مكتبة الأخوة أَسْبَق بَنْد - تابِع بَنْد - عَوْن
|
1-"قد دخلت جنتي يا أختي العروس قطفت مري مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب أشربوا واسكروا أيها الأحباء".هذا هو جواب العريس على دعوة عروسه التي وجهتها إليه في ختام الإصحاح السابق "ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" وكم هو جميل وملذ لقلب الرب ان يجد من شعبه ترحيبا حبيا كهذا! ولذا فهو على الفور وبدون تردد يلبي هذه الدعوة ويجيب عليها بالقول "قد دخلت جنتي يا أختي العروس" فهو تبارك اسمه لم يكن بعيدا عن عروسه بل بالحري كان "واقفا على الباب" منتظرا اللحظة التي فيها تفتح قلبها ليدخل إليها ويتعشى معها وهي معه. أنه قريب منا جدا "ادعوه وهو قريب "(أش55: 6) "يدعوني فاستجب له" (مز91: 15) أليس في هذا ما يشجعنا على الإكثار من الاقتراب إلى الرب "سامع الصلاة" حيث الرحمة والنعمة والعون في حينه؟ "دخلت. . . قطفت. . . أكلت. . . شربت" فكم هو مشبع ومرو لقلب الرب ان يوجد شعبه في شركة مقدسة معه! وكم هو مسر ومبهج لنفسه ان يوجد وسط قديسيه ومحبيه! حتى وان كانوا في هذا العالم يجوزون في آلام لأجل اسمه، فأنهم إذ يحتملونها بصبر ورضى لمجده فهو _ له الكرامة يقدر أمانتهم له ويجد فيها رائحة طيبة "قطفت مري مع طيبي". * * * وكما ان الرب المبارك سروره في خاصته المتألمين لأجل اسمه، فان له أيضا سروره وشبعه بهم إذ هم في وحدة مقدسة وشركة حبية يظهرون في حياتهم وفي سجودهم وشهادتهم ثمار الطيبة الجديد المنعشة لنفس "أكلت شهدي مع عسلي" فهو له المجد له شركة مع قديسيه في المر "مري مع طيبي" كما في الحلو "شهدي مع عسلي". * * * "شربت خمري مع لبني" ان ربنا المعبود له أيضا شركة كاملة مع خاصته في كل ما هو من الروح القدس، فبينما هو يقدر تماما ما ترمز إليه الخمر من تكريس مقدس وغيرة روحية ونشاط في خدمته، فأنه لا يزدري بما يرمز إليه اللبن من بساطه وإخلاص في المؤمنين الأحداث لأنه "من أفواه الأطفال والرضع أسست حمدا"(مز8: 2). * * * "كلوا أيها الأصحاب أشربوا واسكروا أيها الأحباء" فالعريس يدعو أصحابه وأحباءه ليأكلوا ويشربوا كثيرا ( * ) ومن هنا نرى بأنه ان كان الرب يجد شعبه بين قديسيه فهو يريد أنهم يشاركونه أيضا في هذا الشبع. وإذا ما كانت هناك خدمة من قديسيه له فهناك أيضا خدمة دائمة منه لقديسيه. ومهما وجد في خاصته من محبة مشبعة لقلبه فهو تبارك اسمه المتقدم في المحبة. أنه دائما يعطي أكثر مما يأخذ. * * * "كلوا أيها الأصحاب" ولا بد ان يجيء الوقت المجيد الذي سوف يشترك فيه كثيرون في تلك الوليمة وفي ذلك العشاء الملكي. سيكون للعريس وقتئذ أصحاب كثيرون "أصدقاء العريس" الذين سيفرحون فرحا كاملا "من أجل صوت العريس" عندما يدعوهم إلى "عشاء عرسه" المجيد. أنه سيكون يوم مجد سماوي للسماويين، كما أنه سيكون يوم مجد أرضي للأرضيين الذين سيوجه الرب دعوته إليهم "كلوا أيها الأصحاب أشربوا واسكروا أيها الأحباء" فالأغصان الطبيعة التي قطعت طويلا من شجرة الوعد سوف تطعم مرة أخرى. في ذلك اليوم _ يوم رجوع أتقياء إسرائيل "يتأصل يعقوب ويزهر ووليمة لجميع الأمم بسبب البقية التقية في رجوعها إلى الرب وإلى أرض البركة. * * * ليتنا نتطلع ونمد بصرنا إلى اليوم السعيد حينما يعود السيد والعريس المبارك ليأخذ أولا عروسه السماوية المتلهفة شوقا إليه، وشعبه الساهر في انتظار قدومه ولسان حاله "تعال أيها الرب يسوع" وعندئذ كأنه يجيب على هذا النداء "قد دخلت جنتي يا أختي العروس" عندئذ يكون المسيح وقديسوه الممجدون في السماء، ثم شعبه الأرضي (بعد ذلك) حينا يوجد في أرض الموعد، ثم جميع أمم الأرض في ملك السلام الألفي حينئذ تتم كل المواعيد التي أعطيت للآباء، فيالها من بركة كاملة وشاملة تملأ السماء والأرض! ويا له من ترحيب مبهج من ذاك الذي هو "رب الجميع" قائلا "كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحباء". 2-"أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعا. افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حما متي يا كاملتي لان رأسي امتلأ من الطل وقصصي من ندى الليل".وصلنا الآن _ في تأملاتنا في هذا السفر _ إلى قسم جديد يتحدث إلينا عن ناحية اختبارية محزنة، ففي الجزء السابق لهذا القسم رأينا العروس في كمال الغبطة والهناء متمتعة بالشركة السعيدة مع عريسها وحبيبها، الأمر الذي نختبره كثيرا في شركتنا الخاصة وبالأكثر في اجتماعاتنا، ولكن سرعان ما تغير المشهد هنا، فما انتهت الوليمة وفرغت العروس من العشاء حتى تبدل الحال فإذا بها تقول "أنا نائمة" وأننا نرى هذه الصورة بكيفية جلية في العهد الجديد، إذ ما أكبر الفرق بين الرسالة إلى الكنيسة في أفسس، ورسالة الرب لها في سفر الرؤيا (ص2: 1-7) ففي الأولى نرى ثمار النعمة الجميلة وعمل الروح القدس في مؤمني أفسس بصورة بهيجة، بينما في الثانية نرى تلك الكنيسة في سقوطها إذ تركت محبتها الأولى. صحيح أنه بقي فيها الكثير من ثمار النعمة التي لم يتجاهلها الرب (رؤ2: 2و3و6) ولكنها فقدت الينبوع المقدس _ المحبة التي يريدها الرب قبل كل شيء. لقد مر بنا في الإصحاح الرابع من هذا السفر ان العروس هي "جنة". . "ينبوع" . "بئر مياه حية" فقد كانت تتدفق منها عواطف المحبة القوية والغيرة الروحية المقدسة _ الأشياء الحلوة التي فقدتها في ص5: 2و3. لقد كانت نائمة ولكنها مع ذلك استطاعت ان تقول "قلبي مستيقظ" فان الرب لم يزل حبيبها الذي لا زالت تميز صوته "صوت حبيبي قارعا" ولا زالت لديها بقية من العواطف الصادقة من نحوه. أنها لا ترى هنا في حالة شر أو دنس ولكنها مع ذلك قد فقدت قوتها الروحية ونشاطها "أنا نائمة (ولكن) قلبي مستيقظ" أنها في حالة قلق وعدم اطمئنان، القلب يحن إلى المسيح ولكنها ليست تميل لان تجهد نفسه من أجله، ويا لها من حالة محزنة ان يقف العريس المبارك على الباب ويقرع! ولكنه ليس أمر غريب بكل أسف، فقد يكون المؤمن سليما في قلبه، لكنه إذ يصل إلى حالة التبلد والخمول والنعاس الروحي فان واجباته الروحية تصبح ثقلا على كاهله، فأما أنه يهملها إطلاقا أو أنه يتممها ببرودة، وهذا معنى قول العروس "أنا نائمة (ولكن) قلبي مستيقظ" فلا هي نائمة ولا هي مستيقظ. ضميرها نائم ولكن قلبه في حالة يقظة، ومن ثم فهي لا تجد لنفسها راحة وانتعاشا، وما أتعس حالة كهذه! أنها بكل أسف صورة مؤلمة لكثير من أولاد الله الذين كان ينبغي ان يكونوا مشرقين سعداء وممنطقين أبدا لأداء أي خدمة للمسيح وللنفوس الخالدة. * * * والآن هي بنا نتحول إلى الناحية اللامعة المباركة من المشهد الذي أمامنا لنرى هل تغير الرب بسبب تغير العروس. ان عدم الإيمان يجرؤ على القول بأنه تغير، وعندئذ تمتلئ النفس أفكارا خاطئة عن المسيح، ولكن هل استطاع حقيقة جفاء العروس وعدم اكتراثها ان يغير من عواطفه نحوها؟ ان محبة المسيح من نحو عروسه لن تتغير لحظة واحدة برغم من فتور محبتها، وان كلمات العروس نفسها تؤيد هذه الحقيقة فمع أنها كانت نائمة لكنها استطاعت ان تعرف شخصه، وتميز صوته داعية إياه "حبيبي" نعم ما تزال فيها الحياة التي تستمع إلى ذلك الصوت برغم خيبتها فتقول "صوت حبيبي قارعا. افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي" وهنا نرى صورة المؤمن المسكين المتغير كما صورة المخلص الذي لن يتغير. حقا ان كلمات العريس لعروسه الواهنة الضالة، كلها محبة صابرة مؤثرة، فعوض ان يتهمها بالجحود والجمود، نراه يخاطبها بأعذب العبارات وأرق الكلمات أكثر من أي مناسبة أخرى قائلا لها "افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي" أنه ما من مرة قبل هذه خاطبها بمجموعة كهذه من أساليب الإعزاز والمودة، أو ليس عجيبا ان يناديها بهذه الكلمات "يا كاملتي" أي أنها الكاملة التي لم تتدنس قط؟ كان الرب قد أحتفظ بهذه الصفة ليوم فشلها العميق وخيبتها الواضحة، كما أنه لم يسبق إشارة من قبل إلى "الطل" الثقيل أو إلى "ندى الليل" الذي غطاه وهو في طريقه إلى العروس، فكأنه يتوسل إليها بحق ما عاناه في هذا الطريق، وما أعظم ما يتوسل به فكأنه يتوسل إليها بما قاساه لأجلها من أحزان جثسيماني ومن وحشة الجلجثة. أنه يناشدها بحق عظمة حبه الذي لم يعطيه شيئا مما لاقاه في ذلك الطريق المرسوم أمامه. هذه هي محبة المسيح للضال العاثر ليتنا ننعم النظر فيها، وليتنا نقدر ذلك القلب الفريد الذي ليس فيه "تغير أو ظل دوران"، فنـزداد قربا إلى ذلك القلب المحب الودود الذي لا يتغير. * * * 3-"قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه. قد غسلت رجليّ فكيف أوسخهما".أه من قلوبنا، وآسفاه عليها، فان محبة العريس صابرة عجيبة والتي لا حد لها، تقابلها العروس النائمة بعدم اكتراث، وتقدم أمامها هذه المعاذير التافهة السخيفة "قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه. . . " لقد انعدم إحساس العروس بمطاليب مسيحها _ سيدها وعريسها الكريم، وذلك لسكوتها ولتركها محبتها الأولى، هذه هي الخطية، وما أرداها وما أردأ نتائجها! فإذا ما تهاون المؤمن وأبتعد عن حضرة الرب، فهل نستطيع ان نتصور إلى أي حد يكون الانحراف عنه؟ ان مجرد التأمل في هذا المسلك الضال وفي نتائجه يملئ النفس حزنا ورعبا. وكم هو مذل لنفوسنا ان نرى كيف ان مطالبنا الذاتية كثيرا ما تطغي علينا وتسودنا أكثر من المسيح ومطاليبه، فان احتفاظنا بالشركة مع المسيح والعمل على إرضائه وإتمام مطاليبه وتحقيق غايته فينا يتطلب منا كلفة ليست هينة. أنه يستلزم التضحية بالكثير من مطاليب الذات. أنه يحتم علينا إنكار النفس وحمل الصليب، ولكن عندما نفضل الحياة المسترخية والعيشة المريحة لذواتنا، حتى ان كنا لا نفعل شرا ظاهرا، فأنه قد يزعجنا كثيرا الفكر بأننا لسنا نعطي المسيح المكان الذي يريده في حياتنا، وإذا ما وصلت النفس إلى هذه الحالة التعيسة فان الرب له المجد لا يكون له مكان في قلب المؤمن. ولكن بقدر ما تكون محبتنا لرب قوية، وبقدر إدراكنا الروحي لهذا الخطأ _ خطأ عدم إعطاء الرب مكانه اللائق به في القلب، بهذا القدر عينه يكون حزنا حينما ننحرف أو نحن أو يضل واحد من أخوتنا المؤمنين عن مركز القرب من الرب الالتصاق به. من منا لا يتألم حين يرى نفسه أو يرى قديسا أخر فترت همته وتوقف نشاطه بعد ان كان قبلا حارا في روحه، حازما ونشيطا في عواطفه وفي نضارة المحبة للمسيح؟ قديسا كان يرى مبكرا في كل اجتماع المؤمنين، متهلل الروح وكل كلام عن المسيح يقطر في أعماق قلبه كزيت الابتهاج، وإذا ما عاد من الاجتماع فإنما لكي يتأمل في الحقائق الروحية التي تعلمها، ولكي يتمتع بشركة عميقة مع الرب. ليتنا نوجد في هذه الحالة السامية وليتنا لا نتحول عنها بل نبقى فيه لمجد السيد ولبركة نفوسنا. * * * 4-"حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي".لقد مر بنا كيف أنه لا صوت الحبيب الذي ميزته العروس ولا قرعه الذي سمعته كانا كافيين لإنهاضها وذلك لبلادتها وفتور همتها، فأنه كثيرا ما يسمع صوت الرب وقرعه على باب القلب في خدمة الكلمة، ولكن حالة الاسترخاء الروحي والفتور تكون حائلا دون نهوض النفس لاستعادة نشاطها وشركتها مع الرب، ولكن عندما يمد الحبيب يده من الكوة (أو من فتحة الباب ( *) ) ترى النفس صورة أكثر وضوحا لمحبته. لقد سمعت العروس صوته وقرعه على الباب قبلا إلا أنه لم يكن مائلا أمامها، ولكن عندما مد يده فأنه لم يسمعها صوته فقط بل إظهار لها ذاته، وهذا ما حرك عواطفها، إذ ليس شيء يستطيع ان ينهض النفس وينتشلها من سقوطها وفشلها نظير إظهار الرب ذاته لها. أنها رأت يده فتغيرت حالتها "فأنت عليه أحشائي". لقد كان التلاميذ في حالة الرعب والخوف من اليهود، ولكن إذ ظهر الرب لهم وأراهم يديه وجنبه "فرح التلاميذ إذ رأوا الرب". أننا كثيرا ما نسمع كلمة الله ونتحقق أننا نسمع صوته فيها ولكن مما يؤسف له أننا كثيرا ما سمعنا ولكن قلوبنا لم تتحرك ولم تتأثر وحالتنا الروحية بقيت فاترة أما عندما يمد الرب يده فان ذلك يؤثر على النفس في الداخل "فأنت عليه أحشائي". شكرا للرب فهذه خطوة صوت الاتجاه الصحيح، والفضل فيه ليده. نعم لقد أخذ قلب العروس يتحرك نحو الرب فتتحدث عنه بنفس الكلمة التي لم تكف عن مناداته بها "حبيبي" ذلك ان قلبها لم يكن خاليا خلوا كاملا من العاطفة من نحوه مع أنها في حالة الخمول والفتور، ولكن حينما لا تصغي النفس إلى صوته اللطيف وقرعاته الحبية، فأنه يستخدم وسائل أخرى. وهو يعرف حالة القلب كما يعرف ما يحركه ويحوله إليه "أفلا يفحص الله عن هذا لأنه هو يعرف خفيات القلب"(مز44: 21). أنه يستعمل أساليب ووسائل غير منتظرة، وقد تكون أليمة لكي يصل بها إلى ضمائرنا فندرك حالتنا وأين نحن، ومن ثم تنتصر النعمة فتقوم النفس وتطلب الرب، وتسعى وراء السعادة التي لن توجد إلا فيه هو وفي حضوره الذي يملأ النفس ابتهاجا وغبطة. * * * 5-"قمت لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مرا وأصابعي مر قاطر على مقبض القفل".هل من شيء يشبه الدموع حلاوة ومرارة معا؟ وهل يمكن ان يمتزج النوعان معا: دموع المرارة ودموع الفرح؟ ثم أي شيء أمر مذاقا من المر وأي شيء أحلى رائحة من المر القاطر الذي تفوح رائحته العطرية؟ ان المر يشير بلا شك إلى الدموع التي نرى فيها العروس ترد صدى محبة العريس لها. "قمت لأفتح لحبيبي" فهي تنهض من سباتها الروحي. لقد كانت خطيتها في عدم فتحها الباب لحبيبها وهو يقرع سبب مرارة في نفسها، لكنها مرارة ممتزجة بعاطفة حارة من نحو من تغاضت عنه، ولما وصلت إلى الباب وجدت المشهد كله معطرا بعطر حضوره، فإذ وضعت يديها على مقبض القفل إذا بهما "تقطران مرا وأصابعها مر قاطر". أما وقد تيقظت العروس وتنبهت إلى ما كان منها وإلى ما فعلته، فقد امتلأت نفسها بحزن عميق وأسف مرير ممتزجين بمحبة تعبدية لسيدها. أنه عندما يرد الرب نفسا ضلت عنه، تمتزج فيها ضربات الضمير بخضوع القلب لمحبة الرب يسوع، ولا يمكن ان يكون رد النفس صحيحا وكاملا إلا إذا أدرك المؤمن إدراكا عميقا في قرارة نفسه كم كان ضلاله مؤلما لقلب الرب ومهينا لاسمه. ان الرب لا ترضيه توبة سطحية أو شكلية. ان كان العريس له المجد قد تألم في وقوفه على الباب حيث "الطل" "وندى الليل" فهو يريد ان تدرك العروس مقدار ألمه الذي سببته له بانحرافها عنه. هذا ما يشير إليه "المر" كما ان رائحة المر القاطر العطرية تشير أيضا إلى ابتهاج النفس وفرحها برجوعها إلى الرب "رد لي بهجة خلاصك"(مز50: 12). * * * 6-"قمت لأفتح لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر. نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته دعوته فما أجابني".ان محبة الرب لنا ليست متغيرة بل ثابتة وأبدية، ولكن قد يحدث أحيانا عندما يرى الرب تباطؤ قلوبنا وتهاوننا في الشركة معه وفي التلذذ به وبمحبته، أنه يحرمنا إلى حين من إظهار ذاته لنا ومن الفرح به، فنشعر بالجفاف الروحي في صلواتنا وفي سجودنا وترنيماتنا. واختبار كهذا، وان كان مؤلما للغاية ولكنه لازم ونافع لنا. ألم نختبر كيف صرفنا وقتا في حياتنا حرمنا فيه من التلذذ بحضرة الرب المقدسة سواء في حالتنا الفردية أو في اجتماعاتنا؟ "ولكن حبيبي تحول" فإذا لم نصغ لصوته الرقيق اللطيف _ صوت النعمة، فأنه يستعمل وسائل أخرى كهذه لندرك قيمة وغلاوة الشركة معه. أنه يريدنا ان نختبر ان محبته غالية وثمينة ولا يليق ان تقابل من جانبنا بالتهاون والرخاوة. على ان محبته لنا لا تضعف حينما يسمح لنا بان نجتاز في مثل هذه التدريبات الأليمة، بل ان هذه التدريبات هي بالحري وليدة محبته التي لن تنتهي. * * * ولكن لا يفوتنا هذا الحق الجوهري أنه وان كان الرب يجيز المسيحي الحقيقي في مثل هذه التدريبات، إلا ان هذا ليس معناه ان الرب يحجب وجهه عنه أو أنه يرفضه. ان فكرا كهذا باطل ولا أساس له في تعليم العهد الجديد. صحيح ان معاملات الله مع شعبه الأرضي في القديم تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فان في عهدكم كان الله يسكن في الضباب، وكان الطريق إلى الأقداس لم يعلن بعد، إذ لم تكن الذبيحة الكاملة قد قدمت، ولم يكن ضمير الإسرائيلي قد تطهر تماما، ومن أجل ذلك لم يكن له سلام كامل، ولكن الحال قد تغير فيما يتعلق بمركز المسيحي في زمان النعمة الحاضر حيث مكتوب "الظلمة قد مضت والنور الحقيقي الآن يضيء"(1يو2: 8) فقد أصبحنا مقبولين في المحبوب لان خطايانا قد أبطلت جميعها بذبيحة المسيح الواحدة. ويوم نفذ الله قضاءه ضد الخطية في صليب ابنه انشق الحجاب ومن ثم فتح الطريق إلى الأقداس، ونحن الأموات بالخطايا، إذ مات المسيح من أجل خطايانا، فقد أحيانا الله معا وأقامنا معا وأجلسنا معا في السماويات "في المسيح يسوع" وقد حضر الروح القدس من السماء كالشاهد على وحدتنا مع المسيح المقام والممجد. إذا فمجرد الفكر بان الرب يخفي وجهه عن أولئك الذين اتحدوا به كأعضاء في جسده، هو فكر غريب كل الغرابة عن تعليم الكتاب المقدس عن الكنيسة، ولو أننا كثيرا ما ننسى _ بكل أسف _ أننا بوركنا في المسيح يسوع، وأننا متحدون معه كمن أقيم من الأموات ومضى إلى الأعالي، وان حياته هي حياتنا، وان مسراته يجب ان تكون مسراتنا، وإذ ننسى هذا جميعه ننحرف عنه ونخطى إليه _ ويجب ان لا يغيب عن البال أنه لا توجد خطية ممقوتة لدى الله أكثر من خطية المؤمنين الحقيقيين وذلك لأنهم وصلوا إلى حالة القرب الوثيق في حضرته، على أننا إذا سقطنا في الخطية فلا بد ان نكون في هذه الحالة منحرفين عنه إذ لا يمكن لأحد ان يخطئ في حضرته، ولكن تبارك اسم إلهنا من أجل المعدات الإلهية التي أعدها لمواجهة مطالب وأعواز طريق سياحتنا وغربتنا، فان شفاعة المسيح المؤسسة على البر والكفارة ضمان لتطهير أدناسنا وحفظنا بلا عيب ولا دنس أمام وجه الله "ان أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا"(1يو2: 1و2) وهذه حقيقة تتعارض معها الفكرة القائلة بان الله قد يخفي وجهه عن أولاده خلف سحابة عندما يخطئون أو أنه يتحول عنهم ويرفضهم صحيح أننا قد نفشل في التمتع بهذا الحق المبارك، أو قد يكون البعض جاهلين أياه، إلا ان هذا لا يؤثر على الحقيقة الجوهرية وهي ان مركز الكنيسة قدام الله ثابت جدا كثبات المسيح رأسها الممجد أمام الله. * * * "قمت لأفتح لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر" وأننا لنرى صورة رمزية لهذه الحقيقة في يوسف قديما، وذلك عندما حاول بكل الطرق الممكنة ان يستثير قلوب أخوته بسبب جريمتهم في حقه، وهذا ما سيعمله يوسف الحقيقي حين يدرب قلوب أخوته اليهود تدريبات عميقة في آخر الأيام بسبب حالتهم قدام الله. على ان محبة يوسف لأخوته لم تضعف حينما سمح لهم بان يجتازوا تلك التدريبات الشاقة والمذللة، بل كان قلبه مليئا بالمحبة وعلى استعداد ان يفيض بأحر العواطف متى جاءت اللحظة المناسبة، وكم ارتاحت نفسه حينما استقامت محبة قلبه التي انحنت طويلا. هكذا سيكون الرب مع شعب الرب الأرضي قبل ان يعلن ذاته بالقوة والمجد لخلاصهم، ويظهر محبته لهم كمسيحهم. أنه سيسمح بان تجوز تلك البقية في تدريبات أليمة وقاسية ليقتادهم إلى الاعتراف بخطيتهم الشنيعة _ خطية رفض المسيا وقتله، غير ان هذا التدريب المر سيكون في جو النعمة "وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة على بكره"(زك12: 10). * * * "نفسي خرجت عندما أدبر" (أو عندما تكلم ( * ) ) وهنا نرى آثار محبة العريس في قلب العروس التي تحبه، فقد خارت نفسها عندما سمعت كلامه ولكنها لم تبصر شخصه. لقد تهاونت وتراخت ولم تفتح قلبها له حينما كان واقفا ويقرع متوسلا إليها بان تفتح له، وإذ هو البار القدوس فلم يسعه إلا ان يغادر المشهد لكي يؤثر بذلك على عواطفها المتبلدة، ولكنه لما عبر ومضى لم تكن محبته لها قليلة أو ضعيفة عن ذي قبل، ولئن كانت العروس قد أحست في أعماق قلبها فأنه بعيد عنها، فأنه تبارك اسمه أحس بذلك أكثر منها كثيرا. ان قلب يوسف لم يشتغل بالمحبة لأخوته قدر اشتغاله وقت ان أخفى نفسه عنهم، لكن يوجد من هو أعظم من يوسف "يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد". ليتنا ندرك هذه الحقيقة ونستوعبها جدا فلا نرتاب في محبته مهما تكن الظروف التي تلم بنا، ولا نسيء الظن في نعمته التي لن تفشل أبدا بل بالحري تزداد ثقتنا فيه. * * * "طلبته فما وجدته دعوته فما أجابني" لا ريب ان "الرب قريب من الذين يدعونه الذين بالحق. يعمل رضى خايفيه ويسمع تضرعهم فيخلصهم"(مز145: 18و19) فمتى كان القلب في حالة النقاوة وممتلئا من مخافة الرب فأنه يختبر قرب الرب إليه وسماعه طلباته "فأعلموا ان الرب قد ميز تقيه. الرب يسمع عندما أدعوه"(مز4: 3. أنظر أيوب22: 21-27) أما إذا انحرف المؤمن عن سبيل القداسة فأنه يحرم نفسه من هذا الامتياز المبارك "ان راعيت أثما في قلبي لا يستمع لي الرب"(مز66: 18) وذلك لكي يوقظ القلب المتغافل ليسترد شركته مع الرب. ليتنا نحيا باستمرار حياة القداسة العملية فنختبر قرب الرب إلينا واستجابته لسؤل قلوبنا. * * * غير ان كلمات العروس هذه تنطبق بصفة خاصة على البقية من الشعب الأرضي مستقبلا. أنها ترينا بكيفية واضحة ان عروس النشيد ليست هي الكنيسة، وان هذا السفر النبوي يدور حول معاملات المسيا مع شعبه الأرضي، وكيف أنه سيجيز تلك البقية في التدريبات تأديبية مؤلمة جزاء على خطاياها وذلك لتنقيتها وتزكية إيمانها، أما الكنيسة _ عروس المسيح السماوية فليست لغتها هذه الكلمات "طلبته فما وجدته دعوته فما أجابني" تبارك اسم ربنا وسيدنا من أجل وعده الكريم "اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم. لان كل من يسأل يأخذ. ومن يطلب يجد. ومن يقرع يفتح له. . أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه"(مت7: 7-11). 7-"وجدني الحرس الطائف في المدينة. ضربوني جرحوني. حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني".ان للرب وسائله المتنوعة لإيقاظ شعبه من غفلتهم ولرد نفوسهم، ففي مرة سابقة، عندما طلبت العروس في الليل وهي على فراشها من تحبه نفسها فلم تجده، وجدها "الحرس الطائف في المدينة" ولكنهم لم يرشدوها إلى حيث كان حبيبها (ص3) أما في هذه المرة فقد عاملوها معاملة قاسية، لقد ضربوها وجرحوها، فأنها إذا أحزنت حبيبها بفتور محبتها له وبنومها، أجازها في هذا التأديب الأليم لتقويم اعوجاجها. وغنى عن البيان ان في هذا درسا وتحذيرا خطيرا لنا، فأننا إذا لم نستفيد من التدريبات السهلة فأنه يسمح باجتيازنا في تدريبات قاسية وذلك لرد نفوسنا ولاستعادة شركتنا الروحية معه. * * * قد يبدو غريبا ان حرس المدينة في الداخل وحفظة الأسوار في الخارج الذين كان ينتظر منهم ان يعملوا على سلامة العروس وعلى هدايتها وإرشادها إلى حيث حبيبها هم الذين يسيئون إليها فيضربونها ويجرحونها ويرفعون إزارها عنها، ولكن لا عجب فان قادة الأمة _ رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين، الذين كان ينتظر منهم ان يكونوا أول من يرحب بالمسيح ملكهم ويقبله، كانوا هم في مقدمة الذين رفضوه. هؤلاء هم البناؤون الذين كان يجب ان يعرفوا قدر حجر الزاوية الكريم ولكنهم رفضوه. عندما صرخ الأعمى ابن تيماوس "يا يسوع ابن داود ارحمني" انتهره المتقدمون ليسكت (لو18: 35-39) وعندما اعترف الرجل الذي كان أعمى منذ ولادته بان الرب يسوع هو الذي فتح عينيه، قاومه الفريسيون وأخرجوه خارج المجمع (يو10) فقد يسمح الرب بمثل هذه التدريبات القاسية لكي تتعمق وتقوى شركتنا معه. * * * وليس ذلك فقط بل قد يحدث أحيانا بأنه حتى أخوتنا المؤمنون يغالون في غيرتهم على أخوتهم فيجتازون الحد في توبيخهم وفي معاملتهم بشيء من الشدة، ومع أنهم يكونون مخطئين في ذلك ولكن يد الرب تكون متداخلة في الأمر، فإذا ما عاملني أخوتي بشيء من القسوة يجب علي ان أفهم من ذلك بأنه قد يكون هناك انحراف في حياتي واعوجاج في طرقي _ أمور تحتاج إلى تقويم ولا يعرف عنها أخوتي شيئا، وعليّ في مثل هذه الحالة ان أقبل بكل تواضع هذا التدريب كأنه من يد الرب. * * * وأننا نرى في كلمات العروس هنا إشارة واضحة إلى ما ستجوز فيه البقية التقية يومها، فأنها ستعاني أشد الآلام وأقساها ممن كان ينتظر منهم ان يكونوا أكبر عون لها. أنها ستلاقي اضطهادات ومقاومات من القادة المرتدين وفي مقدمتهم ذلك النبي الكذاب _ ضد المسيح. ان الرب له المجد سيسمح للأمناء في شعبه بضيق شديد من الداخل ومن الخارج _ من "الحرس الطائف في المدينة" كما من "حفظة الأسوار" وذلك لكي يزداد حنينهم إلى الرب ملكهم ومخلصهم الذي لا بد ان يقصر أيام ضيقتهم ويظهر لهم لخلاصهم. * * * 8-"أحلفكن يا بنات أورشليم ان وجدتن حبيبي ان تخبرنه بأني مريضة حبا".هنا نرى العروس تحولت عن الحرس الطائف في المدينة وعن حفظة الأسوار الذين لم يظهروا لها أي عطف بل بالحري عاملوها بكل قسوة. لقد تحولت عنهم إلى بنات أورشليم راجية عطفهن عليها ومعونتهن لها. والرب تبارك اسمه عندما يرى حنين قلوبنا إليه وإلى الشركة معه يهيئ وسائل ووسائط النعمة التي تعيننا على الوصول إلى بغية قلوبنا _ إليه هو دون سواه "أحلفكن يا بنات أورشليم ان وجدتن حبيبي ان تخبرنه بأني مريضة حبا" لقد وصلت العروس إلى الحالة التي صارت فيها مهيأة تماما إلى رد النفس الكامل، فلم يبق أثر للاكتفاء بذاتها وبحالتها، وصارت لا تستطيع ان تجد راحة بدون حبيبها. لقد صار هو أثمن شيء لها بل صار هو كل شيء لها "أني مريضة حبا" فكل شيء سواه يعجز عن إشباع قلبها. * * * "ان وجدتن حبيبي ان تخبرنه أني مريضة حبا" لقد نسيت نفسها ونسيت جراحها التي جرحها بها الحرس الطائف في المدينة، فلا تطلب من بنات أورشليم ان يخبرن حبيبها بما قاسته لأجله من جراح وآلام، بل ان يخبرنه بأنها "مريضة حبا" وما أجمل هذا النوع من المرض. أنه دليل صحة الحياة الروحية، وخير لنا ان نكون مرضى حبا للمسيح من ان نكون أصحاء في محبة العالم، فان المريض حبا للمسيح يتمتع بالحياة الروحية بمعناها الصحيح في محبة العالم أو المال تؤدي بهم محبتهم هذه إلى الموت، "وأما الذين يريدون ان يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ شهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك. لان محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة"(1تي6: 9و10). وهل هو كثير ان تحصرنا محبة المسيح فتسمو محبتنا له إلى الحد الذي فيه يكون لسان حال المؤمن "أني مريض حبا"؟ ألم يحبنا الرب محبة تسمو فوق هذا الحد إذ أحبنا حتى الموت؟ "بهذا قد عرفنا المحبة ان ذاك وضع نفسه لأجلنا"(1يو3: 16). ليتنا ننمو في معرفة قيمة الشركة التي تزيد القلب تعلقا به ومحبة له وتجعل شهادتنا لسيدنا الغائب عنا شهادة حية وجذابة للآخرين. * * * 9-"ما حبيبك من حبيب أيتها الجميلة بين النساء ما حبيبك من حبيب حتى تحليفنا هكذا".ان ما أظهرته العروس من محبة لعريسها وشغف به وحنين إلى رؤيته، أيقظ مشاعر بنات أورشليم وأوجد فيهن اهتماما للسؤال عن حبيبها وعما يتميز به عن سواه من صفات وكمال، وبنات أورشليم هؤلاء يشبهن كثيرين من الناس الذين حولنا _ الذين لا يعرفون كثيرا عن المسيح وكمالاته وعن عمله الفدائي المبارك، ولكنهم إذ رأوا فينا _ سواء في حياتنا العملية أو في شهادتنا محبة قلبية صادقة للمسيح وعيشة مكرسة له، ولهجا حارا ومستمرا به وبنعمته الفائقة، فأنهم يدركون أو بالحري يرون فينا صورة المسيح الأدبية "أيتها الجميلة بين النساء" كما ان هذا ينشئ فيهم اهتماما بمعرفة المسيح "ما حبيبك من حبيب؟". فما هو تأثيرنا على الناس الذين حولنا؟ هل يرون فينا "عذراء عفيفة للمسيح؟" وهل يرون في سلوكنا بينهم ما يميزنا عن سوانا؟ لاحظ القول "الجميلة" فليست هي جميلة كغيرها بل "الجميلة" التي انفردت بجمال روحي وأدبي لا يرى مثيل في سواها. هل يرى الغير فينا العواطف التي أستأسرها وامتلكها هذا الحبيب والعريس المبارك الذي لا مثيل له؟ ان العروس تتحدث عنه بكيفية واضحة تبين ان ليس لحبيبها نظير، وهذا ما نبه بنات أورشليم وحفزهم للسؤال عنه "ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا؟". ومع ان الرب له المجد فريد في نعمته وفي محبته، وكامل في كل صفاته _ فريد وأسمى من ان يقارن به كائن آخر، إلا أنه كان الروح القدس يقارنه بسواه فذلك لكي يعلن لنا الكثير من أمجاده وكمالاته. لقد أدرك المرنم سموه الذي انفرد به حين قال "أنت أبرع جمالا من بني البشر"(مز45: 2) والخدام الذين أرسلهم الفريسيون ورؤساء الكهنة لكي يمسكوا يسوع رجعوا قائلين "لم يتكلم إنسان قط هكذا مثل هذا الإنسان"(يو7: 46) والله نفسه قد أعلن سمو ابنه الوحيد _ ابن داود الحقيقي حينما قال "رفعت (أو عظمت) مختارا من بين الشعب"(مز89: 19) فقد ميز الله مختاره من بين الناس كالإنسان الوحيد الذي وجد فيه كل مسرته، ولذا فأنه عند معموديته ميزة الله عن "جميع الناس" الذين اعتمدوا مثله، فان الروح القدس نـزل عليه بهيئة جسمية مثل حمامة، وسمع الصوت من السماء قائلا "أنت ابني الحبيب بك سررت"(يو3: 21و22) وفي هذا يريد الله ان يعلمنا نحن بان نعطي المسيح الكرامة التي تليق له دون سواه والمركز الأول في عواطفنا. يسوع وحده حوى جميع أوصاف الكمال وهو العجيب في البها والعز أيضا والجلال ______ ليس حبيب غيره به دواما استريح فهو حبيبي وحده وله قد لاق المديح * * * "أيتها الجميلة بين النساء" هذا ما سيحقق _ في يوم قادم _ لابنة صهيون _ عروس الملك الحقيقي، العروس الجميلة جدا، فحينما تدخل دائرة البركة الكاملة في عهد المسيا حين يكرمها ويعظمها، تكون لغة الجميع إليها "أيتها الجميلة بين النساء". ان أورشليم ويهوذا سيكون لهما المكان الأول في كل الأرض، وسيأتي كل الأمم ليحتموا تحت ظلال أجنحتهما. "هكذا قال رب الجنود. في تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم يتمسكون بذيل رجل يهودي قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا ان الله معكم"(زك8: 23) وهذا بكل يقين شيء مستقبل، وعندئذ تتحقق النبوة الخاصة بابنة صهيون "ويكون الملوك حاضنيك مرضعاتك. بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك فتعلمين أني أنا الرب لا يخزي منتظره"(أش49: 22و23) يا له من تغيير مبارك لذلك الشعب الذي طال أمد امتهانه مدرسا تحت الأقدام، والذي لا يزال أمامه ضيق مروع لم يسبق له مثيل منذ ابتداء الخليقة "ضيق يعقوب " نعم سيحدث لهم تغيير مجيد، عندما يرجعون بقلوبهم إلى الرب ملكهم، فالكتاب يخبر بكل وضوح عن أورشليم باعتبارها عروس المسيا الأرضية، وفيها يجد عريسها مسرته، الرب المبارك نفسه وبقية الأسباط وجميع الأمم _ الكل يعجبون بجمالها "أيتها الجميلة بين النساء" حقا ما أعجب النعمة، فان أورشليم التي رفض ملكها العظيم وقتلته سيعود إليها برحمة فائقة وسترحب هي به وتتوجه ملكا عليها وذلك لغبطتها. * * * 10-"حبيبي أبيض وأحمر. معلم بين ربوة".تتساءل بنات أورشليم قائلات "ما حبيبك من حبيب. . حتى تحلفينا هكذا؟" فلا يسع العروس إلا ان تبادر بالجواب وتقدم صورة جميلة لحبيبها. لقد كان هذا الحبيب مائلا أمام عيني إيمانها، وكان ملء قلبها وعواطفها فلم تتردد في الجواب بل استطاعت على الفور ان تصف حبيبها بأوصافه الجميلة من الرأس إلى القدمين. أنها لم تكن بحاجة إلى فرصة تأمل سابقة، فلم تطلب من بنات أورشليم ان يمهلنها حتى تكون فكرة للجواب على تساؤلهن، بل بالحري ابتهجت بالفرصة التي أتيحت لها. ما أحوجنا إلى القلوب الممتلئة بالمسيح والعيون المتفرسة في جماله، فنكون على استعداد للتكلم عن المسيح والشهادة له "قدسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم" 1بط3: 15. * * * "حبيبي أبيض وأحمر" تبدأ العروس بوصف عام عن كمالات حبيبها قبل ان تذكر أوصافه بالتفصيل والصفة الأساسية التي لحبيبها هي أنه "أبيض" ففي المسيح له المجد كمال أدبي فائق لا أثر للعيب فيه، وهو فريد في هذا الكمال وليس له نظير، فالمولود من العذراء هو "القدوس"(لو1: 35) وهو الذي في كل حياته "لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر"(1بط2: 22) ومن سواه يستطيع ان يقول ما قاله هو لمقاوميه "من منكم يبكتني على خطية؟"(يو8: 46) فهو وحده "الذي لم يعرف خطية" إذ الخطية شيء غريب عنه وعن طبيعته المقدسة (2كو5: 21) وعندما تكلم عن رئيس هذا العالم قال "ليس له في شيء" (يو14: 30) فقد حاول الشيطان ان يجد فيه شيئا من شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ولكنه بعد محاولاته المتكررة وجد أمامه الشخص الفريد الذي "ليس فيه خطية" (1يو3: 5) أنه البار الوحيد والقدوس الوحيد. وهناك على الجبل التجلي ظهرت طهارة شخصه القدوس الخالية من أي أثر للدنس في ثيابه البيضاء اللامعة "وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدا كالثلج لا يقدر قصار على الأرض ان يبيض مثل ذلك"(مر9: 3) وطهارته الكاملة هي البرهان الصادق على سموه الذي تفرد به وعلى مسرة الله به وكما أنها الحجر الأساسي لإيماننا به وثقتنا فيه، فإذا تصورنا ان هناك ذرة صغيرة من العيب فيه، وحاشا لنا ان يخطر ببالنا فكر كهذا، فقد ضاع كل شيء، فلا يكون هو مسيح الله ولا يكون لنا مخلصا. ان كمال ناسوته الذي لا عيب فيه هو حق جوهري ليس بالنسبة لقيمة ذبيحته فقط ولكن بالنسبة لمكان المحبة والإعزاز الذي له في قلوب وعواطف مفدييه. ليس في الوجود سوى شخص وحيد _ المسيح الذي لا يمكن لكل الأنوار الساطعة والكاشفة ان تظهر فيه أي أثر للعيب أو النقص، بينما ان ابسط نور يمكن ان يكشف ويظهر في أعظم القديسين أمثال موسى وبولس ويوحنا وغيرهم وفينا نحن أيضا عيوبا ونقائص. أما هنا فان أمامنا واحدا هو دون سواه "أبيض". * * * ولكنه ليس "أبيض" فقط بل هو أيضا "أحمر" فمع أنه _ له المجد _ "قدوس بلا شر ولا دنس" ولكنه أحب الخطاة _ الأشرار والدنسين، أحبنا نحن الآثمة ومات لأجلنا فوق الصليب. نعم "أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه". ما أعجب ربنا وسيدنا المعبود! أنه تبارك اسمه يستحق تعبد قلوبنا وتأملها ولهجها باستمرار، فهو "أبيض وأحمر" وهل شيء "أبيض" طاهر وقدوس مثل ابن الإنسان المبارك _ يهوه يسوع أصل وذرية داود؟ وهل شيء "أحر" مثل ذلك الدم الغالي الذي سال من جسمه الطاهر في الجلجثة؟ * * * "حبيبي. . . أحمر" وفي هذه الكلمة "أحمر" إشارة إلى ناسوته الكامل فان كلمة "أدم" معناه "أرض حمراء " فهو الله _ الكلمة الذي "صار جسدا"(يو1: 14) "بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"(1تي3: 16). أنه _ له التعبد والإكرام _ يهوه " الكائن على الكل إلها مباركا إلى الأبد"(رو9: 5) ولكنه "أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب"(في2: 7-11). وكذلك في هذه الكلمة "أحمر" إشارة إلى القوة والنشاط والعزيمة الكاملة، وهي نفس الكلمة المستعملة عند جلود الكباش المخصصة والمكرسة لتغطية خيمة الاجتماع بأنها محمرة"(خر26: 14) فهي تشير إلى التخصيص أو التكريس لله وهذا ما تهدف إليه طبيعة المؤمن الجديدة، وكم هو ملذ ان نرى هذه الصورة _ التكريس الكلي _ كاملة في ربنا الحبيب، فهو "أحمر" وقد تجلى ذلك في حداثته "لما كانت له اثنتا عشرة سنة " عندما قال "ألم تعلما أنه ينبغي ان أكون فيما لأبي؟"(لو2) وعندما طهر الهيكل من الباعة "تذكر تلاميذه أنه مكتوب غيرة بيتك أكلتني"(يو2) لقد أظهر أنه "أحمر" في اهتمامه بما لله ولبيته هنا، أنه كان مكرسا لله في كل حياته على الأرض حتى نهايتها، فقد مضى إلى جثسيماني وإلى الصليب لكي يفهم العالم أنه يحب الآب وكما أوصاه الآب هكذا يفعل (يو14: 30و31). وليس ذلك فقط، فان تكريسه الكامل ظاهر في علاقته بالكنيسة، وبالقديسين كأفراد، فمحبته الفائقة المعرفة التي يحبنا بها تجلت في حياته وفي موته وفي خدمته المستمرة لنا وهو في الأعالي. لاسمه المعبود كل المجد والإكرام. * * * "معلم بين ربوة" ( * ) أي أفضل وأسمى من عشرة آلاف، فهو لا مثيل له في الجمال والكمال "أنت أبرع جملا من بني البشر"(مز45: 2) لا بل هو الفريد في الجمال والكمالات. أنه المرتفع كالعلم أو الراية (كما في بعض الترجمات الأخرى) فهو ليس فقط أعظم من ربوات القديسين، بل هو الوحيد والفريد في صفات الكمال وفي المجد والجلال. أنه العلم الوحيد المرتفع الذي تلتف حوله جماهير المفديين "أعطيت خائفيك راية ترفع لأجل الحق"(مز60: 4) شكرا الله فأننا لم نعط مجرد نظريات أو عقائد بل أعطينا شخصيا حيا هو الحق بعينه "هذا هو الإله الحق" فشهادتنا كمسيحيين تتلخص في كلمة واحدة هي "المسيح". "أنا هو الطريق والحق والحياة" هذا هو الراية أو العلم المرتفع بين قديسيه، وهم يلتفون حول هذا العلم ويدعون الجميع لكي يروه ويكرموه. أنه مجدهم وفخرهم ورباطهم، وهو الشخص الوحيد الذي يجب ان يحبوا لأجله وان يجاهدوا حتى الموت لأجله، إذن ليس شيء سواه يستحق الثبات فيه بعزم القلب. وكان العروس تقول لبنات أورشليم لستن بحاجة إلى البحث الكثير والتفتيش المضني عن حبيبي، إذ هو العلم العالي والمرتفع بين آلاف القديسين. أنه لا مثيل له في محبته ونعمته وقداسته التي لا حد لها. * * * وسيكون المسيا _ ملك إسرائيل _ في يومه _ يوم المجد والملك والسيادة على الأرض هو "المعلم بين ربوة" أو بالحري العلم أو الراية المرتفعة "ويكون في ذلك اليوم ان أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدا. . . ويرفع راية للأمم ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض"(أش11: 10و12). * * * ( * ) أو المرتفع كعلم أو راية Lifted up as a banner أو حامل العلم A standard bearer 11-"رأسه ذهب إبريز. قصصه مسترسلة حالكة كالغراب".بعد ان وصفت العروس حبيبها لبنات أورشليم وصفا عاما تعود فتصفه بأكثر تفصيل وتدقيق، فأنها وهي مقوده بروح الله قد وجدت بهجتها وشعبها في ان تتأمل فضائله المتنوعة وأمجاده المختلفة متخذة في ذلك تشابيه بشرية، وهنا يجب علينا ونحن مقبلون على أقداس إلهية ان نتأمل خشوع وورع في كمالات ملك صهيون المجيد عالمين ان المكان الذي نحن واقفون عليه هو أرض مقدسة. لما كان العريس يحصي (في ص4) صفات عروسه الجميلة في عينيه أحصى لها سبع نواح لذلك الجمال، وها هي تصوره _ له المجد _ فتذكر عشر خصال لحبيبها مبتدئة من الرأس، فهيا نتأمل في كل واحدة منها: * * * ( 1 ) "رأسه ذهب إبريز" يا لها من بركة لنفوسنا ان نعرف ما ذخر لنا في رأس الإنسان المبارك من كنوز غنية، هذا الإنسان الوحيد الذي له الإدراك الكامل لكل ما في فكر الله وقلبه. نعم ان هذا الشخص الإلهي _ الذي هو الله منذ الأزل وإلى الأبد، والذي صار إنسانا _ هو وحده دون سواه صاحب العقل الكامل والإدراك الكلي لأفكار الله من نحو الإنسان، وقد كانت أفكار الله ومشوراته هذه من نحو الإنسان مستورة وغير مدركة ولكنها أعلنت في نور كامل في المسيح وبواسطته "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر"(يو1: 18). شكرا لله فان مشورات النعمة الإلهية التي كانت مستورة وخفية صارت معلنة لنا بواسطة ربنا يسوع المسيح "الرأس"، وان بركة وغبطة نفوسنا هي في ان "نتمسك بالرأس الذي منه كل الجسد. . . ينمو نموا من الله"(1كو2: 19) وعندما يكون للمسيح مكانه "كالرأس" لا يكون هناك مزيج من الأفكار البشرية، بل بالحري "الذهب الإبريز" الذي ليس فيه أي زغل، وان الفرح الروحي الكامل ونغمات التسبيح والهتاف المقدسة وكل ما يمجد الله يتوقف على تمسكنا بالمسيح "الرأس". ان المدينة السماوية هي "ذهب نقي"(رؤ20: 18) وذلك لأنها تستمد غناها ومجدها وجمالها من المسيح نفسه، ولا يمكن ان يكون في الكنيسة في الزمان الحاضر أي شيء جميل ومن الله إلا ما كان مصدره المسيح، فان أفكار المسيح هي المقياس الصحيح لكل شيء، ونشكر الله لان أفكاره لا يعتريها أي نقص أو يطرأ عليها أي ذبول. * * * ويشير الذهب في كلمة الله إلى البر الإلهي في علاقته بالمسيح، كما يشير الإبريز (أي الذهب الفائق في نقاوته) إلى لاهوت ربنا ومخلصنا له المجد ( * ) . وقد يشار أيضا بالذهب إلى العظمة والجلال، كما أوضح دانيال لنبو خذ نصر "أنت هذا الرأس من ذهب"(دا2: 38). * * * ( 2 )"قصصه مسترسلة حالكة كالغراب" ان ربنا الحبيب ليس عنده تغيير ولا ظل دوران، فرأسه يحمل على الدوام دليل الثبات الذي لا يشوبه أي ضعف أو انحلال فقصصه المسترسلة والحالكة (أي السوداء) ترينا فيه نشاط الشباب وقوته باستمرار، فهو ليس كأفرايم الذي "قد رش عليه الشيب وهو لا يعرف"(هو7: 9) أما رب أفرايم وسيده فلا تتطاول عليه علامات الانحلال مطلقا "يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد"(عب13: 8) فالسنون والأجيال لا تؤثر عليه ولا يمكن ان يطرأ عليه ضعف الشيخوخة، فالذي كان "من البدء" سيدوم في نضارة غير متغيرة، وإذ ارتبطنا به صار لنا فيه "مجد أبدي" فليست علاقتنا الآن بذلك العهد الذي "عتق وشاخ"(عب8: 13) بل بالمسيح نفسه المكتوي عنه "أنت أنت وسنوك لن تفنى"(عب1: 12) فالدوام وعدم التغير هما في المسيح دون سواه، فهو "الألف والياء. الأول والآخر. البداية والنهاية"(رؤ22: 13). ان مجد الله وبركة كل المفديين هما دائما وبدون تغيير في المسيح "الرأس" وكما أنه _ له المجد _ في نضارة دائمة، فان للقديسين ان يتمتعوا بنعمته بنضارة روحية دائمة وذلك باتصالهم والتصاقهم بالمسيح رأسهم. ان ربنا المبارك الماشي في وسط المناير الذهبية رآه يوحنا وإذا "رأسه وشعره أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج"(رؤ1: 14) فهو هناك في جلال فائق "كالقديم الأيام" الذي "مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل"(مي5: 2) أنه هناك كمن يجري القضاء في وسط الكنائس، أما هنا فأنه أمامنا في صورة أخرى تختلف عن تلك كل الاختلاف، فهو ليس هنا كمن يقضي بحسب طهارته وحكمته كالقديم الأيام، بل كالحبيب الذي تستطيع ان تجد فيه العروس كل ما يستريح له قلبها وتبتهج به عواطفها. * * * وان كنا نرى في "ذهب الإبريز" إشارة إلى لاهوت سيدنا المعبود، فأننا نرى في القصص المسترسلة إشارة إلى ناسوته القدوس، وليس ألذ لقلب المؤمن من الإيمان باتحاد ناسوت ربنا المبارك بلاهوته السرمدي، فيسوع _ ابن الإنسان القدوس _ هو الكائن على الكل إلها ( * ) مباركا إلى الأبد. آمين. * * * كما ان في قصص الحبيب المسترسلة إشارة إلى ربنا يسوع المسيح هو النذير الحقيقي الذي لم يدنس عهد انتذاره (أي تكريسه) لله لحظة واحدة (عدد6: 5) لقد كان شمشون نذيرا لله من بطن أمه ولكنه لم يستطع ان يحفظ سر انتذاره. أنه لم يحتفظ بقصصه مسترسلة إلى النهاية، أما ربنا يسوع المسيح فهو النذير الحقيقي الوحيد الذي لم يطلب مجد نفسه مع أنه صاحب المجد والعظمة والجلال، وله السلطان على الخليقة بأسرها لان الكل به وله وقد خلق . لاسمه المعبود كل المجد. * * * ( * ) كان الذهب النقي المستعمل في بعض أجزاء خيمة الاجتماع رمزا للاهوت ربنا يسوع، فتابوت العهد مثلا كان مصنوعا من خشب السنط رمزا لناسوت المسيح ومغشى من الداخل والخارج بذهب نقي رمزا للاهوته. . . وهكذا. 12-"عيناه كالحمام على مجاري المياه مغسولتان باللبن جالستان في وقبيهما". ( 3 )"ليس مثل العين في التعبير عما يسكنه الإنسان في الباطن" أنها في صمتها تتكلم بلغة أكثر وضوحا من كلام الشفتين، عندما نظر الرب إلى الجالسين حوله (مر3: 34) كم كانت تحمل تلك النظرة من معاني عميقة! لقد كانت معبرة عما في قلبه من محبة وسرور بأولئك الذين يصنعون مشيئة أبيه _ أولئك هم الذين دعاهم أخوته وأخواته وأمه، ثم عندما انتهره بطرس لأنه تكلم مع تلاميذه عن آلامه وموته "ألتفت الرب وأبصر تلاميذه فانتهره بطرس "(مر8: 33) وما كان أعمق تلك النظرة أيضا! أنها كانت تعبر عن محبته لهم وعن بركتهم الأبدية بواسطة ذلك الموت، ومن يستطيع ان يصف عيني الرب عندما تحدث بهما إلى بطرس وهو في بيت رئيس الكهنة؟(لو22: 61). في سفر الرؤيا (ص5) يتحدث الرائي عن الخروف الذي له "سبع أعين" وواضح ان الرقم سبعة يشير إلى الملء والكمال "لان عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه"(2أخ16: 9). وجدير بنا أيها الأحباء ان نتبع نظرات الرب إلينا، فأنه يعلمنا ويرشدنا بنظرات عينيه "أعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك"(مز32: 8). * * * ولقد رأت العروس عيني حبيبها في صورة عن اللطف والوداعة "كالحمام على مجاري المياه" كما رأت فيهما أجمل صورة للطهارة والنقاوة "مغسولتان باللبن" فعواطف المحبة واللطف والحنان تشع من هاتين العينين، ولكنهما في الوقت نفسه تفيضان طهارة وقداسة، وهذه الصفات مجتمعة معا _ اللطف والحنان مع الطهارة والقداسة _ هي ما يريد ان تتصف بها عروسه وحبيبته. ولكن ما أكبر الفرق بين كما تصفهما العروس وبين عينيه اللتين رآهما يوحنا في جزيرة بطمس "عيناه كلهيب نار"(رؤ1: 14) ففي هذه الصورة الأخيرة يرى كمن يقضي في وسط الكنائس، فنراه في طهارته الفائقة يعمل بسلطانه القضائي لإدانة كل ما لا يتفق مع الحق والقداسة، وترى عيناه بهذه الصورة بسبب التهاون وعدم التقدير لجمال وطهارة عينيه اللتين "كالحمام" وبالتالي لعدم المبالاة بمحبته التي تقود إلى الطهارة والقداسة، وهذا ما وصلت إليه المسيحية بصفة عامة، ولذا رأى يوحنا الرب في صورته القضائية. أما عينا الحبيب المستقرتان على عروسه فأنهما تريان هنا في صورة أخرى أنهما تفيضان عطفا وحنانا على حبيبته، لأنها تعرفه ولا تعرف لها رأسه وسيدا سواه، ولذا فهي تدين له بالطاعة وخضوع المحبة، وتتغنى بجماله وبحلاوة عينيه. لقد تيقنت أنها غرض محبته، وما أسعد هذه الحالة. * * * في يوحنا 13 وأفسس5 نرى تقدير الرب لقديسيه ومحبته لكنيسته، فهو في محبته التي أحب بها خاصته يغسل أقدامهم لكي يكونوا طاهرين تماما. نعم لقد "أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهرا إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب"(أف5) ومن الواضح ان الباعث له على الغسل والتطهير هو محبته، فهو له المجد يعمل بوسائله المقدسة والمطهرة لكي يجعل خاصته في الحالة التي تتفق مع غرض محبته. ان عيني الحبيب تتطلعان إلى عروسه بمحبة كاملة لا تريد ان ترى فيها شيئا من العيب والدنس. أفلا نحرص على ان نكون في هذه الحالة التي ترضيه وتسر قلبه؟ أنه عندما يكون الرب أمامنا وملء أفئدتنا تمتلئ قلوبنا وعواطفنا محبة له وتعلقا به، ولا توجد قوة للتطهير والتنقية أعظم من هذه، وأي شيء يمكن ان يكون أطهر من قلب صار المسيح غرضه الوحيد؟ والعروس إذ تفيض عواطفها محبة وتقديرا لعريسها تبرهن على طهارة ونقاوة تلك العواطف، ولكنها لا تلفت الأنظار إلى ذاتها بل إليه _ إلى حبيبها، أما إذا انحصرت مشغوليتنا بذواتنا فأننا نسير في طريق الانحدار، ولا نجد في المشغولية بالذات علاجا لها، ولكن متى كان المسيح _ المسيح وحده ملء عيوننا وقلوبنا فان ذلك يقودنا إلى الحكم على الذات وبالتالي التحول عن المشغولية بالذات التي دينت في الصليب، وهذا هو السبيل الوحيد لسمو الحياة الروحية. * * * عيناه. . . "جالستان في وقبيهما" (أي مستقرتان في مكانهما) أعني ان نظرته لخاصته ثابتة وليس فيها تغيير، فخاصته هم عطية الآب له، ولا يمكن ان يتغير قلبه من نحوهم أو تتحول نظرات محبته عنهم. أنهم في يده ولا يستطيع أحد ان يخطفهم منه، وأخيرا سيكونون معه في المجد حيث هو، وإذا تأملنا مليا في علاقة الرب بخاصته كما هي مبينة في إنجيل يوحنا ص 13إلى 17 نفهم جيدا مغزى قول العروس عن عيني حبيبها بأنهما "جالستان في وقبيهما". * * * لقد كانت عينا الإنسان الكامل الرب يسوع المسيح، طوال أيام حياته على الأرض، جالستين ومستقرتين في وقبيهما، فلم تؤثر عليهما مباهج ومغريات هذا العالم، كما عم تزعجها الآلام التي كانت أمامه. فقد أخذه إبليس فوق جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له أعطيك هذه جميعها ان خررت وسجدت لي فأنتهره الرب وقال له أذهب يا شيطان . لأنه، مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. حقا ما أكبر الفرق بين الرب يسوع الإنسان الثاني وبين الإنسان الأول، فان حواء إذ رأت (بعينيها) ان الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وان الشجرة شهية للنظر أخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، كما ان سليمان أحكم إنسان في يومه لم تكن له العينان المستقرتان فقد قال بحق عن نفسه "مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما"(جا2: 10). وكما ان الرب له المجد لم تبهر عينيه مباهج وأمجاد هذا العالم، فان أحزان جثسيماني وآلام الجلجثة لم تجعله يرتد إلى الوراء "السيد الرب فتح لي أذنا وأنا لم أعاند. إلى الوراء لم أرتد. بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق. . . لذلك جعلت وجهي كالصوان وعرفت أني لا أخزي"(أش50: 5-7) فقد كانت عيناه جالستين ومستقرتين في وقبيهما فلم ترهبه الآلام التي كانت أمامه "وحين تمت الأيام لارتفاعه (فوق الصليب) ثبت وجهه لنطلق إلى أورشليم "(لو9: 51) ما أعظمه مثالا لنا نحن الذين قبلناها مخلصا وربا ومثالا كاملا لنا "لتنظر عيناك إلى قدامك وأجفانك إلى أمامك مستقيما"(أم4: 25) ليحفظنا الرب من "شهوة العيون". * * * 13-"خداه كخميلة الطيب ( * ) واتلام رياحين ذكية. شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا".( 4 ) ان الأعداد التي تشير إلى ضرب سيدنا وربنا يسوع على خده ترينا ان خدي العريس يرسمان أمامنا صورة رمزية لاتضاعه بالنعمة _ هذا الأتضاع الذي عرضه إلى قسوة الإنسان واحتقاره له، فقد تنازل له المجد إلى الحد الذي جعله عرضة لاستهزاء البشر واحتقارهم له "بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق"(أش50: 6) وهل يوجد تعبير أكثر تأثيرا مما جاء في ميخا5؟ فهناك نقرأ عنه له المجد بأنه "مدبر إسرائيل. الذي مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل"(ع2) فقد أتى من مجده الإلهي الأزلي ليولد كطفل في بيت لحم افراته ويا له من تنازل عجيب! ثم من جهة المستقبل فأنه "يقف ويرعى (قطيعه) بقدرة الرب بعظمة اسم الرب إلهه"(ع4) وهذا هو جلاله الملكي في الدهر الآتي، ولكنه بين "أيام الأزل" في الماضي، وجلاله الملكي في الزمن الألفي العتيد، قد تنازل بنعمة غنية وصار قريبا من البشر حتى تجاسر الإنسان الحقير على لطمه وضربه على خده "يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده"(ع1) ألم تتم هذه النبوة حرفيا؟ نعم فان خديه الطاهرين اللذين كثيرا ما بللتهما دموع العطف والشفقة _ دموع الحنان والمحبة، قد لطما فعلا، كما غطتهما قبلات يهوذا الغاشة (أنظر مت26: 67، مر14: 65، لو22: 64، يو8: 22) لقد سلم المسيح نفسه لمثل هذه المعاملات الغاشة من يد البشر. * * * ويا له من جمال فاتن تراه عين الإيمان في ربنا المبارك! فان تنازله بالنعمة الذي كان ولا يزال موضوع احتقار البشر وكراهيتهم له هو بذاته الذي جعله جذابا ومحببا لقلب العروس. نعم ان اتضاعه في حياته وفي موته فوق الصليب الذي جعله مهانا ومرذولا من الناس يرى في عيون قديسيه ومحبيه في جمال فائق، وهذا هو معنى قول الرسول بطرس "فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة (أي هو كريم)"(1بط2: 7) فقد كان المسيح الحجر الكريم الذي رفضه الناس، ولكن قيمته الغالية والكريمة يدركها المؤمنون به، ويجب أنهم ينمون في إدراكها أكثر فأكثر. حقا أنه أتضاع ربنا المبارك وتنازله بالنعمة ما يحبب قلوبنا فيه ويخضعها لإرادته ويفصلها عن العالم الذي رفضه، وأنه وان كان المسيح ممجدا الآن في الأعالي، ولكنه لا يزال إلى الآن في زمان رفضه من هذا العالم، فالمبشر على أتم استعداد ان يلطموه اليوم كما في الماضي، ومن بين هؤلاء كثيرون ممن يسمون باسم المسيح، إذ ما أكثر الملحدين الذين ينكرون مجد أقنومه الإلهي والأزلي ولا يؤمنون بقيمة عمله الفدائي ولا يوحي كلمته! أليست هذه بمثابة لطمات على خديه؟ أنه لا يزال مجروحا في بيت من يدعون أنهم أحباؤه، ولكن يا له من امتياز لأولئك الذين أدركوا قيمته التي تفوق التقدير، ان تكون لهم شركة معه في آلامه وهوانه! * * * ما أجمل ان نفكر لحظة في الفرق بين يوم أتضاع ربنا المبارك ويوم مجده العتيد ففي اليوم الأول احتقرته ابنة صهيون ورفضته في عمى بصيرتها الروحية، وذلك حينما رأته متواضعا، ولكن سيجيء عاجلا الوقت الذي فيه ستذكر ابنة صهيون هذه البغضة والقسوة وعندئذ سيملأ الحزن قلبها، وذلك عندما "يرفع البرقع" وكما كان يكشف البرقع عن وجه موسى عند دخوله إلى الخيمة _ إلى حضرة الرب، هكذا سوف يرفع البرقع عن قلب البقية التقية من إسرائيل حين "ينظرون إلى الذي طعنوه" وعوض القول "لا جمال فننظر إليه" سيقولون "أنت أبرع جمالا من بني البشر" والوجه الذي كان مفسدا والخد الذي أهين ولطم ستراهما الأمة البارة "كخميلة الطيب واتلام رياحين ذكية". نعم ان خدي الحبيب ستكون فيهما جاذبية قوية لقلب وعواطف البقية التقية مستقبلا. فقد حسبته الأمة في عد إيمانها "مصابا مضروبا من الله ومذلولا" ولكن البقية المختارة ستعرفه حتى المعرفة وستدرك سر آلامه وتعترف قائلة "هو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه أثم جميعنا"(أش53) فما أعجب عمل النعمة والمحبة الإلهية الغافرة! أنه سيكون يوم نصرة للرب ولمسيحه عندما تدرك البقية ان ذاك الذي احتقروه قبلا هو مسياهم. نعم أنه يهوه نفسه. ( 5 )"شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا (1)" وهنا نرى وجها آخر لاتضاع ربنا يسوع، فان كان اتضاعه أظهر فكر البشر وأراهم من جهته، فأنه أظهر أيضا غنى النعمة التي كانت في قلب الله من نحو الإنسان. هذا ما نراه في هذا الوصف الذي به تصف العروس حبيبها "شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا" ويشير السوسن إلى النعمة الجذابة التي في المسيح يسوع، وقد أشار هو له المجد إلى ان في السوسن (أي الزنابق) شيئا يفوق كل مجد سليمان . والعنوان المعطى من الوحي الإلهي لمزمور45 يخبرنا بان هذا المزمور هو "على السوسن" وأنه "ترنيمة محبة" (أو ترنيمة الحبيب) (2) وهذا المزمور له ارتباط وثيق بسفر النشيد، فأنه يتحدث مترنما إلى الحبيب "انسكبت النعمة على شفتيك"(ع2) فالله جعل نعمته ذات جاذبية فائقة وذلك لأنه قدمها للبشر بواسطة ربنا يسوع، فهو لم يعلنها بواسطة ملاك أو بواسطة بوق من السماء، ولكنه أعلنها في ربنا يسوع الوديع والمتواضع القلب _ في يسوع ابنه الحبيب الوحيد، وما أعظم وأعجب هذه النعمة التي رآها فيه تلاميذه الذين صحبوه في أيام خدمته على الأرض! فيوحنا الحبيب يخبرنا بان ربنا يسوع _ الله الكلمة _ حل بينهم مملوء نعمة وحقا. . . وأنهم من ملئه قد أخذوا ونعمة فوق نعمة، لقد كانت النعمة الفائضة من شفتيه منسكبة في قلوبهم "مرا مائعا" وكم كانت تلك النعمة ثمينة وغالية لديهم ولا سيما عندما رأوها فيما بعد في ضوء آلامه وموته! فلم يكن ممكنا ان تخرج كلمة واحدة من كلمات النعمة من شفتي الرب لولا علمه السابق بقيمة موته، وكل كلمات النعمة التي خرجت من شفتي الرب تفقد معناها وقيمتها الحقيقية إذا لم تكن _ في تفكيرنا _ مقترنة بمحبته الإلهية التي أظهرها في آلامه وموته لأجلنا. فإذا كان قد قال "مغفورة لك خطاياك" أو "أذهب بسلام" أو "إيمانك قد خلصك" أو "من يؤمن بي فله حياة أبدية" فان هذه كلمات تنشر عبيرا عطريا لموته العجيب، إذ لولا موته ما كان ممكنا ان يفوه بكلمات كهذه لبشر خطاة. ان النعمة المعلنة في إنجيل لوقا إصحاحات 7و10و14و15و18و23 تفوح منها رائحة موته الذكية، وهذه الإصحاحات وغيرها كثير تقطر "مرا مائعا" وهذا ما أدركته العروس المتعلمة من الله وما يجب ان يدركه كل من تتلمذ للمسيح. * * * ان النفس التي تحب المسيح تعتز بكل كلمة من كلماته لأنها أغلى شيء لديها "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى" لأننا لا نستطيع ان نعرفه حق المعرفة إلا بواسطة كلمته، فقد قال له المجد "أنا من البدء ما أكلمكم أيضا به"(يو8: 25) وإذا أردنا ان ننمو في معرفته فعلينا ان نتأمل بكل انتباه في الأناجيل وننعم النظر في كل قطرة من "المر المائع" المنسكب من شفتيه، ولنطل التأمل في كل عمل من أعماله، لان كل ما كأنه المسيح وقتئذ هو كذلك الآن وسيكون كذلك إلى الأبد، وفي دراسة الأناجيل نكون قريبين منه كما كان لخاصته في أيام جسده، ونستطيع ان نعرفه أكثر. ليت ذلك يكون اختبارنا عمليا. * * * ( * ) خميلة الطيب أي الأشجار العطرية الكثيرة. (1) مائعا أي سائلا وله رائحة حلوة Dropping sweet smelling (2) أو ترنيمة الحبيب A song of the Beloved 14-"يداه حلقتان من ذهب مرصعتان بالزبرجد بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق".( 6 ) لقد رأينا كيف ان "رأسه ذهب إبريز"(ع11) وهنا نرى ان يديه حلقتان من ذهب، وفي ع15 نقرأ بان ساقيه "مؤسستان على قاعدتين من إبريز" (أي ذهب نقي) ففي التأمل في رأسه أو يديه أو قدميه نرى فيها مجده الإلهي مضيئا بلمعان باهر، ولكنه مجد إلهي معلن في الإنسان _ الإنسان الكامل ربنا يسوع، فهو له المجد يحمل في رأسه كل أفكار ومقاصد الله بصورة كاملة، ويداه قويتان وتستطيعان ان تتمما كل هذه المقاصد لمجد الله ومسرته، وقدماه ثابتتان وراسختان ولا تستطيع قوة ان تزحزحهما أو تحولهما عن القصد والمشيئة الإلهيين. ويا له من شخص فريد بل يا له من حبيب صار لنا! * * * "يداه حلقتان من ذهب" أنها لتعزية قوية لنا إذ نعلم بان الله قد وضع في يدي المسيح كل مقاصد محبته ونعمته من نحو بركة نفوسنا "الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده"(يو3: 35) لقد أعطاه الآب سلطانا على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل الذين أعطاهم الآب له (يو17: 2) وان كل واحد من خرافه في يده ولذا فلا يمكن ان يهلك (10: 28) لا بل ان بركة إسرائيل وكل الأمم مستقبلا وكل سلطان وقوة الملكوت العتيد _ هذه كلها قد سلمت ليد المسيح، ولذا فهي وان كانت مستقبلة ولكنها بكل يقين ستتم كما لو كانت قد تمت فعلا. * * * يداه. . . "مرصعتان بالزبرجد" ان هذا الوصف التشبيهي يشير بوجه عام إلى كل أعمال يديه. أعمال العناية والنعمة، ففي الذهب والحلقتين والحجارة الكريمة (أي الزبرجد) نرى جمال أعماله ومجدها وكمالها وثباتها. "أعمال يديه أمانة وحق. . . ثابتة مدى الدهر والأبد مصنوعة بالحق والاستقامة"(مز111: 7و8). ان يديه المرصعتين بالزبرجد * ترسمان أمامنا كيف أنه ممسك بزمام أمور وأحوال شعبه بكيفية إلهية مباركة، وان كان كل شيء حولنا في حالة التشويش والفساد حتى المسيحية الاسمية، ولكن من تحمله هاتان اليدان لا بد ان تصلا به إلى المجد الأبدي "الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد"(يو17: 12) نعم ان كل ما تبينه يدا المسيح ثابت وأبدي "على هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"(مت16: 18)، ولا بد ان تعلن هذه الحقيقة في المجد فان المدينة السماوية _ أورشليم المقدسة _ العروس امرأة الخروف، سترى في قياسها الكامل بواسطة "القصبة من ذهب" التي بيد الملاك، فلا يرى حجر واحد ناقصا أو مفقودا (رؤ21) يا لها من بركة وتعزية لنفوسنا إذ نرى أمامنا بناء إلهيا مكونا من حجارة حية وكل حجر موضوعا في مكانه بواسطة هاتين اليدين المرصعتين بالزبرجد. * * * لقد كانت بركة عظمى وفرح للتلاميذ عندما أراهم الرب "يديه" بعد قيامته من بين الأموات. وأننا _ في إنجيل لوقا _ نرى يدي الرب ممتدتين للبشر لخدمة أعوازهم بنعمة غنية، وفي إنجيل يوحنا نرى هاتين اليدين ممسكتين ورافعتين خاصته لله أبيه (يو17) ولا زالت هاتان اليدان مملوءتين من النعمة والبركة كما كانتا عند قيامته، وهو له المجد يريد ان تنشغل قلوبنا دائما بهاتين اليدين اللتين رفعتا للبركة عنده صعوده للسماء (لو24). * * * ( 7 )"بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق" وهذا يحدثنا بكل يقين عن حاسيات ومشاعر الرب الباطنية. ان كلمة "بطن" هنا هي نفس الكلمة المترجمة "أحشاء" في ع4 حيث تقول العروس "أنّت عليه أحشائي" فقد كانت أحشاؤها تئن حنينا إلى عريسها، أما الآن فقد سما تفكير العروس فهي ليست مشغولة بأحشائها هي بل بأحشائه هو. لقد استطاع له المجد ان يقول بروح النبوة "صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي (أي أحشائي)"(مز22: 14) فآلامه كمن حمل دينونة الخطية لا يمكن إدراك عمقها ولكن تلك الآلام هي التي أظهرت عطف أحشائه من نحو الخليقة الساقطة. لقد أظهر الله عطفه بكيفية عجيبة في العهد القديم من نحو شعبه الأثيم "هل أفرايم ابن عزيز لدي أو ولد مسر؟ لأني كلما تكلمت به أذكره بعد ذكرا من أجل ذلك حنّت أحشائي إليه. رحمة أرحمه يقول الرب"(أر31: 20) ولكن في المسيح وحده استطاع الله ان يظهر حنينه وعواطفه الإلهية بكيفية كاملة _ لقد أظهرها في الإنسان المبارك الذي تألم هنا فوق الأرض "هو أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا"(مت8: 17) لقد امتلأ قلبه حنانا عندما رأى الجموع "إذ كانوا منـزعجين منطرحين كغنم لا راعي لهم"(مت9: 36) وتحنن أيضا عندما رأى الجموع إذ قال "إني أشفق على الجمع لان الآن لهم ثلاثة أيام يمكثون معي وليس لهم ما يأكلون"(مر8: 2) وتحنن الرب أيضا على أرملة نايين التي أثكلت في ابنها الوحيد فأقامه وأعاده إليها حيا(لو7: 13-15) وان السامري _ وهو صورة لربنا يسوع _ تحنن إذ رأى الإنسان الذي كان بين حي وميت واعتنى به (لو10: 33) وقد تكلم المسيح بأسلوب جذاب وبديع عن الآب الذي تحنن إذ رأى ابنه الضال راجعا إليه "فركض ووقع على عنقه وقبله"(لو15: 20) ويجب ان نلاحظ في كل هذه الإشارات المتقدمة ان كلمة "تحنن" تعني تحرك الأحشاء، ولنلاحظ أيضا ان حنانه في كل هذه المرات لم يجيء نتيجة لتوسل أو استعطاف من غمرهم هذا الحنان، بل من فيض القلب المليء دائما بالشفقة والحنو. * * * وكم هو مؤثر ان نفكر في الحنان والشفقة الإلهيين اللذين لنا في ابن الله الذي صار إنسانا _ الإنسان الوحيد المبارك، فان أنات وزفرات ودموع ربنا يسوع ترينا فيه إنسانا حقيقيا كاملا، كما ان حنوه وشفقته وعواطفه هي سجاياه الإلهية والسماوية فهو تبارك اسمه _ قد نـزل من السماء ليعلن كل عواطف وحنان قلب الله في عالم الآلام والحزن والموت "والياقوت الأزرق" كما تصفه كلمة الله في مكان آخر بأنه "كذات السماء في النقاوة * " (خر24: 10)، يؤيد هذه الحقيقة، أعني ان حنان الرب وعواطفه لها صفتها السماوية. * * * بطنه "عاج أبيض" لقد عمل سليمان الملك "كرسيا عظيما من عاج . . لم يعمل مثله في جميع الممالك"(1مل10: 18-20) وغنى عن البيان ان عرش الملك له سموه وجلاله، ولكنه في الوقت نفسه عرش الشفقة والحنان والرحمة. تأمل في (مز72: 4و12-14، وأش32: 2و42: 3، 61: 1-3، زك6: 13) فذلك الشخص الفريد الذي سيجلس بعد قليل على عرشه المجيد هو بعينه الذي بكى عند قبر لعازر والذي بكى على أورشليم التي كانت ستشهد صلبه بعد قليل. ان مشاعر الملك وعواطفه الرقيقة مرموزا إليها "بالعاج * الأبيض المغلف بالياقوت الأزرق" نراها واضحة في العرش الذي يجلس عليه الآن، فهو "عرش النعمة" الذي منه تنسكب الرحمة الآن، وفي يوم قادم وقريب سيرى ذلك العرش المجيد الذي كان كرسي سليمان بكل أجزائه رمزا له. "فالذهب الإبريز" في عرش سليمان يرمز إلى المجد الإلهي الذي لربنا يسوع، "والدرجات" تحدثنا عن السمو والرفعة، "والأثنا عشر أسدا" عن القوة والجبروت، أما العرش نفسه فكان مصنوعا من "العاج" فهو عرش ذاك الذي ظهر عطفه وحنانه الإلهيين في اتضاعه وآلامه، وهذا ما يجعل هذا العرش متميزا عن كل العروش الأخرى، وقد عرفت العروس مشاعر عريسها الباطنية وعواطفها ولذا تتحدث عنها وتشيد بها. * * * لقد اختبر الرسول بولس شيئا من حاسيات قلب المسيح وعواطفه حتى استطاع ان يقول للفليبيين "أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح"(في1: 8) كما تمنى ان تكون لهم نفس هذه الحاسيات لذا يحثهم قائلا "ان كانت أحشاء ورأفة فتمموا فرحي. . "(في2: 1و2) كما وعظ الكولوسيين بان يلبسوا "أحشاء رأفات. . "(كو3: 12) وهذا ما يجب ان نتعلمه من المسيح وندرب أنفسنا عليه فتكون لنا روحيا "قصور العاج" التي فيها نغني أناشيد الحمد لمسرة وفرح قلب الحبيب (مز45: 8) ولا يمكن ان تبنى قصور العاج بدون ثمن أو كلفة، ففي طريق الأتضاع والآلام نستطيع ان نكون في تلك القصور الجميلة حيث ننشد ونرنم تسابيح الحمد التي تبهج قلب العريس المبارك. * * * * تجيء بعض الإشارات في كلمة الله إلى الزبرجد، وفيها نرى ان المقاصد الإلهية لا بد ان تتم بالرغم من حالة الفساد التي تسود كل شيء (حزقيال1: 16، 10: 9، دانيال10: 6). * يرمز العاج إلى الألم والموت لان الحصول عليه كان مقترنا بموت كائن حي (الفيل) الذي انتزع منه العاج انتزاعا. 15-"ساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز. طلعته كلبنان فتى كالأرز".( 8 )"ساقاه عمودا رخام" وفي هذا إشارة جلية إلى ثبات واستقرار كل شيء مرتبط بالمسيح، فقد جعل الله كل شيء مرتبط به متميزا بالثبات وعدم التزعزع، أما كل ما هو لآدم ونسله فأنه متزعزع وعديم الثبات، هذا وان ثبات المسيح _ الإنسان الكامل مؤسس على بره الكامل "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الأثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك"(عب1: 8و9) وكلمة "رخام" تشير إلى اللون الأبيض والنقي، وأنه لمن الملذ ان نلاحظ ان اللون الأبيض يلازم الأوصاف التي تصف بها العروس حبيبها "حبيبي أبيض" ثم عيناه "مغسولتان باللبن" وكذلك "السوسن" فأنه ناصع البياض، ثم "العاج الأبيض" و "عمودا الرخام" وهذه كلها توحي بان اللون الأبيض الناصع من مميزات الحبيب المبارك، ففوق جبل التجلي كان "لباسه مبيضا لامعا" حتى أنه لا يقدر قصار على الأرض ان يبيض مثل ذلك، فكل ما هو من الله وللمسيح يتميز بهذا الوصف الجميل وسيظهر ذلك حتى في "العرش العظيم الأبيض". * * * ان مسيح الله القدوس هو البار الوحيد، وكل وعد من الله هو مضمون ومصون فيه، ولا يمكن ان تخيب أو تسقط كلمة واحدة من كلامه. نعم ان ابن الله يسوع المسيح "لم يكن نعم ولا بل قد كان فيه نعم"(2كو1: 19) فليس في المسيح أي شيء من عدم الثبات أو عدم اليقين، فقد تتزعزع كل الكائنات المخلوقة، ولا بد ان تتزعزع، ولكن المسيح ما من المسيح وللمسيح فأنه يدوم في ثبات أبدي، وقد صرنا قابلين فيه "ملكوتا لا يتزعزع" حقا ان ساقيه "عمودا رخام". * * * وعمودا الرخام هاتان "مؤسستان على قاعدتين من إبريز" فكل ما في المسيح ثابت ومستقر لأنه من الله وقائم على أساس البر والمجد الإلهيين، وهذا ما يرمز إليه الإبريز "لان مهما كانت مواعيد الله فهو فيه النعم والآمين لمجد الله بواسطتنا"(2كو1: 20) ان كل ما هو من الله محقق ومضمون في المسيح حتى أنه لا يستطيع ان تؤثر عليه قوة على الأرض أو في الجحيم. والعمودان اللذان أقيما في رواق الهيكل _ ياكين وبوغر (1مل7: 21) يعطياننا فكرة مماثلة تماما لفكرة "عمودي الرخام" فياكين معناه "هو يؤسس أو يثبت" وبوعز معناه "فيه قوتي". * * * ان الإنسان بحسب الجسد لم يستطيع في أي وقت من الأوقات وفي كل التدابير ان يثبت في أي مركز وضعه الله فيه، فلا عجب ان كان الله "لا يرضى بساقي الرجل" (مز147: 10) وتمثال نبوخذ نصر يعطينا فكرة صحيحة مؤيدة لهذه الحقيقة، فقد كان الرأس من ذهب ولكن الإنسان لم يثبت في هذا المركز الممنوح له من الله بل أخذ في الانحدار من الذهب إلى الفضة ثم إلى النحاس والحديد وأخيرا إلى الخزف، أما الملك الحقيقي _ ربنا يسوع المسيح فان "رأسه ذهب إبريز" و"يداه حلقتان من ذهب" وساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين "من إبريز" فالذهب يرى من هامة الرأس إلى باطن القدمين "يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدا وملكها لا يترك لشعب آخر"(دا2: 44) أنه الشخص الوحيد الذي استطاع ويستطيع ان يثبت إلى الأبد كل المشورات الإلهية لمجد الله ولبركة الإنسان. * * * ( 9 )"طلعته كلبنان فتى كالأرز *" وهنا وصف عام لمظهر أو صورة الحبيب، وفيه تعبر العروس عن سمو وعظمة حبيبها، كما تراه بعين إيمانها ومحبتها، ونحن كلما تطلعنا إليه وتفرسنا فيه فأننا نراه ساميا ومجيدا _ نراه "مكللا بالمجد والكرامة" ونستطيع ان نراه في الأناجيل في مواقف وظروف متنوعة في جلال فائق، فنراه كصبي في الناصرة، أو كرجل كامل في الجليل أو في اليهودية _ نراه تارة مع الجموع وتارة يتحدث إلى الأفراد _ نراه قريبا من الجميع _ من الرجال أو من النساء أو الأطفال، نراه في مواجهة الشيطان، كما نراه مع الخطاة البائسين، ومع التلاميذ، ومع الفريسيين ومع الكتبة، مع الناموسيين ومع الكهنة، ومع الأصدقاء ومع الأعداء، مع ملك ومع وال، مع مسلمه يهوذا ومع المؤمنين الضعفاء والساقطين. كان مع كل أولئك في عظمة وجلال إلهيين، ففي الوحدة وبين الجماهير لم يكن أقل ارتفاعا من لبنان أو أقل كرامة من الأرز، كما نرى في سموه كلبنان وكالأرز إشارة إلى القيامة، فسواء كان مع مريم المجدلية أو مع سمعان بطرس أو مع التلميذين السائرين إلى عمواس أو مع التلاميذ مجتمعين معا فسموه وجلاله كانا ظاهرين في كل هذه المواقف، وما أسماه إذ يرى ماشيا في وسط الكنائس! ما أجمل موقفه والصورة التي بها يظهر ذاته لهذه الكنائس! وما أسمى أسلوبه في أجرائه القضاء في وسطها! وهذا ما سيكون عليه إلى الأبد _ سواء كالملك في ملكوته، أو عند تسليمه الملك لله الآب وخضوعه لله في الحالة الأبدية. أنه سيكون سموا فائقا "كلبنان. وكالأرز" وسيكون هو لفرح عروسه فرحا أبديا. * * * * أو طلعته كلبنان سامية كالأرز Excellent as the ceders 16-"حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم "( 10) لقد قادنا الروح القدس فيما سلف للتأمل في جمال شفتي الحبيب "شفتاه سوسن "(ع14) أما هنا يشير إلى "حلقه" ومع وجود صلة وثيقة بين الشفتين والحلق، ولكن يبدو ان هناك فرقا بينهما من الناحية الروحية. ان "حلقه" هو آخر الصفات أو الخصال العشر التي ذكرتها العروس عن حبيبها فتقول "حلقه حلاوة" فان كانت "شفتا العريس" تشيران إلى كلمات النعمة التي انسكبت من شفتي الرب إلى البشر الخطاة والمعوزين فان "حلقه" يرسم أمامنا صورة أخرى _ صورة داخلية أو باطنية أكثر مما للشفتين. والحلق لا يشير إلى كلام الشفتين بل إلى حاسة التذوق أو بالحري إلى الحلاوة التي يتذوقها الفم، فهو يتفق في معناه مع قول العروس آنفا "ثمرته حلوة لحلقي"(ص2: 3) فكان كل ما تكلم به المبارك إلى البشر قد عرف هو أولا قيمته الغالية _ أي قيمة أقوله وتذوق حلاوتها، وهذا ما نراه واضحا وجليا في إنجيل يوحنا بصفة خاصة. ان كل ما تكلم به المسيح للبشر قد سمعه وقبله من الآب، فكان هو أول من ذاق حلاوته وكأنه استطاع ان يقول بروح النبوة "ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي"(مز119: 103) وان كنا نحن بالإيمان نتذوق حلاوة الله ونتلذذ به فكم كانت كلمات الآب كلها حلاوة للابن ، لقد كان المسيح مع الآب منذ الأزل، وكان هو الله "وكان الكلمة الله" ولكنه نـزل من السماء ليصير إنسانا وإذ كان إنسانا على الأرض كان هو في الوقت نفسه "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" والذي استطاع الله بواسطته ان يعلن كل ما في قلبه وفكره للبشر ليعرفوه ويعرفوا أفكار نعمته ومحبته لقد كان هو الله الذي أخذ جسدا وصار إنسانا ليتسنى له بان يتقبل كل أقوال الله ويقدرها كل التقدير ويتلذذ بحلاوتها، ومن ثم يعلنها للبشر ليجدوا هم أيضا لذتهم وشبعهم في حلاوتها "تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني ان شاء أحد ان يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي"(يو7: 16و17) ولزيادة الفائدة نرجو ان يتأمل القارئ العزيز في كلمات الرب (في يو8: 26و28و12: 49و50،15: 15،17: 7و8و11) وغاية الرب وغرضه هو ان تكون لنا شركة معه في كل ما يتلذذ به "كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم"(يو15: 11) "أتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي كاملا فيهم"(يو17: 13). لقد كان المسيح _ الابن الأزلي في حضن الآب منذ الأزل وإلى الأبد _ أي كان في أقرب قرب وصلة بالأب، وإذ جاء في الجسد أصبح في أقرب قرب إلى البشر ليحدثهم بكل ما قاله الآب له "حل بيننا" نعم لقد صار قريبا منا جدا "وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. . . هذا يقبل خطاة ويأكل معهم"(لو15: 1و2) واثنان من تلاميذ يوحنا متكئا في حضن يسوع. فاتكأ ذاك على صدر يسوع"(يو13: 23، 25) ففي المسيح نرى من الناحية الواحدة قربا كاملا من الآب كما نرى فيه من الناحية الأخرى قربا كاملا من البشر، وهذا ما يجعل علاقته بعروسه حلوة وعجيبة، فتستطيع ان تقول "حلقه حلاوة". * * * ان إنجيل يوحنا _ بصفة خاصة _ يعلن مجد ربنا يسوع ابن الله بكيفية جليلة وسامية، ففيه يقول ربنا المبارك "قبل ان يكون إبراهيم أنا كائن"(يو8: 58) أي أنه له المجد هو "يهوه" فلاهوته الكامل معلن في هذا الإنجيل بأبدع وأبسط أسلوب. أنه يعلن أزلية أقنومه المبارك . ولكن هذا الإنجيل نفسه يعلن في مركزه كالوسيط الذي لم يتكلم من نفسه بل بكل ما قاله الآب له، والبقية الإسرائيلية التقية في يوم قادم ستدرك مجده ومجد أبيه، وستكون لهم هذه النعمة إذ يكونون معه وسيكون اسم أبيه مكتوبا على جباههم (رؤ14: 1) وسيتذوقون حلاوة شخصه ومجده ويعرفون ان "حلقه حلاوة" أليس هو كذلك لنا نحن الذين صار لنا مكان أقرب مما سيكون لأولئك؟. * * * "وكله مشتهيات" فإذا ما استطعنا بنعمة الله وبتعليم الروح القدس ان ندرك ونقدر جمال وأمجاد المسيح كما هي معلنة في وصف العروس التشبيهي هذا، فأننا بكل يقين نستطيع ان نقول معها "كله مشتهيات" فكل صفة من صفاته حلوة وتشتهيها النفس المتجددة وتجد فيها لذتها، فليست تنقصه صفة واحدة من صفات الكمال، وكان العروس شعرت بعجزها عن ان تلم بكل أوصافه أو تدرك كل "غنى المسيح الذي لا يستقصى" وكان لسان حالها: فيه تحل كل المشتهيات. كل ما نرغب فيه نجده هناك كل جمال أنما في شخصه المعبود. فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا، كما فيه تحل كل فضائل الناسوت الذي بلا عيب. أنه جميل في اتضاعه، وفي ارتفاعه "كله مشتهيات". * * * "هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم ". هذه هي أول مرة تستعمل فيها العروس كلمة "خليلي"أي صديقي. ان هذه الكلمة تعني صديقي القريب مني جدا، لقد استطاعت قبلا ان تدعوه "حبيبي" حتى وهي في حالة فتورها وتراخيها(ع4و5) ولكنها لم تستطع وقتئذ ان تقول عنه أنه خليلها _ أي صديقها القريب منها، أما الآن فقد صار قلبها متعلقا به، وبالتالي شعرت بقربها منه وقربه إليها لقد ردت نفسها وعواطفها إليه حتى أنه لما سألتها بنات أورشليم عنه لم تتردد أو تتوانى في وصفه بهذه الأوصاف الجميلة، ولا يمكن ان مؤمنا يتأمل جيدا في هذه الصفات المباركة (في الأعداد 10إلى 16 من هذا الإصحاح) دون ان تنهض حاسياته الروحية فيتمتع برد النفس ردا كاملا وصحيحا إلى الحبيب. لست أقصد مجرد قراءة هذه الأعداد ولكن التأمل العميق فيها بكل القلب، فإذا ما شعرنا أننا لسنا متمتعين كما ينبغي بالشركة القلبية مع هذا الحبيب وبقربه منا فلا يليق ان نقنع أو نرضى بهذه الحالة لحظة واحدة بل يجب ان نتفكر فيه ونتأمل في كمالاته ونتفرس في جماله بروح الصلاة لنختبر من جديد حلاوة هذا الصديق _ "المحب الألزق من الأخ". وما أحلى قول العروس "حبيبي . . . وخليلي" هو بشخصه لي لقد كانت العروس تجد لذة في التأمل في صفاته، لكنها تسر أكثر ان تقول بلسان الحال: هذا الذي له كل هذه الصفات هو لي. ان العروش والأكاليل والأمجاد كلها له، وهي للمؤمن في شخصه الكريم، على أنها جميعا ليست هي شخصه، وما قيمتها بدونه؟ ان العواطف المتجددة لا ترى فيها شيئا ذا قيمة بالانفصال عنه تبارك اسمه. بحبك السامي لقد وهبنا كل البركات لكن شخصك لنا أثمن من كل الهبات * * * ومعلم في ربوة وفيه أعجب الصفات وحلقه حلاوة وكله مشتهيات
|