ دانيال لحُلمِ نبوخذنصَّر (الإصحاح 2) تركَ أثراً عميقاً جداً على هذا الملك. في ذلكَ الحُلم، رأى نبوخذنصَّر تِمثالاً لرجُل. رأسُهُ من ذهب. صدرُهُ من فُضَّة. بطنُهُ وحقويهِ من نُحاس. ساقاهُ من حَديد، وقدماهُ من حديدٍ ممزوجٍ بِخَزَف. كانَ تفسيرُ دانيال لهذا بأنَّهُ يُشيرُ إلى الممالك العالمية الأربع العُظمَى. عندما فسَّرَ دانيالُ حُلمَ نبوخذنصَّر، قال دانيال، "أنتَ أيُّها الملِكُ هو رأسُ الذهب، لأنَّكَ القُوى العُظمَى في العالم، ولكنَّ سُلطانَكَ هذا سوفَ يزولُ يوماً ما. فمملكتُكَ سوفَ تسقُطُ وتحُلُّ محلَّها مملكةٌ أُخرى لن تكونَ بِعَظَمةِ مملكتِكَ، وهي مملكة فارِس. هذا هو جزءُ الفِضَّة من التمثال. ومَملَكة النُحاس، التي هي اليُونان، سوفَ تتبَع. وأخيراً، المملكة المُشارُ إليها بأقدامِ الحديد هي الأمبراطُورِيَّة الرومانِيَّة." وقد تُشيرُ أصابِعُ القدمين العشرة إلى مناطِق الأمبراطُوريَّة الرومانية العشر. يبدو أنَّ هذا التفسير دخلَ ذهنَ نبوخذنصَّر سُرعانَ ما سمِعَ أنَّهُ "رأسُ الذهب." فصنعَ تِمثالاً كامِلاً من ذهب وجعلَ الجميعَ يَخُرُّونَ ويسجُدونَ أمامه. في هذه المرحلة كانَ نبوخذنصَّر أبعَد ما يكونُ عن التوبة. وكما سنرى، كانَ لشهادةِ دانيال وأصدِقائهِ الثلاثة تأثيراً عميقاً غيَّرَ حياةَ نبوخذنصَّر وجعلَهُ يعتَرِفُ بالإيمان باللهِ الحي الحقيقي. إنَّ كاتِبَ إنجيل لُوقا لم يكُن يهُودِيَّاً، ولم يكُنْ واحداً من الإثني عشر. بل كانَ يُونانِيَّاً، ولقد وجَّهَ إنجيلَهُ إلى شخصٍ كانَ يُونانِيَّاً أيضاً. يعتَقِدُ المُفسِّرُونَ أنَّ لُوقا إستَنَدَ إلى مريم أُم يسُوع، وإلى يعقُوب أخي يسوع، وإلى عدَّةِ شُهودِ عيانٍ آخرين كمصادِر لمعلُوماتِهِ عندما قامَ ببحثِهِ وكتبَ هذا الإنجيل. ولقد أشارَ بُولُس إلى لُوقا "كالطبيب الحَبيب" وكمُرافِقٍ لهُ في رحلاتِه. من الواضِح أنَّهُ سافَرَ معَ بُولُس لكَي يُعالِجَ عوارِضَهُ المرَضِيَّة الناتِجة عن "شوكتِهِ في الجسد" (2 كُورنثُوس 12). لقد أشارَ بُولُس إلى لُوقا ثلاث مرّاتٍ في رسائِلهِ المُوحاة (كولوسي 4: 14؛ 2 تيمُوثاوُس 4: 11؛ وفيلمون 24). ولوقا هو أيضاً كاتِبُ سفر أعمال الرسُل. ويوجِّهُ لوقا سفر أعمال الرسُل إلى الشخص نفسِهِ الذي وجَّهُ لهُ إنجيلَ لوقا، أي ثاوُفِيلوس. وبما أنَّ إسم ثاوُفِيلوس يعني "مُحِبُّ الله،" يظُنُّ بعضُ المُفسِّرين أن هذين السفرَين لم يُوجَّهَا إلى أيِّ شخصٍ مُعَيَّن يُحِبُّ الله، بينما يعتَقِدُ الآخرونَ أنَّ ثاوُفيلوس كانَ رجُلاً حقيقيَّاً كانَ لوقا يعرِفُهُ. لقد كانَ كاتِبُ هذا الإنجيل رجُلاً مُثَقَّفاً. ولربَّما كانَ يُعتَبَرُ عالِماً في زَمانِه. وهو يستخدِمُ عبارَاتٍ طبِّيَّة أكثَر من هيبُّوقراطِيس الذي يُعتَبَرُ "أب الطبّ الحديث،" ويستخدِمُ قواعِدَ لُغَويَّة يُونانيَّة أفضَلَ من باقي كُتَّاب أسفارِ العهدِ الجديد، بما فيهم الرسُول بُولُس. لقد كانَ كاتِباً مَوهُوباً ومُؤرِّخاً دقيقاً. عِندَما سجَّلَ لُوقا رحلات بُولُس التبشيريَّة، إستخدما ضمير "نحنُ،" و "هُم" بالتبادُل. إنَّ دراسةً دقيقة لهذه المقاطِع التي تحتَوي الضمير "نحنُ" في سفرِ الأعمال، ستُرينا متى كانَ لُوقا برفقَةِ بُولُس في رحلاتِهِ التبشيريَّة. كتبَ بُولُس للكُورنثُوسيِّين أنَّ اللهَ لم يدعُ لِلخَلاص الكثير من الأشخاص الذين يعتَبِرُهُم العالَمُ حُكَماء (1كُورنثُوس 1: 26- 29). كانَ هُوَ ولُوقا إستِثناءً على هذه القاعِدَة، التي قد تكونُ تفسيراً آخَرَ لعلاقتِهما المُقَرَّبَة. يُسجِّلُ إنجيلُ لُوقا عشرينَ مُعجِزَةً عمِلَها يسوع، سِتَّاً منها ترِدُ فقط في إنجيلِ لُوقا. ويُسجِّلُ ثلاثةً وعشرينَ مثلاً، ثمانيةَ عشر منهُم ترِدُ فقط في إنجيلِ لُوقا. يُعتَبَرُ إنجيلُ لُوقا الإنجيل المُفَضَّلَ لأنَّ المسيحَ الذي يَصِفُهُ لنا لُوقا هُوَ إنسانِيٌّ، عَطوف، يهتَمُّ ويتَّحِد تماماً مع إنسانِيَّتِنا. كطَبِيبٍ، كانَ لِلُوقا ضَميرٌ إجتِماعِيُّ عظيم، ولقد أعطاناَ قصَّةً عن حياةِ المسيح، الذي كانَ واعِياً تماماً للقضايا الإجتِماعِيَّة. وبينما يُشدِّدُ لُوقا على اللمسَةِ الإنسانيَّة، يُخبِرنا أنَّ مرثا كانت غاضِبَةً لأنَّ مريم لم تُساعدها على إعدادِ الوليمة للمسيح عندما كانَ يزورُهما للغداء (لُوقا 10: 38- 42). وبينما إستَخدَم لُوقا عينَ المُؤرِّخ التي ترى التفاصيل، وقلبَ الطبيب الذي يطفحُ بالعَطف، أخبَرنا أنَّ عينا الرَّبّ إلتقتا بعينَي بطرُس عندما صاحَ الدِّيك وكانَ بطرُس قد أنكَرَ ربَّهُ للمرَّةِ الثالِثة (22: 60، 61). نرى عبرَ إنجيل لُوقا بكامِلهِ لمسةَ يسُوع الإنسانيَّة. وعندما تجمَعُ كُلَّ ما تراهُ هُناكَ، يكُونُ لديكَ وصفٌ وصُورَةٌ عقليَّة عن يسوع التي تُساهِمُ كثيراً في سجلِ إبن اللهِ وابنِ الإنسان، تماماً كما كانَ يسُوعُ حينَها وكما هُوَ الآن. إنَّ رسالةَ الإنجيل الثالِث هي إنسانِيَّة الله-الإنسان. فالتشديدُ هُوَ أنَّ هذا الإنسان، الذي كانَ الله، وحَّدَ نفسَهُ بإنسانِيَّتِنا. كَمُؤرِّخٍ دقيق وكاتِبٍ ماهِر، قدَّمَ لُوقا سِجلاً دَقيقاً مُنَظَّماً لصديقِهِ ثاوُفِيلُوس. وأنا مُتَيقِّنٌ تماماً أنَّهُ كانَ شخصاً حقيقيَّاً مَشهُوراً، أحبَّ اللهَ وكانَ محبُوباً من لُوقا (1: 3). في مُقدِّمتِهِ للسفرِ التاريخي الوحيد في العهدِ الجديد، وصفَ هذا الإنجيلَ الثالِث كَسِجِلٍّ "عن جميعِ ما إبتدَأَ يسُوعُ يعمَلُهُ ويُعلِّمُ بهِ، إلى اليومِ الذي إرتفعَ فيهِ." (أعمال 1: 1و 2) يُخبِرُنا هذا المُؤرِّخُ عن ميلادِ المسيح وعن الثلاثين سنة الأُولى من حياتِهِ، أكثر ممَّا يُخبِرنا عنهُ أيٌّ من كُتَّابِ الأناجيل الأُخرى. إنَّ الإصحاحَين الأوَّلَين في إنجيلِهِ يُخصِّصانِ مائةً وإثنين وثلاثين عدداً لخرقِ الصمتِ عن هذه المرحلة في حياةِ يسُوع. إنَّ إنجيل لُوقا هُوَ سِجِلٌّ تاريخيٌّ دَقيقٌ ومُنظَّم عنِ الأُمور التي عمِلَها يسُوع وعلَّمَ بها من وِلادتِهِ إلى صُعودِه. يعتَقِدُ الكثيرونَ من عُلماءِ الكتابِ المقدَّس أنَّ العددَ التالي هو العددُ المفتاحِيُّ لإنجيلِ لُوقا: "لأنَّ إبنَ الإنسانِ قد جاءَ لكَي يطلُبَ ويُخلِّصَ ما قد هلَك." (19: 10)
|